منها المشتغلون بكتابة التاريخ الإسلامي حسب الأسس الجديدة، وليس له شبيه في تصويره الحياة اليومية - فيما أعلم - إلا ما كتبه المتأخرون في الحسبة كابن الأخوة، أو النواحي الاجتماعية عموما كابن الحاج في "المدخل" والمقريزي في "إغاثة الأمة"، وهؤلاء جميعًا - فيما يبدو - قد استقوا من الشيزري، أو نقلوا منه مباشرة أو بالواسطة، كما أوضح الناشر في مقدمته العلمية.
وقد قرأتُ هذا الكتاب الصغير أوّل مرة مخطوطًا أيام طلبي العلم في انجلترا، واختلافي إلى المتحف البريطاني بلندن، أي منذ خمس وعشرين سنة على وجه التحديد، فعرفتُ له قيمته بين النصوص القديمة، وجعلته في مستودع الآمال، وتمنّيت أن أحد الفرصة المواتية القيام على نشره في صورة علمية نافعة. ثم مضت السنون، وتعاقبت عليّ طبقات من الطلبة بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأولى؛ وما عَتَّمِتُ أن وجدتُ في أحد الممتازين منهم، وهو السيد الباز العريني، استعدادًا غير عاديّ لتحقيق ما أصبو إليه، على الرغم مما يتطلّبه النشر العلمي الصحيح من مجهود صامت وصبر طويل. وإذ يخرج هذا الكتاب اليوم من غيابات المخطوطات إلى عالم المطبوعات الحية، فإني جديرٌ أن أشكر الناشر على جهوده الموفقة في تحقيق أملٍ من آمالى، وفي إتحاف المكتبة العربية بمتن هامٍ له الأسبقية والمنزلة الأولى بين المتون الخاصة بالحسبة.
غير أنّ أهمية الكتاب لا تنحصر في مجرّد أسبقيّته وأفضليته على سائر الكتب المشابهة، كما أنها لا تستند إلى إفاضة مؤلفه في بيان ما ينبغي للمحتسب أن يتحلّى به من الصفات، أو يقوم عليه من مراقبة السوقة والأسواق؛ بل تظهر أهميته كذلك فيما جاء به من ذكر ما كان يقوم به أصحاب الحرف والصناعات من أنواع الغشّ في مبيعاتهم ومعاملاتهم، مما ينبئ ببعض أحوال التجارة والتجار، في عصر المؤلّف على الأقلّ. يضاف إلى ذلك ما بالكتاب من الحقائق الكاشفة عن كثير من مظاهر الحياة الاجتماعية في القرن الثاني عشر الميلادي، كاستخدام النساء في تنظيف القطن والكتان على أبواب الحوانيت بالطريق العام (ص ٦٩، ٧٠)، وشغف نساء بغداد بالأخفاف التي تصرّ عند المشي لاجتذاب الأنظار (ص ٧٣). وبالكتاب كذلك كثير من الألفاظ العربية الفصيحة والمولَّدة الصحيحة،
المقدمة / 4