حين ودعني «أبو سلمان» على بوابة الجامعة، وكنت أبري قلم رصاص بسكين صغيرة جزينية، قال مشوقا: «كن الأول في صفك، تحصل على وظيفة كبرى متى كبرت.» ثم هدد، فزاد: «إن لم تكن الأول في صفك، شمت بنا وبك أعداؤنا بنو ...» ولمح زمرة من أشقياء التلامذة البيروتيين يتغامزون علينا، ويتضاحكون، فصاح بصوت مخيف: «من لا تقوى عليه بالكف عاجله بالعصا ، وإذا تكاثروا عليك، فالسكين الذي تبري به القلم في وسعك أن تقطع به الوريد»، وغابت عني «الحماية» حين غيب منعطف الطريق تلك العمامة البيضاء، وهدأت تلك الزمرة حتى تلاشت أصوات أجراس «ذئبة»، فمشي إلي منهم فتى في يمينه سوط، وهو اليوم صديق لي حميم، وطرح علي ذلك السؤال العظيم، الذي يتلجلج على لسان البيروتيين متى أرادوا التهكم من جسمي: حضرة الشيخ، من أي ضيعة؟ ... تملقني تأدب ذلك الفتى، فأجبته: إني الشيخ فلان من بعقلين - أمير الضياع. قال: ولماذا لا ينبت للخنازير أجنحة؟ أجبت: لا أدري. فشتمني، فضربت سوطه برأسي ضربة خضبت يده بدمي، ففر الجبان، وثبت في ساعة العراك صريعا على الأرض.
ما أمر ذلك العام الأول في كلية بيروت، وما كان أوجع التحقير في ندائهم: «يا جبلي»، وما آلم ضروب الذل والقساوة التي سحقت نفسي. «يا جبلي!» عبارة تهز حتى اليوم كياني؛ لما رافقها من الهزء والتهكم والسخرية. فكم من مرة - وأنا منذ طفولتي كثير أحلام اليقظة - فررت إلى عالم الخيالات المؤنس المخدر من مظالم الحياة الواعية، فأقنعت نفسي أن هزة زلزلت جبل صنين، فقلبته على بيروت فطمس كل من فيها. أجلس اليوم ونفسي كئيبة، أتحسر في غربتي، إني بعيد عن الكثير من بهجات الحياة، وأزهى ما في الحياة من بهجة في نظري اليوم «بيروت». حقا، إن الحياة تسير على سنة لا تتغير، وهذه السنة هي التغير.
وفجأة، تفجر في صدري بركان لم أدر بوجوده، وانبثقت من جسدي شجاعة لا أعلم مصدرها، فانقلبت من فتى خجول، جبان، معتزل، إلى شرس، خشن، بطاش، حتى لقد دعيت لبدغنتي
1 «سعيد الانكشاري».»
قاطعت المؤلف متبرما قائلا: قص علي شيئا من حياتك الأدبية، وعفا الله عن بطولتك المدرسية. قال - بل اندفع، بل انقض علي - محدثا: كانت حياتي الأدبية في قصرها وجمالها شبه غمزة حسناء، وكان صامت وعدي بالاستمرار والإجادة كاذبا، كأكثر وعود الحسان. فأول كلماتي التي سحرتني رؤيتها مطبوعة، مقالة كتبت في السادسة عشرة من عمري، عنوانها «رياضياتنا ورياضياتهم»، أرسلتها إلى «البرق» ذات يوم خميس بتوقيع مستعار «حماد»، وقد كاد يغمى علي إذ جاء يوم الإثنين، فإذا بالمقالة افتتاحية بصدر «البرق»، ومنذ ذلك الحين، كثرت مقالاتي في صحف بيروت ودمشق، وفي بعض مجلات مصر، وأكثرها موقع ب «حماد» و«بشار»، ويسرني أنه قام في بيروت من يستعمل هذين التوقيعين. لذلك يسهل علي أن ألصق بهم جريمة مقالات ذلك العهد.
إلى أن كانت «لولا المحامي» - «رواية تمثيلية عصرية»، كما أعلنت عنها برامج الحفلات في عشرات المدن والقرى، إذ مثلت في العراق وسورية ولبنان وأميركا الجنوبية، وربما تكون قد مثلت في أميركا الشمالية. ولقد مدحتها الجرائد بمقالات ضافية، كتبتها أو استكتبتها، وبيننا وبين الصحافة صداقة قديمة، فنستعلنهم ولا ندفع، ويستكتبوننا ولا يدفعون، وربما مات من بني تقي الدين من لا يملك ذراع أرض يتمدد فيها، ولكن لم يمت منهم بعد من لم يملك حقلا في جريدة، يتمدد فيه مغمورا بعبارات مديح مزهرة.
ليس لي أن أبحث في «لولا المحامي»، وهي - ولك أن تقول فيها ما تريد - جهد مدرسي لتلميذ عمره 22 سنة، ولكنني أريد أن أتساءل أي جهد في سوريا ولبنان خلال عام 1923، بقي على هذه ال 14 سنة، إلا «لولا المحامي» التي لا تزال تمثل، وأريد أن أستدل من بقائها حية حتى اليوم أنها - على كثرة مواطن الضعف فيها - عاشت بسبب أنها جهد رئيسي، وأن الجهود الضعيفة المبعثرة هي جهود صحفية لا تعمر - يا أيها المتأدب، عن «المقالة» فاجنحن، إنها لإسفنجة معصورة. - وما الذي أوحى «لولا المحامي» يا أستاذ؟ - الذي أوحى «لولا المحامي»، هو الذي أوحى «نخب العدو». - يعني؟ - حب الظهور. وإن كانت الأولى إذا قيست بالثانية ... - فأرة إزاء جبل؟! - بل كوخ إزاء قصر. في وسعي أن أقول لك إنني درامائي بالفطرة، تغرد المشاهد أمام عيني، وتغمس المكالمات في أذني على غير علم مني، وفي مقدرتي أيضا أن أدعي وأتدلل بكثرة معلوماتي، وسعة دراستي في الفن التمثيلي، وأزركش عباراتي بالاستشهادات البراقة، ولكنني أصارحك - ولا يهمني ما تستنتج - أن السبب العاجل الذي أوحى «لولا المحامي» و«نخب العدو » هو حب الظهور. أستدرك فأقول: الحاجة، وحب الظهور. أما الحاجة؛ فلأنه أعوزتنا الروايات التمثيلية في أيام التلمذة، فاضطررت إلى تأليف «لولا المحامي»، وشجعني نجاحها الغريب على إتباعها بأختها «قضي الأمر»، وقد فاقتها نجاحا،
2
وها أنا أجد نفسي بعد اثني عشر عاما من غيابي عن لبنان، أكاد أن أصبح نكرة، فإن ذكرت صحيفة نبأ تمثيل «لولا المحامي»، شفعت كلامها بأن مؤلفها هو ابن فلان، أو أخو فلان. أرجو أن لا تتهمني بالقحة إذا أنا آثرت الصدق، وتنعتني بأني لست بالروائي الملهم، فلئن كنت ممن يحبون المقالات تتبرج بالاستشهادات الإفرنجية ...
قلت مقاطعا: وما الخطأ بالاستشهادات الإفرنجية؟ - أقوال الناس كشهود الزور، يمكنك أن تستنطقهم القول الذي تريد؛ فإذا أحببت مثلا أن تثبت أن السياسة هي موضوع شعري، لجاء في متناولك عشرة أعلام يقولون إن السياسة توحي الشعر، وعشرة في أهمية منزلة الأول ينكرون أن السياسة توحي الشعر، إذن فما الفائدة من الاستشهاد؟ ثم إن في كثرة دلف أقوال الغربيين إلى كتاباتنا اعترافا منا بضعفنا، كأن الحقيقة لا تكون مقنعة إلا إذا نطق بها ألكسندر طلبنوخسكي الروسي أو جون ج. م. ز. جونسون الإنكليزي، بل كأن الكاتب يقول للقارئ: «أنا رجع وضيع، وربما أكون كاذبا، فلا تصدقني، بل صدق فلانا، وهذا قوله.» وهل من الواجب أن أزيد أن الاستشهاد صار «تدللا من الكاتب بسعة اطلاعه.»
অজানা পৃষ্ঠা