قال: فبينا نحن كذلك إذ دخل الحاجب، فقال: عبَّاسٌ بالباب! فقال: ايذن له! فدخل، فقال: ياعبَّاسُ، تسرقُ معاني الشعر وتدَّعيه. فقال: ماسبقني إليه أحدٌ. فقال: هذا الأصمعي يحكيه عن العرب والعجم، ثمّ قال: ياغلام، ادفع الجائزة إلى الأصمعي! فلَّما خرجنا قال العبَّاس: كذبتني وأبطلت جائزتي! فقلت: أتذكر يوم كذا؟ ثمّ أنشأتُ أقول " من البسيط ":
إذا وترت أمرءًا فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لايحصدُ به عنبا
قال: وكان الأصمعي يكثر من إنشاد " من الطويل ":
فإن تجمع الأيام بيني وبينها ... بذي الرمثِ صيفًا مثل صيفي ومربعي
شددتُ بأعناق النوى بعد هذه ... مرائر إن جاذبتها لم تقطع
وذكر بإسناده عن أبي هلال الراسبي عن النبي صلى الله عليه وسل: سيَّدُ إدام أهل الجنة اللحم وسيّد ريحان أهل الجنة الفاغية. قال الأصمعي: الفاغية نور الحناء.
وقال: قال عليّ بن أبي طالب ﵁ " من الهزج ":
لاتصحب أخا الجهل ... وإياكَ وإياهُ
فكم من جاهلٍ آذى ... حليمًا حين آخاهُ
يُقاسُ المرءُ بالمرء ... إذا ماهو ماشاهُ
وللشيْ على الشيء ... مقاييسٌ وأشباهُ
وقال عليّ ﵇ على المنبر: ماأصبتُ من دنياكم هذه - أو قال: من فنئكم - غير هذه القارورة - يريد قارورة الغالية - أهداها إليَّ دُهقانٌ - قال: فرفع الدال - من دهاقين الشأم ورمُاَّنا أهدي إليّ من رُمَّان خلوان.
قال: ولقي عمر بن الخطاب رجلًا بطرف الحرة فقال له: ما أسمك؟ قال: طارق. قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب. قال: ممن؟ قال: من الحرقة. قال: فأين منزلك؟ قال: بحرة النار. قال: بأيّها؟ قال: بذات لظى. قال: أدرك أهلك، فقد أحترقوا! فرجع إلى أهله فوجدهم قد أحترقوا. - وقال: أتيتُ بعض الأعراب وقد مات سيَّدٌ لهم وإذا بعضهم يقول " من الكامل ":
فلئن بكيناهُ فحُقَّ له البكا ... ولئن تركناهُ فللكبرِ
فلمثله جرت العيون دمًا ... ولمثله جمدت فما تجري
قال وكان بالبصرة أعرابيّ من بني تميم يُطفل على الناس، فعاتبته على ذلك، فقال: والله ما بنيت المنازل إلا لتدخل، ولاوضع الطعامُ إلا ليؤكل، وما قدمت هدية فأتوقع رسولًا، وما أكره أن أكون ثقيلًا على من أراه شحيحًا بخيلًا وأتقحم عليه مستأنسًا وأضحك إن رأيته عابسًا وآكل برغمه وأدعه بغمه، فما أعدَّ للَّهوات طعام أطيبُ من طعام لاتنفق عليه درهمًا ولا تعني إليه خادمًا! ثمّ أنشد " من الخفيف ":
كلُّ يومٍ أدورُ في عرصة الحيّ ... أشمُّ القُتارَ شمَّ الذئاب
فإذا ما رأيتُ آثار عُرسٍ ... وختانٍ أو مجمع الأصحاب
لم أرَوَّعْ دون التقحُّم لا أر ... هبُ دفعًا ونُكرةَ البَوَّاب
ًمستهينًا بما هجمتُ عليه غير مستأذنٍ ولاهيَّابِ
فتراني ألفُ بالرغم منه ... كُلَّ ما قدَّموه لفَ العقاب
ذاك أدنى من التكلف والغر ... م وغيظ البقال والقصاب
ولد الأصمعي سنة اثنتين - وقيل: ثلاثٍ - وعشرين ومائة، ومات سنة ثلاث عشرة - وقيل: أربع عشرة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: ست عشرة - ومائتين.
وقال أبو العالية يرثيه " من البسيط ":
لله درُّ بنات الدهر إذ فجعت ... بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا
عش مابدا لك في الدنيا ترى ... في الناس منه ولامن علمه خلفا
آخر أخبار الأصمعي وبه تمام الجزء الثاني
في أبتداء أمر البصرة ونزول المسلمين فيها
1 / 62