إن المطية لايلذ ركوبها ... حتى تذلل بالزمام وتركب
والحب ليس بنافع أربابه ... ما لم يؤلف في النظام ويثقب
فضحك وقال: ياغلام، ادفع ثمنها لمولاها! وأمر لها بمائة ألف درهم في خاصة نفسها. - وقال: حججت سنة حج هارون وكانت سنة قحطة، فرأيت على قارعة الطريق جارية حسنة الوجه قد أخرجت كفا كأنها لسان ظبي وهي تقول " من الخفيف ":
طحطحتنا قوارع الأعوام ... وبرانا تقلب الأيام
واتيناكم نمد أكفا ... نبتغي بذلكم ونيل الطعام
فاطلبوا الأجر والمعونة فينا ... أيها الزائرون بيت الحرام
قال: فجئت بها إلى هارون فملأ صحفة لها دنانير وزودها طعامًا.
قال: وقال لي الرشيد: أتعرف للعرب اعتذارًا وندما؟ دع أمر النابغة فإنه يحتج ويعتذر. فقلت: ما أعرف إلا بشر بن أبي خازم الأسدي، فإنه هجا أوس بن حارثة بن لام فأسره بعد ذلك وأراد قتله، فقالت له أمه وكانت ذات رأي: اذكر مدحه أباك! فعفا عنه، فقال بشر " من الطويل ":
إني على ماكان مني لنادمٌ ... وإني إلى أوس بن لام لتائب
وإني إلى أوس ليقبل توبتي ... ويعرف ودي ما حييت لراغب
فهب لي حياتي والحياة لقائم ... بشكرك فيها خيرُ ماأنت واهب
سأمحو بمدح فيك إذ أنا صادقٌ ... كتاب هجاه فيك إذ أنا كاذب
قال: وكان في البصرة فتى ظريف يغشاه فتيان البصرة يتحدثون عنده، وكان في كوخ من قصب، فشربوا يوما عنده، فقال بعضهم: ألا نبني لك دارًا؟ فقال أحدهم: عليّ الآجر! وقال الآخر: علي الجص! وقال الآخر: عليَّ البناء! قال: فصير كوخه قصرا في ساعة بالقول، فلما طال ذلك عليه قال " من الوافر ":
لنا كوخ يهدم كل يوم ... ويبنى ثم يصبح جذم خص
إذا مادارت الأقداح قالوا ... غدا يبنى بآجر وجص
وكيف يشيد البنيان قوم ... يزجون الشتاء بغير قمص
قال: فحدثت به الرشيد، فضحك وقال: ولكنا نبني لك قصرا. ثم أمر لي بألفي دينار.
وقال: سمعت الرشيد يقول: قلب العاشق عليه مع معشوقه، فقلت: هذا والله، ياأمير المؤمنين، أحسن من قول عروة بن حزام العذري لعفراء " من الطوبل ":
أراني تعروني لذكراك روعة ... لها بين جلدي والهظام دبيب
وأصرف عن ﴿ايي الذي كنت أرتئي ... ويعزب عني ذكره ويغيب
ويضمر قلبي غدرها ويعينها ... عليَّ فما لي في الفؤاد نصيب
فقال الرشيد: من قال هذا وهما فإني أقوله علما. ولله درك، يا أصمعي! فإني أجد عندك ما يضل عن العلماء. - قال الصولي: أخذه العباس بن ألحنف بل غيره فقال " من الطويل ":
يهيم بحران الجزيبرة قلبه ... وفيها غزال فاتر اللحظ ساحره
يؤازره قلبي عليَّ وليس لي ... يدان بمن قلبي عليَّ يؤازره
فأخذه سهل بن هارون فقال " من البسيط ":
أعان طرفي على جسمي وأعضائي ... بنظرة وقفت جسمي على دائي
وكنت غرًا بما تجني عليَّ يدي ... لا علم لي أنَّ بعضي بعض أعدائي
وقال البحتري " من البسيط ":
ولستُ أعجبُ من عصيان قلبك لي ... يومًا إذا كان قلبي فيك يعصيني
وأشار ابن الأحنف إلى هذا فقال " من السريع ":
قلبي إلى ماضرني داع ... يُكثرُ أحزاني وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدُوّي بين أضلاعي
قال: وكان الرشيد يتمثل بهذين البيتين " من المنسرح ":
أكني بغير أسمها وقد علم الله ... خفيات كلّ مكتتم
مخافة الكاشح المفتش أن ... يُظهر فينا عوائر الكلم
1 / 52