وكان رحمه الله ، من بقايا الكرام ، ولقد شاهدت له مجلسا في شهر رمضان ، سنة إحدى وخمسين وثلثمائة ، كأنه من المجالس البرامكة ، ما شهدت مثله قط قبله ولا بعده ، وذلك : إن كاتبه على ديوان السواد ، أبو الحسن عبد العزيز بن إبراهيم ، المعروف بابن حاجب النعمان ، سقط من روشن في دار أبي محمد على دجلة ، فمات في اليوم الثامن من السقطة . فجزع عليه أبو محمد ، وجاء من غد إلى أولاده ، لأنهم كانوا دفنوه عشيا ، وكنت معه وحضر ، وقد أعدوا له دستا يجلس فيه ، فلما دخل عدل عنه ولم يجلس فيه ، فعزاهم بأعذب لسان ، وأحسن بيان ، ووعدهم الإحسان ، وقال : أنا أبوكم ، وما فقدتم من ماضيكم غير شخصه . ثم قال لابنه الأكبر أبي عبد الله : قد وليتك موضع أبيك ، ووردت إليك عمله ، ووليت أخاك الحسين ، وكان هذا صبيا سنه إذ ذاك عشر سنين أو نحوها كتبة حضرة ابني أبي الغنائم ، وأجريت عليه كذا وكذا - رزقا كثيرا ، وقد ذهب عني - فليلزمه ، فإن سنيهما متقاربة ، ليتعلم بتعلمه ، وينشأ بنشأته ، فيجب حقه عليه . ثم قال لأبي العلاء صاعد بن ثابت ، خليفته على الوزارة : اكتب عهدا لأبي عبد الله ، واستدع كل من كان أبو الحسين رحمه الله ، مستأجرا منه شيئا ، فخاطبه في تجديد الإجارة للورثة ، فإن أكثر نعمته ، إنما كانت دخالات وإجارات ومزارعات ، وقد انحلت الآن بموته ، ومن امتنع فزده من مالي ، واسأله ، ولا تقنع إلا بتجديد العقد كيفما جرت الحال . ثم قال لأبي المكارم بن ورقاء ، وكان سلف الميت : إن ذيل أبي الحسن طويل ، وقد كنت أعلم إنه يجري على أخواته وأولادهن وأقاربه شيئا كثيرا في كل شهر ، وهؤلاء الآن يهلكون بموته ، ولا حصة لهم في إرثه ، فقم إلى ابنه أبي محمد المادرائي - يعني زوجة المتوفى - فعزها عني ، واكتب عنها جريدة بأسماء جميع النساء اللواتي كان أبو الحسن يجري عليهم وعلى غيرهن ، من الرجال وضعفاء حاشيته . وقال لأبي العلاء : إذا جاءك بالجريدة ، فأطلقها عاجلا لشهر ، وتقدم بإطلاقها على الإدرار ، فبلغت الجريدة ثلاثة آلاف وكسرا في الشهر ، وعملت في المجلس وأطلق مالها وامتثل جميع ما رسم به أبو محمد . فلم يبق أحد إلا بكى رقة واستحسانا لذلك . ولقد رأيت أبا عبد الله محمد بن الحسن الداعي العلوي رحمه الله ، ذلك اليوم ، وكان حاضرا المجلس ، وقد أجهش بالبكاء ، وأسرف في شكر أبي محمد ، وتفريطه ، على قلة كلامه إلا فيما يعنيه ، وعلى سوء رأيه - كان - في أبي محمد ، ، ولكن الفضل بهره ، فلم يمنعه ما بينهما ، أن نطق بالحق . وقلت أنا ، لأبي محمد في ذلك اليوم : لو كان الموت يستطاب في وقت من الأوقات ، لطاب لكل ذي ذيل طويل ، في أيام سيدنا الوزير أطال الله بقاءه ، فإن هذا الفعل ، تاريخ الكرم ، وغاية تسامي الهمم وبه يتحقق ما يروى عن الأسلاف من الأجواد ، والماضيين من الكرماء الأفراد ، وغير ذلك ، مما حضرني في الحال . ثم نهض أبو محمد رحمه الله ، فارتفعت الضجة من النساء ، والرجال ، وأهل الدار ، والشارع ، بالدعاء له ، والشكر .
পৃষ্ঠা ৪৫