حكى صدرَ خودٍ من بني الرُّومِ هزَّها ... سماعٌ فقدَّتْ عنه ثوبًا ممسكًا
وقال في الخشخاش:
وخشخاشٍ كأنّا منه نفري ... قميصَ زبرجدٍ على جسمِ درِّ
كأقداحٍ من البلُّورِ صينتْ ... بأغشيةٍ من الدِّيباجِ خضر
ومن ألفاظهم في هذا النحو: إذا ورد الورد، صدر البرد، مرحبًا بأشرف الزهر، في أظرف الدهر، كأنه عين النرجس عين، وورقه ورق. النرجس نزهة الطرف وظرف الظرف، شقائق كأصداغ المسك على الوجنات المورّدة، كأن الشقيق جام أحمر ملئت قرارته بمسك أذفر.
ولهم في تشبيه الربيع بمحاسن الأشراف: غيث الربيع مشبه بخلقك، وزهره مواز لبشرك، كأنما استعار حلله من شمائلك وشيمك، وحليه من سجيتك، واقتبس أنواره من محاسن أيامك، وأمطاره من جودك وأنعامك، قدم الربيع منتسبًا إلى خلقك، مكتسبًا محاسنه من طبعك، متوشحًا بأنوار لفظك، متوضحًا بآثار يدك. أنا في بستان كأنه من شمائلك سرق، ومن خلقك خلق، وقد قابلتني أشجار تتميل فتذكر ترنح الأحباب، إذا تداولتهم أيدي الشراب.
ومن ظريف أخبار القيان: اجتمع أربعة عشاق لقينةٍ، وكلهم يوري عن صاحبه بسره، ويطوي دونه خبره ويومئ إليها بحاجته، ويناجيها بلحظته، وكان أحدهم غائبًا فقدم، والآخر مقيمًا قد عزم على السفر، والثالث قد سلفت أيامه، والرابع مستأنفة مودته، فضحكت بعينها إلى الأول، وبكت إلى الثاني، وآيست الثالث، وأطعمت الرابع. واقترح كل واحد منهم ما يشاكل بثه وشأنه، فأجابته، فقال القادم: جعلت فداك أتحسنين:
ومن ينأ عن دار الهوى يُكثرُ البكا ... وقولًا: لعلِّي أو عسى ويكون
وما اخترتُ نأيَ الدّار عنكِ لسلوةٍ ... ولكنْ مقادير لهنَّ شجونُ
فقالت أحسنه، وما أقيم لحنه، وقد كان مطارحه لي لا يخليه من عقيب يقرنه به، أنا به أحذق، ثم غنت:
وما زلتُ مذْ شطَّت بكَ الدَّار باكيًا ... أؤملُ منك العطفَ حين تؤوبُ
فأضعفت ما بي حين أُبتَ وزدتني ... سقامًا وإعراضًا وأنت قريبُ
فقال الظاعن: جعلت فداكِ، أتحسنين:
أوفَ الفراقُ فأعلني جزعًا ... ودعي العتابَ فإننا سفرُ
إن المحبَّ يصدُّ مقتربًا ... فإذا تباعد شفَّهُ الذّكرُ
فقالت: نعم، وأحسن من شكله في إيقاعه:
لأقيمنَّ مأتمًا من قريبِ ... ليس بعد الفراقِ غيرُ النحيب
ربِّ ما أوجعَ النَّوى للقلوب ... ثم لاسيّما فراقُ الحبيب
فقال السالف [جعلت فداكِ] أتحسنين:
كنّا نعاتبكم ليالي عودكمْ ... حلو المذاقِ وفيكم مستعتبُ
فالآن حين بدا التنكُّر منكم ... ذهب العتابُ وليس عنكم مذهب
فقالت: لا، ولكن أحسن منه في معناه [حيث أقول]:
وصلتكَ لمَّا كانَ ودُكَ خالصًا ... وأعرضتُ لما صرتَ نهبًا مقسما
ولن يلبث الحوضُ الجديدُ بناؤهُ ... على كثرة الوُرَّاد أن يتهدما
فقال المستأنف: أتحسنين [جعلت فداكِ] أن تغني:
إني لأعظمُ أنْ أفوهَ بحاجتي ... فإذا قرأتِ صحيفتي فتفهَّمي
وعليكِ عهد الله إن نبأتهِ ... أحدًا وإن آذنتِهِ بتكلُّم
فقالت: نعم قدِّمت قبلك، ومن غناء صاحبه:
لعمركَ ما استودعتُ سرّي وسرِّها ... سوانا حذارًا أن تذيعَ السَّرائر
ولا خاطبتها مقلتاي بنظرةٍ ... فتعلم نجوانا العيون النواظرُ
ولكن جعلتُ الوهمَ بيني وبينها ... رسولًا فأدَّى ما تجنُّ الضّمائر
أكاتمُ ما في القلبِ بقيا على الهوى ... مخافةَ أن يغرى بذكرك ذاكرُ
فتفرقوا وكلّهم قد أومأ بحاجته، وأجابته بجوابه.
وكتب البديع إلى أبي عامر عدنان بن محمد الضبي يعزيه عن وفاة بعض أقاربه:
إذا ما الدَّهرُ جرّ على أناسٍ ... كلاكلهُ أناخَ بآخرينا
فقل للشامتينَ بنا: أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
1 / 16