وقفت على ما أتحفني به الشيخ: من نظمه الرائق البديع، وخطه المزري بزهر الربيع، موشحًا بغرر ألفاظه التي لو أعيرت حليها لعطلت قلائد النحور، وأبكار معانيه التي لو قسمت حلاوتها لأعذبت موارد البحور، فسرحت طرفي منها في رياض جلتها سحائب العلوم والحكم، وهب عليها نسيم الفضل والكرم، وابتسمت عنها ثغور المعالي والهمم، ولم أدر وقد حيرتني أصنافها، وبهرتني نعومتها وأوصافها، حتى كستني اهتزازًا وإعجابًا، فأنشأت بيني وبني التماسك سترًا وحجابًا، أدهتني بها نشوة راح؟ أم ازدهتني لها نخوة ارتياح؟ وانتظم عندي منها عقد ثناء وقريض؟ أم قرع سمعي بها غناء "معبد" و"غريض" وكيفما كان فقد حوى رتبة الإعجاز والإبداع، وأصبح نزهة القلوب والأسماع، فما من جارحة [إلا] وهي تود لو كانت أذنًا تلتقط درره وجواهره، أو عينًا تجتلي مطالعه ومناظره أو لسانًا يدرس محاسنه ومفاخره.
وله إلى أبي منصور بن عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي كتابي وأنا أشكو إليك شوقًا لو عالجه الأعرابي لما صبا إلى رمل عالج، أو كابده الخلي لانثنى على كبد ذات حرق ولواعج، وأذم زمانًا يفرق فلا يحسن جمعًا، ويخرق ولا ينوي رقعًا، ويوجع القلوب بتفريق شمل ذوي الوداد، ثم يبخل عليها بما يشفي غليل الصدر والأكباد، قاسي القلب فلا يلين لاستعطاف، جائر الحكم فلا يميل إلى إنصاف، وكم استعدي على صرفه وأستنجد، وأتلظى غيظًا عليه وانشد:
متى وعسى يثني الزمان عنانه ... بعثرة حال والزمان عثور
فتدرك آمال وتقضي مآرب ... وتحدث من بعد الأمور أمور
وكلا، فما على الدهر عتب، ولا له إلى أهله ذنب، وإنما هي أقدار تجري كما شاء مجريها، وتنفذ كالسهام إلى مراميها، فهي تدور بالمكروه والمحبوب، على الحكم المقدور [و] المكتوب، لا على شهوات النفوس، وإرادات القلوب، وإذا أراد الله تعالى أذن في تقريب النازح وتسهيل الصعب الجامح، فيعود الأنس بلقاء الإخوان كأتم ما لم يزل معهودًا، ويجدد للمذاكرة والمؤانسة رسومًا وعهودًا، إنه لقادر عليه، والملي به.
وزار أبا منصور الثعالبي، فكتب إليه أبو منصور بقوله:
لا زال مجدك للسماك رسيلًا ... وعلو جدك بالخلود كفيلا
يا غرة الزمن البهيم إذا غدا ... هذا الورى لزمانهم تحجيلا
يا زائرًا مدت بدائع فضله ... ظلًا علي من الجمال ظليلا
وأتت بصوب جواهر من لفظه ... حتى انتظمن لمفرقي إكليلا
بأبي وغير أبي هلال نوره ... يستعجل التسبيح والتهليلا
نقشت حوافر طرفه في عرصتي ... نقشًا محوت رسومه تقبيلا
ولو استطعت فرشت مسقط خطوه ... بعيون عين لا ترى التكحيلا
ونثرت روحي بعد ما ملكت يدي ... وخررت بين يدي هواه قتيلا
وأبو منصور قريع دهره، وفريد عصره، وله مصنفات كتب في العلم والأدب، تشهد له بأعلى الرتب، وكل ما أحكيه من ألفاظ أهل العصر غير منسوب إلى قائله، فمستخرج من تأليفه، مأخوذ من تصنيفه، وفيه يقول [أبوالفتح] البستي:
قلبي رهين بنيسابور عند أخ ... ما مثله حين تستقرى البلاد أخ
له صحائف أخلاق مهذبة ... منها الحجى والعلا والظرف ينتسخ
ومن مليح شعر [أبي الفضل] الميكالي قوله:
أقول لشادن في الحسن فرد ... يصيد بلحظه قلب الكمي
ملكت الحسن أجمع في نظام ... فأد زكاة منظرك البهي
وذلك أن تجود لمستهام ... برشف من مقبلك الشهي
فقال أبو حنيفة لي إمام ... وعندي لا زكاة على الصبي
[فإن تك مالكي الرأي أو من ... يرى رأي الإمام الشافعي]
[فلا تك طالبًا مني زكاة ... فإخراج الزكاة على الولي]
ومن أشعاره الفقهية قوله:
بنفسي غزال صار للحسن قبلة ... تحج من الفج العميق وتقصد
دعاني الهوى فيه فلبيت طائعًا ... وأهللت بالإخلاص والسعي يشهد
فطرفي بالتسهيد والدمع قارن ... وقلبي فيه بالصبابة مفرد
وقال أبو الفتح كشاجم:
فديت زائرة في العيد واصلة ... والهجر في غفلة عن ذلك الخبر
فلم يزل خدها ركنًا أطوف به ... والخال في خدها في موضع الحجر
1 / 37