: حدثني أبو أحمد بن أبي الورد شيخ من أبناء القضاة لقيته سنة تسع وأربعين وثلثمائة ببغداد ، قال حدثني أبي وكان خصيصا بأبي عمر القاضي . إن رجلا زور عنه رقعة إلى أبي القاسم ابن الحواري ، يسأله تصريفه وكانت بينهما مودة . وصار الرجل بالرقعة إلى أبي القاسم ، فأخذت منه وحجب ، فجلس يتوقع الجواب . فاتفق أن جاء القاضي أبو عمر وأنا معه ليسلم على ابن الحواري ، ودخلنا ، فوجد القاضي الرقعة بحضرته مشبهة بخطه ، فوجم لذلك ، وتشوف لمعرفة الخبر ، وكان فيه من الوقار والرصانة والفضل المشهور الذي ضرب به المثل ، ما لم يتبين لابن الحواري معه ذلك عليه ، وفطنت أنا لدربي بأخلاقه . وحانت لابن الحواري التفاتة ، فرأى الرقعة في يده ، فقال : أيها القاضي الساعة وصلت ، وأنا أفعل ما التمسه في معنى الرجل . فشكره أبو عمر ، وخاطبه بما أوهمه فيه إنها رقعته ، من غير أن يطلق ذلك ، وكان أفعل الناس لهذا ، وأقدرهم على أن يتكلم دائما في الأمور بما يحتمل معنيين ، ويحتاج إلى تفسير للمقصد ، توقيا منه ، ودهاء . وقال أبو عمر : فليطلب الرجل ، إن كان حاضرا ويدخل ، فطلبوه وأدخلوه ، وقد امتقع لونه . فقال له ابن الحواري : أنت الموصل لرقعة القاضي أعزه الله ؟ . فقال : نعم . فقال له أبو عمر : إنه أعزه الله قد وعد بتصريفك والإحسان إليك فالزمه . قال : وتحدثنا ساعة ، ونهض أبو عمر ، وقال لي سرا : جئني به . فتأخرت وونسته ، وحملته إليه ، فدخلت عليه به وهو خال ينتظرنا وحده . فقال له : ويلك ، أتزور على خطي ، وأنا حاكم ، وخطي ينفذ في الأموال والفروج والدماء ؟ ما كان يؤمنك أن أعرفأبا القاسم أمرك فتصير نكالا . فبكى الرجل وقال : والله ، أيها القاضي ، ما حملني على ذلك إلا عدم القوت ، وشدة الفقر ، وأني وثقت بكرمك ففعلت ذلك ، إذ كان غير متصل بحكم ولا شهادة ، وقدرت أيضا أن ذلك ينستر عنك ، وأنتفع أنا من حيث لا يضرك . فقال له أبو عمر : الله إن الفقر حملك على هذا ؟ فقال : إي والله ، فبكى أبو عمر ، وسار خادما له ، فغاب الخادم قليلا ، ثم جاء بصرة فيها مائة دينار ، ومنديل فيه دست ثياب ، فسلمه إلى الرجل . فقال له أبو عمر : اتسع بهذا ، والبس هذا ، والزم أبا القاسم فإني أؤكد عليه أمرك ، واحلف لي أن لا تزور على خطي أبدا . فحلف له الرجل على ذلك وانصرف . فلما كان بعد شهور جاءنا مسلما على أبي عمر بمركوب حسن وثياب فاخرة ، فأخذ يشكر أبا عمر ويدعو له ، وهو لا يعرفه ، وقد ذكرته أنا . فقال له أبو عمر : يا هذا على أي شيء تشكرني ؟ . فقال : أنا صاحب الرقعة إلى أبي القاسم ابن الحواري ، الذي وصلني القاضي بماله ، وأحياني بجاهه ، وقد صرفني أبو القاسم طول هذه المدة ، فبلغت حالي إلى هذا ، وأنا أدعو الله للقاضي أبدا . فقال أبو عمر : الحمد لله على حسن التوفيق .
পৃষ্ঠা ৩৮