فصل في ذكر جبل هنتاتة
وعملنا على الصعود إلى الجبل المطل عليها، والجارح المرفرف على دراجها مقتصرين على حدود هنتاتة، عنصر الدعوة، وأولياء الدولة المرينية، وحلفاء الطاعة المخصوصين برعي الجوار، والاستماتة من دون الحرمة، وشد عروة الوفاء، وسد الخلّة، واستحقاق لشُّفوف على غيرهم والمزية، إذ كان ذلك أقوى بواعث الوجهة، وأخلص مقاصد الرحلة.
وقدمت بين يدي وصولي إلى مراكش، المخاطبة إلى عميد تلك البقعة، وشاه تلك الرقعة، صدر هذه الحدود القصوى، المتميز بالرجاحة والرأي والسياسة، المتفق فيه على إفاضة العدل، وكف اليد، والتجافي عن مال الجباية، والمستأثر بحمد الجمهور من الرعية، وحب أولي العفاف والخيرية، إلى النُّبْل الذي لا يطيش نَبْلُه، والإدراك الذي لا يُفَلُّ حدُّه، والدهاء الذي لا يُسبَر غوره، والمعروف الذي لا يتجاوز محالَّ الضرورة حكمته، عامر بن محمد بن علي:
تقول ليَ الأظعان والشوق في الحشا ... له الحكم يمضي بين ناه وآمر
إذا جبل التوحيد أصبحت فارعًا ... فخيم قرير العين في دار عامر
وَزُرْ تربها المعصوم إن مزارها ... هو الحجّ يمضي نحوه كل ضامِر
سنلقى بمثوى عامر بن محمد ... ثغور الأماني من ثنايا البشائر
ولله ما تبلوه من سعد وجهة ... ولله ما تلقاه من يٌمن طائر
وتستعمل الأمثال في الدهر منكما ... بخير مَزُور أو بأغبط زائر
لم يكن همي، أبقاك الله، مع فراغ البال، وإسعاف الآمال، ومساعدة الأيام والليال، إذ الشمل جميع، والزمن كله ربيع، والدهر مطيع سميع، إلا زيارتك في جبلك الذي يعصم من الطوفان، ويواصل أمنه بين النوم والأجفان، وأن أرى الأفق الذي طلعت منه الهداية، وكانت إليه العودة ومنه البداية. فلما حُمَّ الواقع) وعجز عن خرق الدولة الأندلسية الراقع (وأصبحت ديار الأندلس وهي البلاقع، وحسنت من استدعائك إياي المواقع، قوي العزم وإن لم يكن ضعيفًا، وعرضت على نفسي السفر بسببك فألفيته خفيفًا، والتمست الإذن حتى لا ترى في قبلة السدادة تحريفًا، واستقبلتك بصدر مشروح، وزنْد العزم مقدوح، والله يحقق السول، ويسهل بمثوى الأماثل المثول، ويهيئ من قبيل هنتاتة القبول بفضله.
فأكرم الوفادة، وأطرأ بين يدي الإمارة، واستدعي من محل سكناه بمراكش إلى دار الكرامة، وشرك في الطعام نبهاء الدولة وعلية الخاصة. وأطرف من استجلاء منزله بقرة العين، انفساح خطة، والتفاف شجرة، وجرية ماء، واستبحار بركة. واستكثر من كل طرفة، ونقل من جلسة إلى جلسة، وحرص على تتميم البر بكل حيلة.
وفي يوم الاثنين المتصل بيوم القدوم، توجهنا إلى الجبل في كنف أصحابه تحت إغراء بره، وفي مركب قرة عينه، فخرجنا نستقبل بين يديه السهل، ونساير الجهة، ونشاهد الآثار، ونتخطى المعاهد، ونَنْشَق النسيم البليل القريب العهد بمادة الثلج وعنصر البرد، ولما بلغنا درج الجبل، وانتحينا طريقه من السفح، وهي تركب ضفة الوادي الملتف بعادي شجر الحور والطَرْفاء وشجر الخلاف والدردار، وأمعنا) و(، وتسمو عن جانبها الجبال الشم، والشعبات التي تزلُّ بها العُصْم، وتفضي دروبه إلى أقوار فسيحة، وأجواء رحيبة، يكتنفها العمران، ويموج بها السنبل.
1 / 1
ولما كدنا أن نختم عدد نُوَب المجاز، ونأتي على عَنَتِه، تلقتنا الخيل راكضة أمام اليعسوب المتبوع عبد العزيز بن محمد الهنتاتي، صنوه وحافظ سيقته، وقسيمه في قعساء عزته، الحسن الوجه، الراجح الوقار، النبيه المركب، الملوكي البزة، الظاهر الحياء، المحكِّم الوَخْط إيثارًا للحشمة، واستكثارًا من مواد التجلة على الفَنَاء والجدَة. فرَّحب وأسْهَل، وارتاح واغتبط، وألطف وقدَّم. وصعدنا الجبل إلى حلة سكناه، المستندة إلى سفح الطَّوْد، وقد هيأ ببعض السهل الموطأ للاعتمار بين يدينا من المضارب كل سامي العماد، بعيد الطُّنُب، سوّي القامة، مقدَّر التفاصيل، بديع النقش والصنعة، ظاهر الجدة، مصون عن البِذْلَة، يظلل من مراتب الوطاء الرفيع، ولحف الحرر ومساند الوشي، وانطاع مزعفر الجلد ما تضيق عنه القصور المحجَّبةِ والأبهاء المنضدة. ولم يكد يقر القرار، ولا تنزع الخِفاف، حتى غمر من الطعام البحر، وطما الموج، ووقع البَهْت، وأُمِّل الطَّحْو، ما بين قصاع الشيزي أفعمها الثُرُد، وهيل بها السمن، وتراكبت عليها لِسمَان الحُملان الأعجاز، وأخونة تنوء بالعصبة أولى القوة، غاصة من الآنية بالمُذْهَبِ والمُحْكَم، مُهْدِيةً كل مختلف الشكل، لذيذ الطعم، مُهانٍ فيه عزيز التابل، محترم عنده سيدة الأحامرة الثلاثة إلى السمك الرضراض والدجاج فاضل أصناف الطيَّار، ثم تتلوها صحون نحاسية تشتمل على طعام خاص من الطير والكُبَّاب واللقالق، يقع منها بعد الفراغ إلمام ذلك الرئيس في نفر من خاصته بما يدل على اختصاص ذلك بنفسه. ويتلو ذلك من أصناف الحلواء بين مُسْتَبْطَن للباب البُر، ومعالج بالقَلْو، وأطباق مُدَّخر الفاكهة وأوعية العود المحكم الخلَق، المشتملة على مُجاج الشهد. وقد قام السماط من خدام وأساودة أخذتهم الآداب وهذبتهم الدُّربة، فخفَّت منهم الحركة وسكنت الأصوات، وانشمرت الأذيال. وقد اعتمَّ من الآنية النحاسية للوضوء والوقود كل ثمين القيمة، فاضل أجناسه في الطيب والأحكام والفخامة.
ولم يكد يفرغ من الأكل إلا وقد جن الليل، وتلاحق من الطعام السيل، مربيًا على ما تقدم بالروية وانفساح زمن الاحتفال، وتفنن أصناف الحلواء، وتعدَّى عسليّها إلى السكر، وكان السَّمر والمجالسة في كنف لألاء الشموع الضحاكة فوق المنصات النحاسية، والأتوار اللاطونية فاستعيد الكثير من تاريخ القطر وسيره، وخبر لجأ السلطان المقدس أمير المسلمين أبي الحسن إلى قنتة، والتحرم بمنبع وعز جواره على تفئه هيض جناحه، وَتَبرّى أثيره عميد العساكر منه، وإطراق العيون عند نجدته، وتصامم المسامع عند هاء استغاثته، وقد خَذل النصير، وزلت الأقدام، وساءت الظنون، وما كان من إجابة هذا النَّدْب عبد العزيز لندائه، والتبجح بمنعة جبله، ووفور عدته، وأصيل وفائه، واستصحابه إلى مقر أهله ومفزع ولده، ودفتعه عنه بنفسه وقبيله، ورضاه بتغير ما تناله الأيدي بالسهل من نعمته، فعادت قاعًا صفصفًا بمرأى من عينه، فعاثت فيها ألسنة النار بأرض البوار عن طيب من نفسه حتى لكادت الكرة أن تتاح، والدولة أن تدول، والملك أن يثب، والعثرة أن يقال لها لعًا. لولا طارق الأجل الدى فَصَل الخطة وأصْمت الدعوة، ورفع المنازعة. فتوفاه الله بين السحر والنحر، والأنف والعين، واستأمن من بعده لمن كان خلص إليه من خدامه، وانحدر طوعًا بين يدي سريره، وأبقى محل وفاته مرفَّهًا عن الابتذال بالسكنى، مفترشًا بالحصباء، مقصودًا بالابتهال والدعاء فتخلُفُها أي منقبة شَمَّاء، ومأثرة بلغت ذوائبها أعنان السماء، ويدًا على الخلق بيضاء.
1 / 2
ومن الغد كان التوجه إلى ذلك المحل المبارك، فاقتحمنا وعرًا نزل فيه الذُّر، ولا يسلكه مع الحلم الطيف. وتسنَّمنا شعابًا تعجز عنها العُصْم، وتجاوزنا مهاوي مدت فيها أسراط من الخشب ترتفع عند الضرورة الفادحة، فتقطع عمن وراءها الآمال، إلى أن أفضينا ولم نكد إلى المحل المقصود وهي دار قوراء نبيهة البنية بالنسبة إلى جنسها ... ساذجة بادية ملطخة الجدران بالطين الأحمر، متقابلة الأشكال بيوتها، لاطية السقف غير مهذبة الخشب، بأعلاها غرف من جنسها، يدور بداخلها برطال مستعمل على أرجل متخذة من اللبن، والحجر مُلبَّس بالطين، والبيت حيث متوفى السلطان مفترش بالحصباء، وقد ترك فيه دائرة كالقصعة تباشر الثرى، وتمكن من تربته من يقصد شفاء المرضى وكحل العيون المرهى، إذ كان ﵀ آخر ملوك العدل نشأة، لم تعرف الخبائث، ولا آثرت الملاذ، مُغْنِيًا في بِرِّ والديه مصرِّفًا في انتساخ الذكر الحكيم يمني يديه، محافظًا على الصلاة قيُّومًا عليها بالليل، كثير الصدقة والصوم، مجالسًا للعلماء، مستكشفًا أحوال الرعايا، حانيًا على الضعفاء، معملًا في سبيل الله بيض الظُبا، صابرًا على اللأواء، محتسبًا في البلوى، مستشعرًا شعار التقوى، ألحقه الله بالرفيق الأعلى. وبإِزائه مصراع باب عسلت عليه جثته الزكية، لا تتمالك العين أن تنتثر سلوك دموعها، ولا القلوب أن تأخذ الحسرة بكظمها، لما عضَّ ذلك الملك الحُلاحِل من الخطب الذي عوضه من نضرة النعيم، ووجوه الغَرانِقَة الغر، والتوكؤ على النمارق المصفوفة، والزرابي المبثوثة، في المتبوأ الكريم، واستنقال طلعة البدر، واستجفاء هبّة النسيم بقنن الجبال الغُبْر، وسكنى المحل الخشن، ومفارقة الأهل والولد عند فراق الروح للجسد. جعلنا الله من الدنيا على حذر وتَوَقِّ، وكتبنا ممن قدر قدره، ولم يأمن مكره. فقعدنا وقرأنا وأفضنا في الترحم ودعونا.
وكان الانصراف بعد أن ألممنا في تلك المحلة بمسجد إمامهم المهدي ودار سكناه، وأثر مدرسته وسجنه، كل ذلك من الخمول واللطو واستهجان الآلة على حال شبيهة بمباني الدَّبْر، وقرى النمل، وأعشاش الخُشاش من الطير. فعجبنا من مفتاح تلك الدُّوَيْرة المهتضمة، كيف تملك من القصور العظيمة ما إنّ مفاتِحَه لتَنُوا بالعُصْبَة أولِي القوة؛ ولمنبر ذلك المسجد كيف أخذ على كونه قمئ الجلسة، مصاحبًا لبعض القشر، بريًا من الصنعة بأزمَّة المنابر المتخذة من الألُوَّة والصندل المقاصري في لونيه، والأبنوس الحبشي، وأنياب الفيول، وأرعاها بعُصيَّاه، واستاقها بين يدي طاعته كالذَّوْد الشائل والسائمة الواردة ما بين قُرُطبَة وأشبيليَّة وغَرناطة وإفريقيَّة والمغرب، سُنَّة الله في إدالة الدول، وتعقيب النِحَل، ألم تر [أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده] .
وانحدرنا عن ذلك المرفق فأسْهَلْنا ببطن الوادي، وأرحنا بجلسة مُوَطَّاة، مُعَدَّة لاستجمام السلطان ﵀، قد ظللتها الأشجار، تجري تحتها عين خرَّارة كأعظم الأنهار فوق حَصىً كدُرِّ النحور، القريبة العهد بلجج البحور، أو كثنايا الحور. تركت في تلك الجلسة أثقاب وخُروت تفضي إليه، يُجعَل الجعائل على إمساك اليد بها برهة معتبرة، يفتَضح متعاطي ذلك لخَصَرِها وما يؤثّر البرد الشديد في حسِّ عصبها. وجُلب إلى ذلك المكان من الطعام والفاكهة والشهد ما يحار فيه الوصف.
ثم انتقلنا إلى محل النزول، ومثوى الكرامة من المضارب، ودعينا إلى الدور حيث سكنى أولئك الأشراف، يغمرنا بكل دار منها من الأطعمة ما يحار فيه الفكر ولا تنال منه إلا العين. وتشاهد من أجناس الفرش المرفوعة والمراتب المقدرة، والستُر الديباجية المسدولة على الأرائك الممهدة، والسيوف المعلقة، تتخللها العِدَّة من أصْونة مُدمِجِ القرآن وصحيح الحديث ساكنة في جفون منقوشة محلاة بالإبريز، مُقلَّدة بمحامل الحرير النسيج.
وعند الانصراف إلى المضارب، أقبلت التحف والهدايا من المقرَّبات الكاملة تختال في الحلية، والكسا الرفيعة طيّ الأوعية الرقيمة، فعجز الشكر وبان التقصير.
ثم غمر الطعام وتخلف الشيخ عن المجالسة والمؤاكلة معتذرًا عنه بألم مانع نغص لدينا النعيم، وكدر الشِّرْب تطيرًا من وداعنا إياه حلْسَ فراش أو رهين شكاية. ثم) أنه حَدْسُنَا أنه آلمُ الحُسَبَاء (وتَذكرنا قول الأول:
1 / 3
إذا غدا الطَيبُ في مفارقهم ... راحوا كأنهُم مرضى من الكَرَمِ
فحقَّت الظِّنَّة، وصدقت المَخِيلَة.
ومن الغد كان الانصراف، فَشيَّعَ وأبعد، وتألم للمفارقة وتوجع، كثَّرَ الله مِثْلَه، وكافأ قوله وفعله، وأورث عز تلك البقعة عَقِبَه.
ولم أبرح يوم زيارة محل وفاة السلطان أمير المسلمين أن قلت:
يا حُسْنَها من أربع وديار ... أضحت لباغي الأمن دار قرارِ
وجبال عز لا تَذِلُّ أنوفُها ... إلا لعز الواحد القهار
ومقر توحيد وأسُّ خلافة ... آثارها تُنبي عن الأخبار
ما كنت أحسب أن أنهار الندى ... تجري بها في جملة الأنهار
ما كنت أحسب أن أنوار الحجى ... تلتاح في قُنَنٍ وفي أحجار
مَحَّت جوانبها البُرودُ وإن تكن ... شَبَّت بها الأعداء جّذْوةَ نار
هَدَّتْ بِناها في سبيل وفائها ... فكأنها صرعى بغير عُقار
لما توعدها على المجد العِدَا ... رضيت بعَيْثِ النار لا بالعار
عَمَرت بِحلَة عامر وأعزها ... عبد العزيز بمرهف بتار
فرسا رِهان أحرزا قَصْبَ الندى ... والبأسَ في طَلَقٍ وفي مضمار
ورثا عن النَّدْب الكريم أبيهما ... محض الوفاء ورفعة المقدار
وكذا الفروع تطول وهي شبيهة ... بالأصل في وَرَقٍ وفي إثمار
أزرت وجوه الصِّيدِ من هنتاتة ... في جوها بمطالع الأقمار
لله أي قبيلة تركت لها النُظَ ... راء دعوى الفخر يوم فخار
نصرتْ أمير المسلمين وملكه ... قد أسلمته عزائم الأنصار
آوت عندما ذهب الرَّدَى ... والرَّوْعُ بالأسماع والأبصار
وتخاذل الجيش اللُّهام وأصبح ال ... أبطال بين تقاعد وفرار
كُفِرت صنائعُه فيمّمَ دارها ... مستظهرًا منها بعز جوار
وأقام بين ظهورها لا يتقى ... وقع الرَّدَى وقد ارتمى بشَرار
فكأنها الأنصار لما آنست ... فيما تقدم غربة المختار
لما غدا لحظًا وهم أجفانه ... نابت شفارهم عن الأشفار
حتى دعاه الله بين بيوتهم ... فأجاب ممتثلًا لأمر الباري
لو كان يُمنَع من قضاء الله ما ... خَلَصَت إليه نوافذ الأقدار
قد كان يأمل أن يكافئ بعض ما ... أوْلَوْه لولا قاطع الأعمار
ما كان يقنعه لو امتد المدى ... إلا القيامُ بحقها من دار
فيعيد ذاك الماءَ ذائب فضة ... ويعيد ذاك التُّرب ذَوْبَ نُضَار
حتى تفوز على النوى أوطانها ... من ملكه بجلائل الأوطار
حتى يلوح على وجوه وجوههم ... أثر الرعاية ساطع الأنوار
ويسوّغ الأمل القصيّ كِرَامها ... من غير ما ثُنْيا ولا استقصار
ما كان يرضى الشمس أو بدر الدجى ... عن درهم فيه ولا دينار
أو أن يُتوَّجَ أو يُقلَّدَ هَامُها ... ونحورها بأهله ودراري
حقٌ على المولى ابنِهِ إيثار ما ... بذلوه من نصر ومن إيثارِ
فلمثلها ذُخِرَ الجزاء ومثلُه ... مَنْ لا يُضيع صنائع الأحرار
وهو الذي يقضي الديون ومثله ... يرضيه في علن وفي أسرار
حتى تحُجَّ محلّةٌ رفعوا بها ... علم الوفاء لأعين النظار
فيصير منها البيتُ بيتًا ثانيًا ... للطائفين إليه أي بدار
تُغني قلوب القوم عن هَدْيٍ به ... ودموعُهم تكفي لرمي جمار
حُييتِ من دار تكفَّل سعيها ال ... محمود بالزُّلفى وعقبى الدار
وضفت عليك من الإله عناية ... ما كرَّ ليل فيك إثر نهار
فلا تسل عن حسن موقعه لديه، وسرور نفسه به. وفي الحين طير به إلى أخيه كبيره وهو على سموِّ قدره وعلوِّ ذروته، أشد الناس إيجابًا لحقه، وانخفاضًا لبأوه، وتطامنا بمجلسه، يقرضه وزان الأب في إلانَةِ القول، وانكسار الطرف تتميمًا لوظائف المجد، وإقامة لسوق الحرية. فأورى عند لقائنا إياه زنده، وعَقَّب الصلة الجزيلة عذره، وبلغ قصبات السبق فضله.
1 / 4
وانحدرنا من الغد إلى مدينة أغمات ورُيكَةَ عن درج نزلنا لجَرَّاه عن الظَّهر. وقدنا الدواب قودًا، فجازت ناجية عن صراط بعد سياط ومياط. واجتزنا على ديار هنتاتة بذلك السفح على حدود أضدادهم الوريكيين، وقد أسْهلوا وانبسطوا، ومثلت لهم الديار الحُمْر، تحف بها البساتين الخضر، تخترقها المذانب الزُّرْق. وأرحنا من تلك الجهة بالمسجد البديع الحافل البنية، السامي المئذنة، المقام لصق دار موسى بن علي الهنتاتي، البادي طللها، المنبئة عن أخبارها آثارها، تُوسِعُه ما شاء من ثناء ورحمة.
ثم أتينا مدينة أغمات في بسيط سهل مُوَطَّأٍ لا نَشَزَ فيه ينال جميعه السَّقْي الرَّغد، وتركبه الخلجان وقد تموَّج به العشب، وعافته الأيادي وغَلَّتْ أيدي فلاحه الفتنة. وهذه المدينة قد اختطت في الفضاء الأفْيَح، فبلغت الغاية من رحب الساحة وانفساح القورة، مثّلَت قصبتها منها قبله، وسورها مُحْمَرُّ التُّرْب، سَجِحُ الجِلْدَة، مُنْدَمِلُ الخندق، يخترقها واديان اثنان من ذَوْبِ الثلج وسؤر الجبل، قامت بضفتيها الأرحاء واردة وصادرة، مرفوعة الأسداد، منيعة البناء. يمر أحدهما بشرقي المسجد الجامع طامي العباب محكم الجسور، نظيف الحافة، نزهة للأبصار وعبرة لأعين النظار. ومسجدها المذكور عتيق عادي كبير الساحة، رحيب الكنف متجدد الألقاب. ومئذنته لا نظير لها في معمور الأرض. أسسها أولوهم مربعة الشكل وما زالوا يَبْخَسُون الذَّرْع، ويجحدون العرض، حتى صارت مُجَسَّمًا كاد يجتمع في زاوية المخروط. وأدير عليه فارز من الخشب يطيف بناء لاط، وقد أطل سامي جامورِها فوقه، فَقَبُحَتْ حتى مَلُحَتْ واستحقت الشُّهْرة والغرابة.
وأهل هذه البلدة ينسب إليهم نُوكٌ وغَفلةِ عِلّتُها، إن صدقت الأخبار، سلامة وسذاجة، فَتَعْمُرُ بملحهم الأسمار، وتتجمل بنوادر حكاياتهم الأخبار. فمنها أن ملك المغرب لما عجب من هذه المئذنة، استأذنوه في نقلها إلى بلدة على سبيل الهدية، يجعلونها تحفة قدومه، وطُرفة وفادته.
وبازائها المسجد، بينه وبين النهر المار بازائه قبة عظيمة القبو، فخمة البنية، ترقص فيها فوارة خرقاء في خُصَّة من الحجر الأدكن مشطوفة الباطن رحيبة القطر، قد تثلمت بعض حافاتها لمماسة الأيدي، ومباشرة أجرام الخزف والفخار عند الاغتراف بما ينبئ عن قديم عهد وطول مدة.
وللسلطان بهذه المدينة دورٌ حافلة تدل على همم ومعالي أمم، واحتفال عوالم درجوا وأمم، قد ركلها العفا وجذب معاطفها الخراب. فما شئت من خُشُبٍ منقوشة وأطُمٍ مرقومة.
وبداخل هذه المدينة بساتين وجنات، ولم يبلغ الخراب من مدينة ما بلغ من هذه الأيِّم المهتضمة، فتشعثت محاسنها، وأخلقت ملابسها وأوحش عمرانها لتتابع الفتن وعيْث الشُّرار الذين لا تُعبِّدهم الطاعة ولا تزغهم الشريعة. أنقذ الله من لَهاَة التَّبار فريستها واستدرك بمدافعته مسكنْها.
وأطرفني الخطيب بها بأخبار من اعتقل فيها من مخلوع ملوك الأندلس وأمراء طوائفها كالمعتمد بن عَبَّاد، وأبي محمد عبد الله بن بُلُقّين بن باديس أمير وطننا غرناطة. ووقفني على تاريخ صدر عنه أيام اعتقاله، يشرح الحادثة على ملكه في أسلوب بليغ ختمه بمقطوعات من شعره تشهد بفضله.
وزرت بخارجها قبر المعتمد على الله أَبي القاسم محمد بن عبَّاد، أمير حِمْص وقرطبة والجزيرة وما إلى ذلك الصقع الغربي ﵀، وهو بالمقبرة القبلية عن يسار الخارج من البلد، قد تَوَقل نشزًا غير سام وإلى جانبه قبر الحرة حظيته وسكن نفسه اعتماد إشراكًا لاسمها في حروف لقبه، المنسوبة إلى رُمَيْك مولاها، المتولعة بشأنه معها أخبار القصاص وحكايات الأسمار إلى أجداث من ولدهما. فترحمنا عليه وأنشدته:
قد زرت قبرك عن طوع بأغمات ... رأيت ذلك من أوْلي المهماتِ
لم لا أزورُك يا أندى الملوك يدًا ... ويا سراج الليالي المدْلَهِماتِ
وأنت مولىً تَخَطَّى الدهر مصرعه ... إلى حياتي أجادت فيه أبياتي
أناف قبرك في هَضْبٍ يميزه ... فتنتحيه حَفِيَّات التحيات
كَرُمْتَ حيًا وَميْتًا واشتهرت علا ... فأنت سلطان أحياء وأَموات
ما ريئ مثلك في ماض ومعتقد ... أن لا يرى الدهر في حال ولا آت
1 / 5
وزرت أَجداثًا لأولياء وصالحين ختمتها بقبر الولي المتبرك به أبي عبد الله محمد الهَزْميرِيّ.
وكان الانصراف عنها من الغد، وماشينا أدواح الزيتون والأشجار، تساوقها جَرِيَّاتِ الأنهار، تتخللها أطلال الحِلَل والديار نَيِّفًا على شطر البريد لا تنال صفح ثراه الشمس ولا ترتاده الحرباء، تتجاوب أصوات الحمام المطوّق فوق غصونه. وقد اقتطعت ذلك الجناب الخصيب أيدي الوحشة، وأخيفت من حلل غابة السابلة، وسكن ربوعه الآهلة البوم، فيا لها من مدينة غَزُر ماؤها وصح هواؤها، وأينعت أرجاؤها، وضفى عليها من المحاسن رداؤها.
وانْتَهَبْنَا السهل انتهابًا، فدخلنا المدينة في مُتَمَكَّنِ الضحى، وألفينا محلّة ولد السلطان مولانا قد استعجل الأمر استقدامها، فخيمتْ على فرسخين، فشرعنا في الإياب وانتحينا طريق الساحل لنستدرك بمدينة آسفي. زيارة من بها من أولياء الله الصالحين وعباده المقربين.
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
قلت نعم والفرقدان، سبحان من استأثر بالبقاء لا إله إلا هو.
ولقيت بهذه المدينة جملة من أولي الدين والدنيا، فمن أهل الدنيا الشيخ الجليل كبير القطر، ومفزع الرأي ومسيطر خاصة الإمارة، متصرف وجوه الوجوه أبو ثابت عامر بن محمد، وأخوه هضبة الوقار، ونير الأفق، وزهرة روض ذلك الحَزْن، وياقوتة ذلك الجبل، وقد مر من التعريف بهما ما يغني عن الإعادة. ومنهم نائب الملك وحافظ الرَّسم وجار القصر الشيخ الفقيه علي بن العباس بن موسى بن أبي حَمُّو، المعتام لكفالة أولياء العهد، المستظهر بأمانته وصدقه على حفظ الأقطار المستباح الحِمَى في سبيل الوفاء، أجمل الشيوخ وَجْنَةً. وأسناهم شيبة، وأحسنهم صورة، إلى الخُلُق السهل واللسان البلبل الإطراء والبر، والذرع الفسيح، والمخاطبة الفضلة بفرائد التسويد، تكررت على المدى زيارته، وانصرفت شطر الوجهة عنايته، واسترخصت في استجلاب القصور والمعاهد هِشَّته، وخفت إليها على الكبر والرَّقْبة حركته.
ثم جمعت بين الغُرَّةِ العتيقة والمهنَّدة المحلاة والصامت الدَّثِرِ هديته، عن خصاصة متقرره، وحال رقيقه لقصور دخله عن خرجه، وما جرَّه كف يده، ووازع عفته، وجناه الوفاء من نكبته. أصلح الله حاله، وزاده من جميل نظر المُلك ما يقيم أوده.
ومنهم والي الوطن ومؤمن السبل وجَمَّاعة مال الجباية، الشيخ الرئيس الفقيه أبو عبد الله بن حسُّون بن أبي العَلي وقد مر بعض ذكره. وهو فريد العصر بل الدهر في الخلال المُبِرَّة والخصال الحرة، من مُذَكِّرٍ بالبرامكة، مُغَبِّرٍ في وجوه سُيَّاقِهم انتهازًا لفرص المكارم، وتهالكًا في هوى المآثر، ما شئت من مُغْلٍ لبضائع الحمد، منتقب بوَرد الخجِلَة، مرسل أعنة الاعتذار في أعقاب ملوكي العطية، يهب الكتائب غائمات، والمَهَى مستردفات، والجياد عِرابًا، يقوم على الأصلين والمنطق، وهما الفنانان المهذبان للعقل المستدعيان لكثير من المواد، يُعترف له بالتقدم في ذلك، مشاركٌ في غيره، حسن الصورة، مهيب جَزْلٌ وقور حاسر عن الاطلاع والكفاية، لم يبلغ عندي في البر مداه، ولا بل جناحُ شكري ندى كَنَدَاه. ولقد أقسم بالغموس بعد أن بان رِزْحُه من وظائفه الباهظة، وقعود زمنه عن أمله، وقصور وُجده عن مرمى هَمِّه أن لو ألفى سَعَتَه التي تعودها، لنقدني ثمن ما غُصبْتُه بالأندلس عن يد، إبلاغًا في المكارمة ونزعًا إلى هدف الحرية، واسترقاقًا لرقَبة السؤدد. حفظ الله نعمته، وحاط حظوته، ورد عنه النوائب صاغرة، والحوادث ناكصة. وكثيرًا ما خاطبته بعد وداعه من محال كرامته بالطريق من عمالته الفسيحة الخطَّة، وقد ألزَمَ من نبلاء خُدامه من تمم الوظائف وكمل المآرب بمثل قولي:
يا خاتمَ الفضل أو يا حاتم الزمن ... ومشتري الحمد بالغالي من الثمن
ومرسل المثل الجاري بكل عُلا ... فوق البسيطة من شام إلى يمن
يا من إذا ما حكاه الجِلَّة افتضحوا ... إذ التَورُّمُ ممتاز من السِمَنِ
يا من تلقيتُ منه الخَلْقَ في رجل ... وقدتُ نافرة الأيام في رسن
لله ماذا رأت عيني وقد لمحت ... ذاك الكمال وماذا قُلِّدت أذني
ذع ذكر قيصر أو كسرى وما جمحت ... به الحكاية عن سيف بن ذي يزن
1 / 6
ما الفخر إلا لملك أنت تخدمه ... فَحُلَّ منه محلَّ الروح في البدن
إن لم يَفُز منه بالغايات مثلك أو ... تعلو الكواكب في آفاقه فمن؟
تبأى العلا منك يوم الفخر بابن أب ... جمّ السيادة عفّ السر والعلن
ماضي العزيمة ميمونٌ نقيبته ... جارٍ من البر والتقوى على سَنَن
إلى مضاء كنصل السيف يعْضده ... رأي يفرِّق بين الماء واللبن
أفادني زمني لقياك معتذرًا ... عما جناه فلا أدعو على زمني
من بعد لقياك لا آسى على وطر ... مهما تعذَّر أو أبكي على وطن
عقدتُ صفقة وُدِّي فيك رابحة ... إن حالت الحال لا تَخشى من الغَبْنِ
فالبس نسيجة ما قدمت مُعْلمة ... من صنعة اليمن تنسى صنعة اليمن
من زار رَبْعَك لم تبرح جوارحه ... تروي أحاديث ما أوليت من مِنَنِ
فالعين عن قُرّةٍ والكف عن صلة ... والقلب عن جابر والأذْنُ عن حسن
ومنهم صاحب الأشغال ملك الحضرة الشيخ الفقيه الموصوف بالسلامة والعفَّة، الكاسع إلى صف الانقباض، المتحيز إلى فئة العافية، المَعْفِي اليد عن غمسها، في كيل الجباية، أبو الحسين بن الرئيس الصدر، مُؤَمَّل الدول الأولى، المخصوص باليد الطولى، أبي محمد عبد الله بن أبي مَدْيَنْ. جالسته فرأيت ذكاءه متواريًا في حجر تغافل، وسذاجة تَشِفُّ عن ظرف، وخاطبني صحبة بَرَنْكَانه بما نصه:
أيا سيدًا حاز سبْقَ العلا ... بفضل النُّهى والسجايا الحِسان
ويا نخبة الوقت والمقتدى ... به في فنون علوم اللسان
ويا أوحد العصر في نثره ... وفي نظم الشعر كنظم الجُمان
بَنَانٌ تريك بخط اليراع ... بمَهْرِقِها سحرَ علم البيان
لقد حُزت في العلم أعلامه ... بحفظ النصوص وفهم المعان
وحزت ذُرى كل شأو رفيع ... فلا تسألنْ عن فُلٍ أو فلان
وَفُقْتَ ابن أوْس بنظم بديعٍ ... كما فقت نثرًا بديع الزمان
أنار بك القطر لمَّا قَدِمتَ ... وظرف الزمان وظرف المكان
وأنَّسْتَ منا نفوسًا لها ... بقربك ما تشتهي من أمان
تَقَبَّلْ هدية من لم يزل ... يُحِبُّك بالسمع قبل العِيان
فلما رأى شخصَكُم زاده ... ولوعًا بكم حُين تلك المعان
سلامٌ زكيٌ كعرفٍ زكي ... يَخصُّكمُ ما بدا النَيِّران
ومن أهل العلم والدين الشيخ الفقيه القاضي أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله الهرغي الزقندري، وزَقَنْدر معدن الفضة ببعض تلك الجهات ولذلك ما قلت أداعبه:
سألتُك عبد الله إيضاحَ مشكل ... وأنت لكشف المعضلات بمرصَد
زقَنْدَرُ قالوا عنه معدن فضة ... فما بالُه أبداك نُدرةَ عَسْجَدِ
1 / 7
فاضل متفنن حَسَن الهيئة، راجح الوزان كثير الوقار بعيد عن الدِّخْلة، متساوي الظاهر والطوية، مُطَّرِح للهوادة، ما شئت من رجل غزير الحِفْظ، جيد المعرفة، مضطلع بفنون، سديد النظر، جَمَّ المشاركة في حديث ورواية وتاريخ وخَبَر وكلام وفقه ونظم ونثر، إلى فضل المجالسة وحسن العشرة والغفلة عن نصيب النفس والاحتطاب في حبل الرفيق، وإقطاع، غبيط السذاجة وفضل الفكاهة، والجهر بالتلاوة في سبيل الورد المترتب ناشئَةَ الليل ومبادئ الإسحار. رحل وحج ولقي كثيرًا من الفضلاء، وأخذ عن عدد كثير من أهل المغرب دراية ورواية. فمن المراكشيين: أبو العباس الغفائري، وأبو الحجاج الدَّغْوي، وأبو القاسم بن مُعَنْصِر، وأبو القاسم ابن القشاش، وأبو عبد الله بن مسعود. ومن أهل أغمات: أبو يحيى الجزولي من حفَّاظ المذهب. ومن الفاسيين: أبو محمد عبد العزيز القروي، والقاضي أبو عبد الله ابن عبد الرزاق. ومن أهل تازا: أبو محمد الرَّجَّالي. ومن التلمسانيين: الشيخ الفقيه النظَّار أبو موسى بن الإمام والقاضي أبو العباس المديوني، والشيخ المحقق نسيج وحده في العقليات أبو عبد الله الآبلي. ومن التونسيين أبو عبد الله بن دمعون، وابن هارون، وابن عبد السلام، والراوية الرَحَّال أبو عبد الله بن جابر ومن أهل الإسكندرية: أبو العباس بن فتوح، وجمال الدين بن سلامة القضاعي، والعدل أبو الحسن بن الفرات، والمشايخ الأربعة محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله، وإسماعيل الضرير، وأبو الحسن الإقبالي، وجمال الدين بن عبد الرزاق الربعي وناصر الدين بن المُنَيِّر. ومن أهل مصر قاضي المالكية تقي الدين الإحساني، وأبو الحسن المارديني، وعز الدين بن جماعة، وجمال الدين الدلاصي، وأبو حامد السَّبوكي. ومن أهل دمشق: شهاب الدين بن فضل الله كاتب الإنشاء، وشمس الدين بن نباتة، وأبو الخير الحريري، وشمس الدين السلاوي آخر أصحاب ابن عبد الكريم، وتقي الدين بن عبد الكافي، والعلامة الأديب أبو الفضل ابن صرايا. ومن الصالحية: عز الدين المقدسي، والمسند عبد الرحيم التنوخي. ومن أهل مكة: شمس الدين النَوْفَري، وإمام الموسم خليل بن محمد. ومن أهل المدينة: عفيف الدين المطري من ذرية سعد بن عُبادة.
ولي قضاء مَرَّاكُش في منتصف رمضان عام ستين بعد ولايته أغمات وسَبتة ومولده بمراكش في سابع عشر ربيع الأول عام خمسة وسبعمائة. وابتدأ لهذا العهد تخريج الأحاديث التي أشار إليها الترمذي.
وأنشدني من نظمه ولها حكاية تدل على ظرفه وحسن عهده:
ولما تجاوزنا زَلولًا وشنَّة ... وطاشت حلوم لم تكن قبل طائشة
تيقنت أن لا منزلًا بعد سبتة ... يَسُرُّ وأن لا إلف من بعد عائشة
توجه مؤانسًا لي متحفيًا إلى جبل هنتاتة، فأمتع ما شاء حفظه الله وأحسن مجازاته.
ومنهم الشيخ العدل القاضي برباط آسفي عبد الرحمن بن علي بن أبي العيش القيسي المعروف بطالب عافية، من الصدور الجلة وأعلام الطلبة بتلك البلدة فضلًا وعدالة وتفننًا ومشاركة، يخوض في كل فن، ويُلقي دَلْوَه إلى كل حوض، أصيل الحفظ جيد البحث، بعيد عن السآمة، لا يمر له وقت ضياعًا إلا عن مذاكرة في فن أو إجراء طُرفة، غير مُبال بِتَهْويم نوم، وهجوم هاجرة، أو مخالطة كد إلى حُسن العشرة ودماثة الخُلُق، وإيثار التخلي والعزلة والحَوْم على السلوك والتجريد. شارك القاضي أبا محمد في كثير ممن ذُكرَ أخذه عنه من أعلام بلده.
ومنهم الأستاذ المتفنن النظَّار أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الفَخَّار، أستاذ المدرسة العظمى من أهل العلم والفضل والمشاركة والتفنن، يقري بها علم اللسان والأصلين والفروع، فَيُمْتِعُ ويَحْسِبُ على طَرَش كدَّر ﵀ الانتفاع به ونغّص الأنس بمجلسه نفعه الله..
وانتابني من الظرفاء والأدباء الشيخ الفقيه المكَتِّب أبو عبد الله محمد بن القاسم ابن عمر بن عبد الله الصَّيْرَفي، من أهل النبل والظَرْف على خُلُقٍ زعموا غير سَبْط، كتب عن الأمراء بمراكش، وأبي العباس بن حسين الغفائري، والخطيب المحدِّث أبي عبد الله بن رُشَيْد، والقاضي أبي الحجاج الطُّرطوشي، والمقرئ أبي الحسن ابن برني، وأبي العباس الفرقسي، وأبي العباس بن برني، وأبي العباس بن القرّاق، وأنشدني من شعره:
1 / 8
مَنْ لَمْ يُفِدْكَ بنفعه أو جاهه ... فلأيما اصْتَصْنَعْتَه مَخْدُوما
فَلْتَخْدِمِ الله الذي من أمَّهُ ... بضمير صدق يلْفَ منه رحيما
ومن نثر قوله: وأما الكتابة فلفظ نِحْلَةٍ حُذفت تاؤه، ومعقل خُذْلَةٍ شرع من غير مَحلِّه إيتاؤه، وهي خطة استغنى الناس بذَيَّانها عن سَحْبَانها وعن مُلاك أزمَّة آدابها بجهلة طُلاَّبها، فمن رأسَها معهم من ذوي المروءات والهمم من سائر الأمم، فقد ارتكب الصعاب وَثوى مقعدًا من المذلة والهُون أنَّى شاء من سائر الأبواب فهو ينشد سائليه عن حاله بلسان عذر كليل، وقلب عليل، معتذرًا في الضرائر بما قد قيل:
ألا قاتل الله الضرار فإنها ... تُعَلِّمُ خير الناس شرَّ الطبائع
وتَحْمِل ذا الطبع الشريف تكرُّمًا ... على ذِلَّةٍ في عيشه وتصانع
وكان السفر من مراكش يوم الأحد الثالث والعشرين من جمادى الآخرة وقصدنا باب الرَّخا من أبوابها غَلَسًا لنصايح تربة الشيخ، قصد التزود ببركتها، فتعذر فتح الباب وطال به الوقوف وأعْييَ علاجه، فانصرفنا عنه وفي أنفس بعض المشيغين حزازة من ذلك، فأنشدت منهم الشيخ القاضي أبا محمد الزقندري بديهة:
يا محلًاّ لخُلَّتي وانتحائي ... لم يُبِحْ لي الخروجَ بابُ الرخاءِ
دلَّ أن الرخاء مغتبطٌ بي ... فبحقٍ تَبَجُّحي وانتخاءِ
فحُفِظ واستُطْرف، وتحول المحزون إلى ضده والله الموفق للأقوال والأعمال بفضله.
وحثثنا السير على تَفِيَّةِ ارتحال الجيش وتوقع الفساد في السُّبُل، صحبة لِمَّةٍ من أشياخ وراء سكان الصقع، واستقبلنا حي بني الحارث من عرب العمود، جَذْوَة شَرار الشِرار أولى الحِرابة والخرابة. فنزلنا بمحلة من حِلَل رِعاء البَهْم وقد أوقع في طريقنا يومئذ بمحروبين حار أحدهما ونجا ثانيه برأَس طِمِرَّة ولجام.
ورحلنا من الغد في قفر تَنْدر ببعض مَهامَه به أبيات نابية للمُسَمَّيْن، وبتنا بحِلَّةٍ من حلل بني جابر أولي إبل وشاء. ورحلنا من الغد فتجاوزنا غَوْلاَ، وتخطينا مَظَنَّة اعتراض، ومَسْبَعَةَ فُسَّاق في حَدِّ بين بلاد بني الحارث، وبني وراء، يُولي كلٌّ منهم خٌطّة المَلام جاره عند إعداء الرُّفُق المصابة، وإصراخ السلطان لندائهم.
ودخلنا بلاد بني ماقِر، فكان المبيت بسورها تحت خصبٍ وأمَنَه، ومنها صرفنا مَن صَحَب من أشياخ تلك الأرض عن شكر وإطراء، وإن كنا في مَظنَّة الروْع، نرى منهم اخزرارَ عيون ومخايلَ فتنة.
ومن الغد سلكنا وطن بني ماقر وهو كثير العمران، متعدد الديار والأشجار سَقْيُه من نطاف عذبة تَخْتزنُ بها بركات الأمطار فيقع بها أمْنُهم والاجتزاء إلى زمن المطر. وبها كثير من الصالحين وأولي الخير وأرباب التلاوة، وربما ألفِيَ بها ضدُّهم، ولله درُّ القائل:
الناس كالأرض ومنها هُمُ ... من خشن فيها ومن لَيِّن
مَرْوٌ تَشَكَّى الرِّجْلُ منه الأذى ... وإِثْمِدُ يُجْعَل في الأعين
ووردْنَا مدينة آسفي وقد تمكن النهار، فلقينا موكب أرباب الخُطط باين مُعدين. ولما شارفنا، ركبنا إليها صردوكها أحمد بن يوسف حفيد الوليّ أبي محمد صالح، القائم في ظل صيته، وأثير الناس من أجله، رجل أدَمُ اللون، قد تَعَجَّل الوَخْطُ منه، ذقن كث ذو تيقور، جالس السلطان، وقاد ركب الحجاز، وجرَّ ببلده دنيا عريضة واقتعد غارب غنيّ جمّ، يفد على باب السلطان في سبيل دالَّةٍ بقديمه، ويقفل إلى وطنه مجدد الصكوك مستجاد الخِلعة. خاطبته بين يدي قدومي بقولي:
يا حفيد الوليِّ يا وارثَ الفخ ... ر الذي نال في مقام وحالِ
لك يا أحمد بن يوسف جُبنا ... كل قفر يُعْيِي أكُفَّ الرِّحال
1 / 9
أبقاك الله كثابةَ انتفاع ونورًا بأعلى يَفَاع، ومتضعًا على علو ارتفاع، ترى الوِتْرَ في إشفاع، وتقابل الوهم بطرادٍ من الحقيقة ودفاع. إن حثَّت على لقاء الأعلام شهرتهم فلك الشهرة، وأنت العلم والشهاب الذي تُجلَى به الظُّلَم. ورباط جدِّكَ بالمغرب الركن المستلم، فإلى أين يذهب عن جنابك الذاهب، وقد وضحت المذاهب، والله المانع والواهب. وإني من لدن اجتليت غرّتك التي تلوح عليها سيما الولاية إرثًا واكتسابًا وانتماء إلى جناب الله وانتسابًا جزاء من ربك عطاء حسابًا؛ أؤمل التوسل والتقرب وأخطبُ منك الأنس الذي أنْسى به التغرب إلى أن تَهَيّأ بفضل الله وتيسر، وتبين مجمل الشوق وتَفَسَّر، وشتان ما بين من أثرى وأعسر، فأنا الآن والحمد لله قد حططتُ بمثوى الولاية رحلي، وعَثَرَتْ بأزهار أسرار الأبرار نَحْلي، وأخذت من الدهر ذَحْلي، وحللت من رباط الشيخ أبي محمد بالحرم الأمين، وظفرت من ودّ حافده بالذخر الثمين فيا ليت قومي يعلمون ما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين. عَرَّفتك أبقاك الله بقصدي وحركة رَصْدي لتعلم أن هذه الوجهة لقاؤك أقوى دواعيها، وأنجح مساعيها، وبركة الشيخ نفع الله به تلاحظها وتراعيها، فما اسْتَبْعَدَ المرام من قَصَد الكرام، وما فقد الإيناس من أمَّل الناس، وتَنَخَّل الأفراد، وتخطى الأجناس، وترك للنص القياس، وَتَمَلَّك المِنَن لمَّا أحرز الرياس، وسيدي بعد وما يظهر له من تأنيس غُرْبَة وإزاحة كُرْبَة، ورعْي وسيلة وقُرْبَة، وإتحاف باجتلاء حمى مَزُورٍ وتُربَة، والله ﷿ يبقيه مقصودًا على بعد المكان، مُرَجِّحًا في الفضل طَرَفِ الإمكان مطمئن القلب بذكر الله رطب اللسان؛ مُدْرَجًا في الوصولِ لسِنَام الإسلام والإيمان والإحسان.
واضْطَبَن من ابن عمه الخطيب بالبلدة، شاحبًا صامتًا مهمهمًا بذِكْر، مُنتبذًا عند الأكل إشعارًا بالإمساك، أومأ مع ذلك، زعموا، إلى دنيا عريضة كابن عمه وشُحٍّ مطاع، فرحب الكل وأطرأ اللقاء. وجئنا إلى رباط الشيخ أبي محمد وهو من المشاهد الحافلة والمآلف الجامعة. فضاؤه رَحْبٌ مرصوف بحجر الكذان يدور به، سقيف نظيف ذو أبواب تفضي إلى زوايا ومدافن، وبطوله عن يمين الوالج مسجد الصلاة وتربة الشيخ في بيت عُمِدَ سَمْكُه لانفساح عرضه بقائم من الخشب، وقبر الشيخ قبليه عن يمين الداخل إليه، قد اتخذ له حوض من الخشب من الرفيع أكسبته الأيام دُهْمَسه، فتخاله منحوتًا من الألُوَة قد امَّلَسَت من الاستلام حافته، وسُوي من نظيف الرمل سَبَجُه، وبازائه قبور شبيهة به في الشكل لولده وحفدته، تتخللها الحُصر النظيفة، فقضي الغرض من القراءة والدعاء، وحضر الفقهاء والطلبة والصوفية وقد استعرضهم أبو العباس طائفتين ورتبهم للسلام علينا غابطًا إياهم مُطْريًا مؤنسًا، فدعوا وأجملوا، وعرض علينا طعام الشيخ أبي محمد ﵀، وقري ضيفه الجاري عليه من بيت المال حافده المذكور مُحكّضمًا في قُلِّه وكُثْرِه، فجلب خوان بهي اشتمل قوره على كل غضارة أثيرة لا تتخلف عن طعام ولا شراب.
وانصرفنا إلى المحل المعين للنزول. وهذا البلد فسيح طيب الهواء كريم التربة خصيب الجناب. وأهله أولو خَيْريَّة وجنوح إلى الصلاح؛ وهو لَبِنَةُ التمام للمسَوَّرات بالمغرب، ليس وراءها مدينة جامعة، ولا محلَّةٌ مسورة، ودونه أمم تتصل بالسوس الأقصى إلى تخوم الحبشة من وراء الصحراء.
ومن ساعة إلمامنا انزوى عنا الشيخ أبو العباس صردوك، لِلَهْوِه، واشتغل زعموا بعقد نكاح على بكر يلاعبها وتلاعبه، لم يَقْسم الله للضيف من مأدبتنا بحظ، وشحَّ بإيناسه وتردده، فَحَدَسْنا أنّ ذلك إبقاءٌ على نفسه لما تُكْشِفُ المجالسة من حال يَمُدُّ لها أبو حنيفة رجلَه. وهممت أثناء طريقي أن أخاطبه بسعوط افتتحته بأبيات مطلعها:
إذا لم تهذِّبك الأبوةُ والحج ... فأنت على فَوْتِ الجَنَي ثمرٌ فَجٌّ
ثم تصدقتُ على حِلْم الشيخ بجهله، وحَرَّمت صيد آبِدِه في حرم مَحَلِّه، أصلحنا الله وإياه.
1 / 10
وصلينا بمسجدها الجامع وهو مبنى عتيق، ومجمع فسيح متعدد الزيارات والصحون والتعاريج، سبق منه ما بين يَدَي المحراب بعضٌ على أيدي قوم من الصالحين، رفعوا به عَمَدًا تناهز الأربعين، بادية ضخمة خشنة على سبيل من الجفاء والسذاجة يباشرها سقف لاطئ من غير نقش ولا إحكام عَلَتْها خُشُبٌ بالية، وقُضُبٌ ناخرة، بما يدل على قِدَمِ العهد، وينبئ على اجتناب فضول العمل. فلم تمتد إلى تغييرها يد، ودارت بها الزيادة النبيهة والبُلاطات من جهاته. وبصحن هذا المسجد جِبَابٌ للماء ينتابها الناس لسقيهم ووضوئهم فَيَحسِبُهُم. ويقابل القبلة من جوفي الصحن زاوية بها فقراء يدعون ذكرًا لله، فَيُعاطَوْن مقام التوكل، فلا يُغبُّ عنهم التفقد.
وبهذه البلدة، المدرسة والمارستان، وعليها مسحةٌ من قبول الله. وهواؤها أطيب أهوية البلدان، يستدعى الدثار في القيظ لبرده ولطيف مسراه. وتردد بها إليّ صاحب السوق ومقيم رسم المارستان، الشيخ الحاج أبو الضياء منير بن أحمد بن محمد ابن منير الهاشمي الجزيري، من أهل الظَّرف والخيريَّة والتمسك بأذيال أهداب الطَّلب. حَسَنُ الخطّ جميل العشرة، خفيفٌ في سبيل المشاركة. نشأ بالخضراء، وحضر حصارها، وحج وخدم الصاحب بدمشق فأحظاه. أنشدني من شعره يخاطب السلطان عند قدومه من الحج قوله:
قدموا عليك عَقِبَ حَطِّ حُمُولِ ... زِوارُ خيرٍ منبئٍ ورسول
شُّعْثًا على حُبِّ التحية ترتمي ... بهُم لبابك في ذُرًى وسهول
ليكون خاتمةَ الكمال ومِسْكَهُ ... تقبيلُ كَفِّكَ في بساط قَبول
من قصيدة جارية على هذا الأسلوب. مولده بالخضراء عام خمسة وسبعمائة.
وكان الرحيل يوم السبت الخامس والعشرين من الشهر المذكور إلى منزل ينسب لأبي خَدُّو فيه رجل من بني المنسوب إليه اسم يعقوب، طِرْفٌ في الجود زعموا جرَّ بذلك المرزأة إلى عتاده. فألطف وأجزل ورتب الحرسة وآنس في الليل وطلبني بتذكرة تُثْبِتُ عندي معرفته في الآتي، فكتبت له:
نزلنا على يعقوب نجل أبي خَدُّو ... فعرفنا الفضل الذي ما له حدُّ
وقابلنا بالبشر واحتفل القِرَى ... فلم يبق لحم لم نَتَلْهُ ولا زُبْدُ
يحق علينا أن نقوم بحقه ... ويلقاه منّضا البِرُّ والشكر والحمد
قيل لبشار بن برد، بينما أنت تقول:
إذا ما غضبنا غضبةً مضريةً ... هتكنا حجاب الشمس أو قَطَرَتْ دمًا
ثم تقول:
ربَابة ربةُ البيت ... تصب الخلَّ في الزيت
لها سبعُ دجاجات ... وديك حسنُ الصوت
فقال، قلت ذلك أخاطب امرأة من البادية في خيمة قرتني بدجاجة وبيض كانت لديها أحسن من: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
ثم سافرنا منه إلى سور موسى من مجامع دُكاَّلَة، وهو حَلْقٌ ذو شرفات وأبراج، بادي الانثلام والتشعيث غير حرز الغلق لجهل هذه الأمة المُصْحِرة بالتحصين، وهو بعض ما يلجأ إليه أهل هذا الوطن المتكاثف العمارة، الجمِّ الماشية، المُنْبَثِّ الحِلَل، الغاصِّ على انفساح مداه بالراغية والثاغية والصاهلة والناهقة، البالغ عدد أزواجه لإثارة الأرض ومعالجة الحرث، ثلاثة آلاف زوج من أزواج الثيران تثير أرضه وتعالج حرثه، يُتَحَرَّم به عند الغارة الشعواء المُصْمَئِلَّة يطرقهم بها عدوُّهم من بني الحارث وأحلافهم من سكان السهل والجبل فَيَسُدُّ عندها. وعلى ذلك فهم لحم على وَضَم ولقمة بين لَحْيَيْنِ، ويخارجه سوق جامعة يُحْشَر إليها الناس ضحى، ويتقاطرون من كل مَرْمىً يَمْثُلون في صعيد واحد، قد خيمت تجارتهم وظلوا، ولا ينفضُّ الجمع إلا مع انقضاء بياض يوم.
1 / 11
وقد كان رُفع إلى السلطان المُغْرّى بالبناء وتخليد الآثار أبي عنان ﵀، خَبَرُ ما عليه الناس من إخافة عدوهم، واهتضام عَرْصَتِهم واستهداف عَقْوَتِهم، فأمر بارتياد مَحَلٍّ لتأسيس مدينة، فاختير على غَلواتٍ منهم، محلٌ أرضه صخر منطبق على تراب، يتأتى فيه اتخاذ الخندق غير مثلوم الشفا، بعيد المَهْوَى، يبني السور بما يخرج منه من الثرى ويصون الأطباق المعدة للاختزان عن أضرار السماء، ويكون سطح الأرض على خمس قامات من منبع الماء. فشُرع في البناء واستُبعد الفضاء، وَمَثلَتْ الأبواب العديدة، والأبراج المشيدة. وعاق عن إتمامها هجوم حِمامِه وانصرام أيامه، فرغب أهله في التنبيه على تكميل نقيصته واحتياز حسنته.
وتلقانا مشرف المَحْبَى بها الشيخ الفقير الخير أبو عبد الله اللَّجَائي، قريع الأمانة والفضل، العف اليد، الحَصُور عن مساس الجباية، المتَّصلِ الاستعمال باستصحاب الحال الرقيقة، وسقوط التهمة من أهل الطلب والسذاجة وحسن العهد وكرم العِشْرة، الجواد على كونه مَنِينًا عدم العتاد في حال الكِبْرة. تلقانا في جملة من أتباعِ الخِدْمة، ثم تلاهم مركب القاضي والعدول، وقاضيها الحاج أبو عبد الله محمد ابن سعيد بن عثمان بن سعيد الصنهاجي الزَّمُّوري، رجل مختصر البنية والثوب قد طرقه الوَخْطُ على حداثة، يحفظ غُثاءً من منقول كتب التفسير وغيرها، ذاكرٌ لمسائل متعددة، مسترسل اللسان في أسلوب يفضحه الإعراب عادةً لا جهلًا بقانون النحو. شموسٌ عند المذاكرة في المسائل العلمية، أطرفَ بحديث رحلته. ولما نزلنا خَنَس فلم نسمع له ذكرًا إلى أن شيَّعنا من الغد، فَسَعَّطْتُهُ بخردل العَتْب ديدني في مقصِّري هذا الصِّنق القَمنْ بفعل الأغنياء في البر المستحق لولا رؤية الفضل لنفسه بمزية الفضل، فَزَلَّة العالم معروفة بعدم الإقالة، فاستعتب واعترف، وسألته الإجازة فيما يحمله، واكتتاب شيء من منظومة الكثير، وقد سَمَّى موضوعات ذكرها من تأليفه فوعد بذلك مُطَيِّرًا به إلى محل المبيت ليلتئذ. وتلاحق بي رسوله بنزرٍ يتضمن ذكر أشياخ أكثرهم غير مسمَّى، وجلب شيئًا من حاله حتى عن القابلة التي التقطته ورؤيتها إياه على هيئة عن المُكَلَّف المخاطَب بوظائف الشريعة من سجود ورفع يد إلى السماء، إلى أمثال هذا. فخاطبته وأعدت الرسول إليه بقولي:
أليس قليلٌ نظرةً إن نظرتها ... إليك وكلا ليس منك قليل
وصَلَتْ أيُّها الفاضل رُقْعَتُك التي تضمنت الفوائد، وَصِلَتُك التي استصحبت العائد، وشاهد فضلك الذي بين تصريفه الأصلي والزايد، متفننة في ضروب لا تجنح شمسها لغروب، هزت ألحانها مني عِطْفَىْ طَروب، واستقر قِراها بين يدي أكول لمثلها وشروب. فلله ما تضمنت من فوائد رحلة حجازية لَبِسَتْ من حسن الحِجَى زِيَّه، وذِكر أعلام وأركان استلام إلا أنها كانت كَلَيْلَةِ الوصل ما عابها إلا القِصَر، فَلَوَدِدْتُ أن لو أمدها بسواده مني القلبُ أو البصر. بَخَسَ وزنها الاختصار لا بل الاقتصار، وافتقرت إلى شرحٍ يقع به على مُتَعَاصِي معانيها الانتصار، ووعد المجلس القاضوي باكتتاب شيء من منظومه بعد اعترافه بأنه كثير ومهاد وثير فما كان إلا الوعد، والأخلافُ من بعد:
يا لُوَاةَ الدَّيْن عن مَيْسَرَةٍ ... والضنينات وما كنَّ لئاما
والظن بسيدي أنه دعا عند شربه من بئر الحَرَم، بأن تُرفَع عنه مؤنة الكرم، فأُجِيبَتْ الدعوة كما ورد، واستقام العمل واطرد، فكان اللقاء على مسافة قصيرة، وملاحظة البر بمُقْلةٍ غير بصيرة، والزيارة مُزْوَرَّة، وأظنه لاحظ بيت شاعر المعرة:
لو اختصرتم من الإحسان زُرْتُكُم ... والعذب يُهجر للإفراط في الخَصَرِ
1 / 12
والقِري قد كُفِي القاضي والحمد لله مؤنته الثقيلة، ولم يُحْوَج إلى تشويش العقل واستخدام العقيلة، وهذا القِسْم غير معدود ولا تقع المشاحَّةُ إلا في مَوْدود. وَهمَّ بتحفة شعره ثم قال بالبداء وناداه الإنجاز فصمَّ عن النداء فاطَّرد باب الشُّحِّ حِسًَّا ومعنى، وموحدًا ومثنى حتى دُكَّالة، شرَّابةٌ لسَرْو القضاة أكَّالة، وبيدها لتحجير أيديهم وكالة. وهذه الحركة كانت لمحبة حركة الفتح، ووجهة المد والمنْح، فلو لم يقع فيها بُخْلُه تَمِيمة، لَلَقَعَتْها العين وعَسُر الهَيْن، والقاضي أعزه الله كمال، وعيب الكمال لا يُنكر، والغالب الفضل، وغير الغالب لا يذكر، وهو على التَّافه يُشكر. داعبتُه حفظه الله مداعبة من يعتقد خلاف مقاله، ويَرْجُح القناطر المقنطرة بمثقاله، ولا يقول في حال سَرْوه بانتقاله، ومع اليوم غد، ولكل شيء أمَد، ويُرجَّى أن يمتع الله منه بوقت يقع فيه استدراك، ويرتفع باختصاص النزول لديه اشتراك إن شاء الله.
وكان المبيت بحصن أسَايس من حصون دُكَّالة شأنه ما قبلُه بطلل، دار عادية ملوكية الوضع، تنسب لأحد أشياخ الوطن ممن غَمَسَ يده من الجباية في الدم والفَرْث تدل على انسحاب دنيا كانت سحابة صيف، والله يتجاوز عما جرت من نكير، فهو الذي يؤاخذ بما كسبت الأيدي ويعفو عن كثير.
ورحلنا من الغد ف يسهل اقتحمنا به حدود الصَّناهِجَة، وبتنا بموضع يعرف باسكاون بازاء رَجُلٍ مُنْتَمٍ للصوفية أَعجم اللسان، قام بالنزول على خصاصة واضطرار، فأنَبْنَا له واحتسبنا كَدْحه.
وعُدنا من الغد إلى أزَمُّور، فرأينا صدق المثل في قولهم العود أحمد، فتلقينا بها أصناف الفضلاء مصحرين، ولوظائف البر متممين، وقاهم الله معَرَّات السنين، وكرَّم وجوههم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه في يوم العرض والدين.
وبرز إلينا الحسن بن يحيى بن حَسُّون، فتى الفتيان بالمغرب، وغاية السَّرو، وآية المروءة، والمثل البعيد في الإيثار على الخصاصة، ومخجل الضيف وريحانة التلطف، فأربى الخُبْرُ على الخَبَر والحمد لله.
وكان السفر عن تشييع تتعلق بالأهداب أظفاره، وفضل عمَّ الخافقين اعتذاره وأوجب ذلك ما خاطبتهم به:
إحسانكم يا بني يحيى بن حسُّون ... أزرَى على كل منثور وموزون
قد جددت زينةَ الدنيا برامكةٌ ... منكم مكارِمُها لم ترض بالدون
أبناء يحيى وَقَتْهُمْ كلما وُلدُوا ... عناية الله من موسى وهارون
بالأحسن الندب زاد الله بيتكم ... حُسنًا فأهلًا بطلْق الوجه ميمون
ما زالَ يكْلَفُ بالعَليا ويُمْحَضُها ... هوى يعود على الأموال بالهون
ما زلتُ أسمع عنكم كل مكرَمة ... والآنَ كم بين معلوم ومظنون
أثْرَتْ بكم كفُّ أزمور دياركم ... فأيُّ دُرٍّ بصون المجد مكنون
أبقاكم الله في سعدٍ عقائله ... تبدي لكم غرر الأبكار والعون
وردَّني لبلادي شاكرًا لكُمُ ... بأمر ربي بين الكاف والنون
إلى مدينة آنفا، واستدرك استدعائنا منهم إلى كل احتفاء واحتفال، أفاضل ذهبوا من البر كلَّ مذهب كالقاضي بها الشيخ الفقيه الحاج البادي القشف والسذاجة أبي بكر عثمان بن صالح المْسراتي المراكشيِّ النشأة، قرأ بمراكش على أبي الحسن المُرسي وأبي عبد الله العَبْدَري؛ وبحَاحَة، على أبي زكريا يحيى ابن سعيد، وأبي زيد بن عبد الله وأخيه أبي بكر. وبأغمات: على أبي العباس المعروف بأيَّزْم. وحج سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، ووَليَ القضاء بقصر كتامة، وحصن القاهرة وأزمور وآنفا. وأقرأ بمدرستها كتاب أبي عمرو بن الحاجب. مولده في حدود عشرة وسبعمائة. والعدل السريّ أبي العباس أحمد بن شرف بن علي السَّلي من أهل تامسنا، نبيه المسكن فَعْم الخوان، مُنْجِبِ غلمان. والعدل الفاضل أبي العباس أحمد بن أبي بكر بن موسى البرغَواطي خير منقبض متحلٍّ بسكينة. والشيخ الخطيب الخَيِّر أبو الحسن علي بن أبي حَدّوا الأصيل البيت النابه الأبوَّة المحمول عليه في سبيل بغي زعموا. والنجباء السراة أولاد الفقيه القاضي الرائق الخط، الجَمَّاعة للدفاتر، الموسوم بالرجاحة أبي علي عمر بن محمد الزناتي، كافأ الله ما بذلوا من رغبة، وخَطَوْا من إلمام.
فصل في ذكر العودة إلى مدينة سلا
1 / 13
ثم كان الارتحال إلى التربة المولوية المحترمة بشالة - فألقيت بها البَرْك، وحططت الرَّحْلَ، وَفَصَّلْت الخطة، وخاطبت اللسان المنعم المولى بما نصه بعد البسملة:) مولاي، المرجو المؤمَّل لإتمام الصنيعة، وصلة النعمة وإحراز الفخر، أبقاكم الله تضرب بكم الأمثال في البر والرضا وعلو الهمة ورعي الوسيلة، مقبِّل موطئ قدمكم، المنقطع إلى تربة المولى والدكم، ابن الخطيب، من الضريح المقدس بشالة وقد حط رحل الرجاء في القبة المقدسة وتذمم بالتربة الزكية وقعد بازاء لحد المولى أبيكم ساعة إيابه من الوجهة المباركة، وزيارة الرّثبُط المقصودة والتُرَب المعظمة، وقد عزم ألاَّ يبرح طوعًا من هذا الجوار الكريم والدخيل المرعي، حتى يصله من مقامكم ما يناسب هذا التطارح على قبر هذا المولى العزيز على أهل الأرض، ثم عليكم والتماس شفاعته في أمر يسهل عليكم لا يجرُّ إنفاذَ مال، ولا اقتحام خطر ولا التهجم على خطة، إنما هو إعمال لسان، وخط بنان، وصرف عزم وإحراز فخر وأجر، وإطابة ذكر. وذلك أن العبد عرفكم يوم وداعكم أنه ينقل عنكم إلى المولى المقدس والدكم بلسان المقال ما يَحضُر مما يفتح الله فيه ثم ينقل عنه لكم بلسان الحال ما يتلقى عنه من الجواب، وقال لي صدر دولتكم وخالصتكم وخالصة المولى والدكم سيدي الخطيب) يعني ابن مرزوق (سنّي الله أمله من سعادة مقامكم وطول عمركم:) يا فلان، أنت والحمد لله ممن لا ينكر عليه الوفاء بهذين الغرضين (، وصدر عنكم من البشر والقبول والإنعام ما صدر، جزاكم الله جزاء المحسنين، وقد تقدم تعريف مولاي بما كان من قيام العبد بما نقله إلى التربة الزكية عنكم حسبما أدَّاه من حضر ذلك المشهد من خدامكم، والعبد يعرض عليكم الجواب وهو: إني لما فرغت من مخاطبته بمرأى من الملأ الكبير، والجم الغفير، أكببت على اللحد الكريم داعيًا ومخاطبًا. وأصغيت بأذني عند قبره وجعل فؤادي يتلقى ما يوحيه إليه لسان حال فكأني به يقول لي:) قل لمولاك يا ولدي وقرة عيني المخصوص برضاي وبري الذي ستر حريمي وردّ ملكي وصان أهلي وأكرم صنائعي ووصل عملي، أسلّم عليك وأسأل الله أن يرضى عنك ويُقبل عليك) الدنيا دار غرور، والآخرة خير لمن اتقى (.) وما الناس إلا هالك وابن هالك (
1 / 14
ولا تجد إلا ما قدمت من عمل يقتضي العفو والمغفرة، أو ثناء يجلب الدعاء بالرحمة. ومثلك من ذُكِّر فتذكر وعُرِّفَ فما أنكر، وهذا ابن الخطيب وقف على قبري وتهمَّم بي، وسبق الناس إلى رثائي، وأنشدني ومجدَّني وبكاني ودعا لي وهنأني بمصير أمري إليك، وعفر وجهه في تُربي، وأمَّلني لمّا انقطعت مني آمال الناس، فلو كنت يا ولدي حيًا لما وسعني إلا أن أعمل معه ما يليق بي، وأن أستقل فيه الكثير، وأحتقر العظيم، لكن لما عجزت عن جزائه، وكلتهُ إليك وأحلته يا حبيب قلبي عليك، وقد أخبرني أنه سليبُ المال، كثيرُ العيال، ضعيف الجسم، قد ظهر في عدم نشاطه أثر السن، وأمَّل أن ينقطع بجواري ويستتر بدخيلي وخِدْمتي ويرّد عليه حقه ووجوه من ضاجعني من سَلفي، ويعبد الله تحت حُرمَتك وحرمتي. وقد كنت تشوفت إلى استخدامه في الحياة حسبما يعلمه حبيبنا الخالصُ المحبة، وخطيبنا العظيم المزية، القديم القُربة، أبو عبد الله بن مرزوق فاسألهُ يُذكّرْك، واستخبره يخبرك، فأنا اليوم أريد أن يكون هذا الرجل خديمي بعد الممات إلى أن نلحق جميعًا برضوان الله ورحمته التي وسعت كل شيء. وله يا ولدي ولد نحيف يخدم ببابك، وينوب عنه في ملازمة بيت كُتّابك، وقد استقر بدارك قراره، وتعيَّن بأمرك مرتبَّه ودثاره، فيكون الشيخ خديم الشيخ، والشباب خديم الشباب، هذه رغبتي منك وحاجتي إليك، واعلم أن هذا الحديث لا بد أن يُذكر ويُتحدث به في الدنيا وبين أيدي الملوك والكبار، فاعمل ما يبقى لك فخره، ويتخلّد ذكره، وقد أقام مجاورًا ضريحي تاليًا كتاب الله عليّ، منتظرًا ما يصله منك ويقرؤه عليَّ من السَّعي في خلاص ماله والاحتجاج بهذه الوسيلة في جبره، وإجراء ما يليق بك من الحرمة والكرامة والنعمة، فالله الله يا إبراهيم، اعمل ما يُسمع عني وعنك فيه، ولسان الحال أبلغ من لسان المقال،: انتهى. والعبد يا مولاي مقيم تحت حرمته وحرمة سلفه منتظر منكم قضاء حاجته، ولتعلموا وتتحققوا أني لو ارتكبت الجرائم، ورزأت الأموال، وسفكت الدماء، وأخذت حسائِفَ الملوك الأغرة ممن وراء النهر من التَّطَر، وخلف البحر من الروم، ووراء الصحراء من الحبشة وأمكنهم الله مني من غير عهد، بعد أن بلغهم تذدُّمي بهذا الدخيل، ومقامي بين هذه القبور الكريمة، ما وسع أحدًا منهم من حيث الحياء والحشمة من الأموات والأحياء وإيجاب الحقوق التي لا يغفلها الكبار للكبار، إلا الجود الذي لا يتعقبُه البُخل، والعفو الذي لا تفسده المؤاخذة، فضلًا عن سلطان الأندلس، أسعده الله بموالاتكم، فهو فاضل وابن ملوك أفاضل، وحوله أكياسٌ ما فيهم من يجهل قدركم وقدر سلفكم لا سيما مولاي والدكم الذي أتوسل به إليكم وإليهم، فقد كان يتبنّى مولاي أبا الحجاج ويشمله بكنفه، وصارخه بنفسه، وأمدَّه بأمواله، ثم صيَّر الله ملكه إليكم وأنتم من أنتم ذاتًا وقبيلًا، فقد قرَّت يا مولاي عين العبد بما رأت بهذا الوطن المراكشي من وفور حُشودكم وكثرة جنودكم، وترادف أموالكم وعُدَدِكم، زادكم الله من فضله. ولا شك عند عاقل أنكم إن انحلّت عروة تأميلكم أو أعرضتم عن ذلك الوطن، استولت عليه يد عدوه، وقد علم تطارحي بين الملوك الكرام الذين خضعت لهم التيجان، وتعلقي بثوب الملك الصالح والد الملوك مولاي والدكم، وشهرة حُرْمةِ شالَة معروفة، حاشَ لله أن يضيعها أهل الأندلس، وما تُوسل إليهم قط بها إلى الآن، وما يجهلون اغتنام هذه الفضيلة الغربية. وأملي منكم أن يتعين من بين يديكم خَديمٌ بكتاب كريم يتضمن الشفاعة في ردِّ ما أُخِذَ لي، ويخر بمثواي متراميًا على قبر والدكم ويقرر ما لَزِمكم بسبب هذا الترامي من الضرورة المهمة والوظيفة الكبيرة عليكم، وعلى قبيلتكم حيث كانوا، وتطلبون منهم عادة المُكارَمَة بحل هذه العقدة. ومن المعروم أني لو طلبت بهذه الوسائل من صُلب ما لهم، ما وَسِعَهُمْ بالنظر العقلي إلا حفظُ الوجه مع هذا القبيل وهذا الوطن، فالحياء والحشمة يأبيان العذر عن هذا القبر الكريم بي وتعينوني لخدمة هذا المولى وزيارته وتَفَقُّدِه ومدح النبي ﷺ ليلة المولد في جواره وبين يديه، وهو غرض غريب مناسبٌ لِبركم به إلى أن حج بيت الله بعناية مقامكم وأعود داعيًا مُثنيًا مستدعيًا للشكر والثناء من أهل المشرق والمغرب، وأتعوض من ذمتي بالأندلس ذمة عند الرباط
1 / 15
المبارك ترثها ذريتي. وقد ساوَمْتُ في شيء من ذلك منتظرًا ثمنه مما يباع بالأندلس بشفاعتكم، ولو ظننت أنهم يتوقفون لكم في مثل هذا، أو تُتوقع فيه وحشة أو جفاء، والله ما طلبته، لكنهم أسرى وأفضل. وانقطاعي أيضًا لوالدكم معًا لا يسع مجدكم إلا عمل ما يليق بكم فيه، وهاأنا أرتقب جوابكم بما لي عندكم من القبول، وَيسعني مجدكم في الطلب وخروج الرسول لاقتضاء هذا الغرض والله يطَّلع من مولاي على ما يليق به والسلام.
وكتب في الحادي عشر من شهر رجب عام أحد وستين وسبعمائة وفي مُدرج الكتاب بَعْدَ نَثْرٍ اختصرناه:
مَوْلاَيَ هَا أنَا فِي جِوَارِ أَبِيكَا ... فَابذُلْ مِنَ البِرِّ المُقَدَّرِ فِيكَا
أَسْمِعْهُ مَا يُرْضيهِ مِنْ تَحْت الثَّرَى ... واللهُ يُسمعُك الَّذِي يُرْضِيكَا
واجْعَلْ رِضَاهُ إذا نَهَدْتَ كتيبةً ... تُهْدِي إلْيكَ النَّصْر أو اتَهْدِيكَا
واجْبُرْ بِجَبْرِي قَلْبَه تَنَلِ المُنَى ... وتُطَالِعِ الفَتْحَ المُبِينَ وشيكا
فهو الذي سنّ البُرورَ بأُمِّهِ ... وأَبِيه فاشْرَع شَرْعَه لِبَنِيكَا
وابْعَثْ رَسُولَكَ مُنْذِرًا ومُحَذِّرًا ... وَبِمَا تُؤَمِّلُ نَيْلَهُ يَأْتِيكَا
قد هَزَّ عَزْمُكَ كُلَّ قطرٍ نَازِحٍ ... وأَخَاَفَ مَمْلُوكًا بِه وَمَلِيكَا
فَإِذَا سَمَوْتَ إلَى مَرَامٍ شَاسِعٍ ... فَغُصُونُهُ ثَمَرَ المُنَي تُجْنِيكَا
ضَمِنَتْ رِجَالُ اللهِ مِنْكَ مَطَالِبِي ... لمَّا جَعَلْتُكَ في الثَّوَابِ شَرِيكا
فَلَئِنْ كَفَيْتَ وُجُوهَهَا فِي مَقْصِدِي ... وَرَعَيْتَها بركاتُها تَكْفِيكاَ
وإذا قَضَيْتَ حَوائِجي وأَرَيْتَنِي ... أملًا فَرَبُّكَ مَا أَرَدْتَ يُرِيكَا
واشْدُدْ عَلَى قَوْلِ يدًا فَهُوَ الذي ... بُرْهَانُه لاَ يَقْبَلُ التّشْكِيكاَ
مَوْلاَيَ ما اسْتَأثَرْتُ عَنْكَ بِمُهْجَتِي ... أَنَّى وَمُهْجَتيَ الَّتِي تَفْدِيكَا
لَكِنْ رأيتُ جَنَابَ شَلَّةَ مَغْنمًا ... يُضْفي عَلَيَّ العِزَّ في نَادِيكَا
وفُرُوضُ حَقِّكَ لاَ تَفُوتُ فَوَقْتُها ... باقٍ إذَا اسْتَجْزَيْتَهُ يَجْزِيكَا
وَوَعَدْتَنِي وَتَكَرَّرَ الوَعْدُ الَّذِي ... أَبَتِ المَكَارِمُ أَنْ يَكُونَ أَفِيكَا
أَضْفَى عَلَيْكَ اللهُ سِتْرَ عِنَايَةٍ ... مِنْ كُلِّ مَحْذُورِ الصُّرُوفِ يَقِيكَا
بِبَقَائِكَ الدُّنْيَا تُحَاطُ وَأَهْلُهَا ... فاللهُ جَلَّ جَلاَلُهُ يُبْقِيكَا
فوردت المراجعة المولوية بما نصه بعد البسملة والتصلية: من عبد الله المستعين بالله إبراهيم أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي الحسن بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، أبي سعيد بن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أيَّد الله أمره وأعز نصره، إلى الشيخ الفقيه الأجل السني الأعز الأحظى الأوجه الأنوه الصدر الأحفل المصنف البليغ الأعرف الأكمل أبي عبد الله ابن الشيخ الأجل الأعز الأسنى الوزير الأرفع الأمجد الأصيل الأكمل المبرور المرحوم أبي محمد بن الخطيب، وصل الله عزته، ووالى رفعته: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1 / 16
أما بعد حمدِ الله تعالى، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم المصطفى والرضا عن آله وصحبه أعلام الإسلام وأئمة الرشد والهدى وصلة الدعاء لهذا الأمر العلي العزيز المنصور المستعيني بالنصر الأعز والفتح الأسنى، فإنَّا كتبناه إليكم - كتب الله لكم بلوغ الأمل، ونجح القول والعمل - من منزلنا الأسعد بضفة وادي ملوية يمّنه الله، وصُنع الله جميل، ومَنُّه جزيل، والحمد لله، ولكم عندنا المكانة الواضحة الدلائل، والعناية المتكفلة برعي الوسائل، ذلكم لِمَا تميزتم به من التمسك بالجناب العلي، المولوي العلوي، جدد الله عليه ملابس غفرانه، وسقاه غيوث رحمته وحنانه. وما أهديتم إلينا من التقرب إلينا بخدمة ثراه الطاهر، والاشتمال بمطارف حرمته السامية المظاهر، وإلى هذا، وصل الله حظوتكم ووالى رفعتكم، فإنه ورد علينا خطابكم الحسن عندنا قصدُه المُقابل - بالإسعاف المستعذب ورده، فوقفنا على ما نصه واستوفينا ما شرحه وقصه، فآثرنا حسن تلطفكم في التوسل بأكبر الوسائل إلينا، ووعينا أكمل الرعاية حق ذلكم الجناب العزيز علينا، وفي الحين عيَّنا لكمال مطلبكم، وتمام مأربكم والتوجه بخطابنا في حقكم والاعتمال بوفقكم، خديمنا أبَا البقاء بن تاسكورت وأبا زكريا بن فرقاجة أنجدهما الله وتولاهما.. وأمس تاريخه انفصلا مودّعين إلى الغرض المعلوم، بعد التأكيد عليهما فيه، وشرح العمل الذي يوفيه، فكونوا على علم من ذلكم، وابسطوا له جملة آمالكم، وإنا لنحتسب ثواب الله في جبر أحوالكم وبرء اعتلالكم، والله سبحانه يصل مبرتكم ويوالي تكرمتكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتب في الرابع والعشرين لرجب عام أحد وستين وسبعمائة. فراجعت أيده الله وشَكَر نعمته بما نصه: مولاي خليفة الله بحق، وكبير ملوك الأرض حجّة، ومعدن الشفقة والحرمة ببرهان وحكمة، أبقاكم الله عالي الدرجة في المنعِمين، وافر الحظ عند جزاء المحسنين، وأراكم ثمرة بِرّ أبيكم في البنين، وصنع لكم في عدوكم الصنع الذي لا يقف عند معتاد، وأذاق العذاب الأليم من أراد في مثابتكم بإلحاد، عبدكم الذي ملكتم رِقَّه، وأويتم غربته، وسترتم أهله وولده، وأسنيتم رزقه، وجبرتم قلبه، يقبل موطئ الأخمص الكريم من رجلكم الطاهرة، المستوجبة بفضل الله لموقف النصر، الفارعة هضبة العز، المعملة الخطو في مجال السعد، وميَّسر الحظ فلان: من شالة التي تأكد بمُلْكِكُم الرِّضيِّ احترامها وتجدد برعيكم عهدها واستبشر بمُلْكِكُم دفينها، وأشرق بحسناتكم نورها، وقد ورد على العبد الجواب المولوي البر الرحيم، المنعم المحسن بما يليق بالمُلك الأصيل، والقدر الرفيع، والهمة السامية، والعزة القعساء، من رعى الدخيل والنصرة للذمام، والاهتزاز لبر الأب الكريم، فثاب الرجاء، وانبعث الأمل وقوى القصد، وزار اللطف فالحمد لله الذي أجرى الخير على يدكم الكريمة، وأعانكم على رعي ذمام الصالحين، المتوسل إليكم أولًا بقبوركم، ومتعبداتهم وتراب أجداثهم، ثم بقبر مولاي ومولاكم ومولى الخلق أجمعين الذي تسبب في وجودكم، واختصكم بحبه، وغمركم بلطفه وحنانه، وعلمكم آداب الشريعة، وأورثكم ملك الدنيا، وهيأتكم دعواته بالاستقامة إلى ملك الآخرة بعد طول المدى وانفساح البقاء، وفي علومكم المقدسة ما تضمنت الحكايات عن العرب من النصرة عن طائر داست أفراخه ناقة في جوار رئيس منهم، وما انتهى إليه الامتعاض لذلك مما أُهِينَتْ فيه الأنفس وهلكت الأموال، وقُصارى من امتعض لذلك أن يكون كبعض خدامكم من عرب تامسنا فما الظن بكم وأنتم الكريم ابن الكريم ابن الكريم فيمن لجأ أولًا إلى حماكم بالأهل والولد عن حسنة تبرعتم بها، وصدقة حملتكم الجرية على بذلها؟ ثم فيمن حطّ رحل الاستجارة بضريح أكرم الخلق عليكم دامع العين خافق القلب دامي القرحة، يتغطى بردائه، ويستجير بعليائه، كأنني تراميت عليه في الحياة أمام الذعر الذي يذهل العقل، ويحجب عن التمييز، بقصر داره ومضجع رقاده. ما مِنْ يوم إلا وأجهر بعد التلاوة بلفظ: يا آل يعقوب، يا آل مرين نسأل الله أن لا يقطع عني معروفكم ولا يسلبني عنايتكم، ويستعملني ما بقيت في خدمتكم، ويتقبل دعائي فيكم.
1 / 17
ولحين وصول الجواب الكريم نهضت إلى القبر المقدس ووضعته وبازائه، وقلت: يا مولاي يا كبير الملوك، وخليفة الله، وبركة بني مرين، صاحب الشهرة والذكر، في المشرق والمغرب، عبدك المنقطع إليك، المترامي بين يدي قبرك المتوسل إلى الله ثم إلى ولدك بك، ابن الخطيب، وصله من مولاه ولدك ما يليق بمقامه من رعى وجهك والتقرب إلى الله برعيك، والاشتهار في شرق الدنيا وغربها بِبِرِّك، وأنتم من أنتم من إذا صنع صنيعة كمّلها وإذا بدأ منَّةً تممها، وإذا أسدى يدًا أبرزها طاهرة بيضاء غير معيبة ولا ممنونة ولا منتقصة، وأنا بعد، تحت ذيل حرمتك وظل دخيلك، حتى يتم أملي، ويخلص قصدي، وتحف نعمتك بي، ويطمئن إلى نائلك قلبي، ثم قلت للطلبة: أيها السادة بيني وبينكم تلاوة كتاب الله تعالى منذ أيام ومناسبة النحلة وأخوّة التآلف بهذا الرباط المقدس والسكنى بين أظهركم، فأَمَّنوا على دعائي بإخلاصٍ من قلوبكم. واندفعتُ في الدعاء والتوسل بما ترجو أن يتقبّله الله ولا يضيعه، وخاطب العبد مولاه شاكرًا لنعمته مشيدًا بصنيعته مسرورًا بقبوله، وشأنه من التعلق والتطارح شأنه حتى يكمل القصد ويتم الغرض، معمور الوقت بخدمة يرفعها ودعاء يردّده والله المستعان.
تهنئة ابن الخطيب للسلطان أبي سالم المريني بمناسبة فتح تلمسان
وفي يوم الخميس السابع عشر من شعبان من هذا العام ورد كتاب فتح تلمسان فأصدرت إلى بابه العلي ما نصه: مولاي فتاح الأقطار والأمصار، فائدة الأزمان والأعصار، أثير هيات الله الآمنة من الاعتصار، قدرة أولي الأيدي والأبصار، ناصر الحق عند قعود الأنصار، مستصرخ الملك الغريب من وراء الأبحار، مصداق دعاء الأب المولى في الأصائل والأبكار، أبقاكم الله لا تقف إيالتكم عند حد، ولا تحصى فتوحات الله عليكم بعَدّ، ولا تفيق أعداؤكم من كد، ميسرًا على مقامكم ما عسر على كل أب كريم وجد، عبدكم الذي خلص إبريز عبوديته لملك ملككم المنصور، المعترف لأدنى رحمة من رحماتكم بالعجز عن شكرها والقصور، الداعي إلى الله سبحانه أن يقصر عليكم سعادة العصور، ويذل لعز طاعتكم أنْفَ الأسد الهصور، ويبقى الملك في عقبكم وعقب عقبكم إلى يوم ينفخ في الصور.
1 / 18
فلان، من الضريح المقدس بشالة، وهو الذي تعددت على المسلمين حقوقه وسطع نوره وتلألأ شروقه، وبلغ مجده السماء لما بسقت فروعه، ووشجت عروقه، وعظم ببنوتكم فخره، فما فوق البسيطة فخر يفوقه، حيث الجلال قد رست هضابه، والملك قد كسيت بأستار الكعبة الشريفة قبابه، والبيت العتيق قد ألحفت الملاحف الأمامية أثوابه، والقرآن العزيز ترتل أحزابه، والعمل الصالح يرفع إلى الله ثوابه، والمستجير يخفي بالهيبة سؤاله، فيجهر بنعرة العز جوابه. وقد تفيأ من أوراق الذكر الحكيم حديقة، وخميلة أنيقة، وحط بجُوديّ الجود نفسًا في طوفان الضر غريقه، والتحف رفرف الهيبة الذي لا تهتدي النفس فيها إلا بهداية الله طريقه، واعتز بعزة الله وقد توسط جيش الحرمة المرينية حقيقة، إذ جعل المولى المقدس المرحوم أبا الحسن مقدمه وأباه وجده سيقة يرى بركم بهذا اللحد الكريم قد طنب عليه من الرضا فسطاطًا، وأعلى به يد العناية المرينية اهتمامًا واغتباطًا، وحرر له أحكام الحرمة نصًا جليًا واستنباطًا، وضمن له حسن العقبى التزامًا واشتراطًا، وقد عقد البصر بطريق رحمتكم المنتظرة المرتقبة، ومد اليد إلى لطائف شفاعتكم التي تتكفل بعتق المال كما تكلفت بعتق الرقبة، وشرع في المراح بميدان نعمتكم بعد اقتحام هذه العقبة لما شنفت الآذان البشرى التي لم يبق طائر إلا سجع بها وصدح، ولا شهاب دُجُنّة إلا اقتبس من نورها واقتدح، ولا صدر إلا انشرح، ولا غصنٍ عِطْفٍ إلا مرح، بشرى الفتح القريب، وخبر النصر الصحيح الحسن الغريب، ونبأ الصنع العجيب، وهدية السميع المجيب. فتْحُ تلمسان الذي قلد المنابر عقود الابتهاج، ووهب الإسلام منيحة النصر غنيةً عن الهياج، وألحف الخلق ظلًا ممدودًا، وفتح باب الحج وكان مسدودًا، وأقر عيون أولياء الله الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا، وأضرع بسيف الحق جباهًا أبيَّةً وخدودًا، وملككم حق أبيكم الذي أهان عليه الأموال، وخاض من دونه الأهوال وأخلص فيها الضراعة والسؤال، من غير كد يغمز عِطف المسرة، ولا جهد يكدر صفو النعم الثرَّة، ولا حَصَر ينفض به المنجنيق ذرابته، ويظهر بتكرر الركوع إنابته.
فالحمد لله الذي أقال العثار ونظم بدعوتكم الانتثار وجعل ملككم يجدد الآثار ويأخذ الثار، والعبد يهنئ مولاه بما أنعم الله عليه ووالاه، وما أجدره بالشكر وأولاه، فإذا أجال العبيد قداح السرور فللعبد المُعَلّى والرقيب، وإذا استَهَموا حظوظ الجذَل فليَ القِسْم الوافر والنصيب، وإذا اقتسموا فريضة شكر الله فليَ الحظ والتعصيب، لتَضَاعُفِ أسباب العبودية قِبَلي وترادف النعم التي عجز عنها قولي وعملي، وتقاصَر في ابتغاء مكافأتها وجدي وإن تطاول أملي، فمقامكم المقام الذي نَفَّس الكُرْبَة، وأنَّس الغربة، ورَعَى الوسيلة والقربة، وأنعش الأرماق، وفك الوثاق، وأّخذ على الدهر بالاستقالة العهدَ والميثاق، وإن لم يباشر العبد اليد العالية بهذا الهناء، ويَمْثُل بين يدي الخلافة العظيمة السَّنا والسناء، ويمد بسبب البِدَار إلى تلك السماء، فقد باشر به اليد التي يحنُّ مولاي لتذكر تقبيلها، ويكمل فروض المجد بتوفية حقوقها الأبوية وتكميلها.
ووقفت بين يدي ملك الملوك الذي أجال عليها القِداح، ووصل في طلب وصالها بالمساء الصباح، وكان فتحه إياها أبا عُذْرَةِ الافتتاح، وقلت يَهْنِيكَ يا مولاي رَدُّ ضالتك المنشودة، وحَيْز لقطتِك المُفْردة المشهودة، ورد أَمَتِك المودودة، فقد استحقها وارثُك الأرضَى، وسيفك الأمضى، وقاضي دَيْنِك وقرة عينك مُستنقِذُ دارِك من يد غاصبها، ورادُّ رُتَبك إلى مناصبها، وعامر المثوى الكريم، وستر الأهل والحريم، مولاي هذه تلمسان قد طاعت وأخبار الفتح على ولدك الحبيب إليك قد شاعت، والأمم إلى هنائه قد تداعت، وعدوك وعدوه قد شردته المخافة، وانضاف إلى عرب الصحراء فخفضته الإضافة، وعن قريب تتحكم فيه يد أحكامه وتُسْلِمُه السلامةُ إلى حِمامِه، فلتطب يا مولاي نفْسك، وليستبشر رَمْسُك، فقد تمت بركتك وزكا غرسُك، نسأل الله أن يورد على ضريحك من أنباء نصره ما يفتح له أبواب السماء قبولًا، ويترادف إليك مددًا موصولًا، وعَدَدًا آخِرَتُهُ خير لك من الأولى، ويُعَرِّفُهُ بركةَ رضاك، ظَعْنًا وحُلولًا، ويُضفي عليه منه سترًا مسدولًا.
1 / 19
ولم يقنع العبد بخدمة النثر حتى أجهد القريحة التي ركضها الدهر فأنضاها، واستشفَّها الحادث الجلل وتقاضاها، فلقي من خدمة المنظوم ما يتعهد حلمكم تقصيره، ويكون إغضاؤكم إذا لقي معرة العَتْب وليَّه ونصيره، وإحالة مولاي على الله في نفس جَبَرها، ووسيلة عرَفَها مجدُه فما أنكرها، وحرمةٍ بضريح مولاي والده شكرها، ويطلع العبد منه على كمال أملِه ونُجْح عمله وتسويغ مقترحه وَتتميم جذله:
أطَاعَ لِسَانِي في مَدِيحِك إحْسانِي ... وقَدْ لَهِجَتْ نَفْسِي بِفَتْحِ تِلْمِسَان
فَأَطْلَعْتُها تَفْتَرُّ عَنْ شَنَبِ المُنَى ... وتُسْفِرُ عَنْ وَجْهٍ مِنَ السَّعْدِ حَسَّانِ
كَمَا ابْتَسَمَ الغَوَارُ عن أَدْمُعِ الحَيَا ... وَحَفَّ بخّدِّ الوَرْدِ عَارِضُ نِيسَانِ
كَمَا صَفَّقَتْ رِيحُ الشَّمَالِ شَمُولَها ... فَبَانَ ارْتِيَاحُ السكر في غُصُن البَان
تُهَنِّيكَ بالفَتْحِ الذي مُعْجِزَاته ... خوارق لم تُذْخَر سِوَاكَ لإِنْسَانِ
خَفَفْتَ إليها والجُفُونُ ثَقِيلَةٌ ... كَمَا خَفَّ شَئْنُ الكَفِّ من أُسْدِ خفَّانِ
وقُدْتَ إلى الأَعْدَاءِ فيهَا مُبَادِرًا ... لِيُوثَ رِجَالٍ في مَنَاكِب عِقْبَانِ
تَمُدُّ بنودُ النَّصرِ) مِنْهُمْ (ظِلاَلَها ... على كُلِّ مِطْعَامِ العَشِيَّاتِ مِطْعَانِ
جَحاجِحَةٌ غرُّ الوُجُوهِ كَأَنَّمَا ... عَمَائِمُهُمْ فيهَا مَعَاقِد تِيجَانِ
أمدَّك فِيهَا اللهُ) بالمَلأِ (العُلا ... فَجَيْشُكَ مَهْمَا حُققَ الأَمْرُ جَيْشَانِ
لقد جُلِّيَتْ مِنْكَ البلادُ لخَاطِبٍ ... لَقَدْ حَنِيتْ مِنْكَ الغُصُونُ إلى حَانِي
لقد كَسَتِ الإسْلامَ) بَيْعَتُكَ (الرِّضَا ... وكانَت عَلَى أَهْلِيهِ بَيْعَةَ رِضْوَانِ
ولِلهِ مِنْ مُلْكٍ سَعِيدِ) ونُصْبةٍ (... قَضَى المُشْتَرِي فِيهَا بِعَزْلَةِ كِيوَانِ
وسَجَّلَ حُكْمَ العَدْلِ) بَيْنَ بُيُوتِها (... وُقُوفًا مَعَ المِشْهُورِ مِنْ رَأى يُونَانِ
جَلاَ كُلُّ مِصرِيٍّ لَهَا حس ... ن فيها جدّه كل كلداني
فلم تَخْشَ سهمَ القوس صفحةُ بدرِها ... ولم تَشك فيها الشمس من نَحْس ميزانِ
ولم يعترض مُبْتزَّها قَطْعُ قاطعٍ ... ولا نَازَعَتْ نَوْبَهرها كفُّ عُدْوانِ
تولَّى اختيارُ الله حُسْنَ اختيارِها ... فلم تَحْتَج الفَرْغَان فيها لِفَرْغَانِي
ولا صارِفت فيها دقائقُ نِسبةٍ ... ولا حُقِّقَتْ فيها طوالعُ بُلدانِ
وجوهُ القضايا في كَمالِكَ شأنُها ... وجوبٌ إذا خَصَّت سِواكَ بإمكانِ
ومَنْ قاسَ منكَ الجودَ بالبَحْرِ والحَيَا ... فَقَد قاسَ تَمويهًا قياسَ سُفُسطَاني
وطاعتُك العُظمى بِشارَةُ رَحمةٍ ... وعِصيانُكَ المَحذور نَزْغةُ شيطانِ
وحبُّكَ عنوانُ السعادةِ والرِّضا ... ويُعْرَفُ مقدارُ الكتابِ بِعُنوانِ
ودِينُ الهُدى جِسْمٌ وذاتُكَ روحُهُ ... وكم وَصْلَةٍ ما بينَ روحٍ وجُثْمانِ
تضِنُّ بكَ الدُّنيا وتَحْرُسُكَ العُلَى ... فلا هُدِمَ المبْنَي ولا عُدِمَ البانِي
وصاحَتْ بكَ الدُنيا فلمْ تَكُ غافِلًا ... ونادَتْ بكَ العّلْيا فلم تَكُ بالوَانِي
ولم تكُ في خَوْضِ البِحارِ بهائِبٍ ... ولمْ تَكُ في رَوْمٍ الفَخَارِ بِكسْلانِ
لقد هَزَّ مِنكَ العَزمُ لمَّا انْتَضَيْتَهُ ... ذَوَائبَ رَضْوَى أو مَنَاكِبَ ثَهْلانِ
ولله عَينا مَنْ رآها محَلّةً ... هِيَ الحَشْرُ لا تُحصَى بعَدٍّ وحُسْبَانِ
وتَنُّورُ عَزْمِ فارَ في إثْرِ دَعْوَةٍ ... فَعَمَّ الأقاصِيَ والأدانِي بِطَوفَانِ
عجائِبُ أقطارِ ومأْلَفُ شارِدٍ ... وأقْلادُ آفاقٍ وموعِدُ رُكبانِ
إذا ما سَرَحْتَ اللَّحْظَ في عَرَصَاتِها ... تبلَّدَ منكَ الذِّهنُ في العالَمِ الثاني
جَناحانِ والنَّصْرُ العزيزُ اهْتَصَارُهُ ... إذا انْتَظَمَتْ بالقلبِ منها جَناحانِ
فَمِن سُحُبٍ لاحتْ بِها شُهُبُ القنا ... ومِنْ كُثُبٍ بَدَتْ فوقَ كُثبانِ
1 / 20