تعريف الدرس الذى نسيه المبطلون: أدب الاختلاف في الإسلام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كانت لفتة لطيفة صائبة عند ما نبّهنى بعض الأصدقاء إلى إمكان أن نصدر فى (الذخائر) كتابا ذا طابع يتمشى مع شهر رمضان المبارك، ثم كانت اللفتة اللطيفة الاخرى باقتراح كتاب الطهطاوى في سيرة النبى ﷺ.
لقد كان ذلك منذ فترة قبل أن نسمع بما سمعنا من تعرّض بعضهم لشخص الرسول ﷺ ودعوته وطبيعة رسالته، وهو تعرّض يسىء إلى صاحبه ولا يسىء إلى من قصدت الإساءة إليه، وذلك لأسباب، منها:
* أن هذه الصيحة التى صدرت عن أكبر رمز دينى في العالم الغربى قد ضربت في الصميم روح الحوار والتسامح التى يتداعى بها العالم كله- خاصة دول الغرب- في الاونة الأخيرة، وأظهرت جليا أن أحاديثهم في هذا الصدد هى أقرب إلى الديكور واللياقة الدبلوماسيّة منها إلى التعبير عن مواقف حقيقية لمن صدرت عنهم.
* أنها كشفت عن أن هناك تناغما بين المدّ العدوانى والطموح الاستعمارى وروح الهيمنة لدى عدد من ساسة الغرب وبين تلك الصيحات التى تصدر من هنالك وهناك بين الحين والاخر تارة باسم حرّية التعبير، وأخرى باسم التاريخ والحقيقة ... ولكنها في جميع الأحوال لا تعنى سوى دقّ ناقوس العدوان والنفخ فى الجمر حتّى يتأجج نارا قد تأتى على كل شىء.
* كذلك كشفت عن أن أحقاد الماضى باقية في ضمائرهم، حيّة في
المقدمة / 7
ذاكرتهم مما يصدق عليه قول الشاعر:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
أى أن الظاهر قد يوحى بالسلام والحبّ بينما ينطوى الباطن على نيّة الخصام والحرب.
ونحن لا ننكر حقيقة أنه (لكلّ وجهة هو مولّيها) وأن لكل إنسان أن يتحّمس لعقيدته بما تتفق فيه مع غيرها وما تختلف فيه أيضا، لكن المهم أن يتمسّك فى حديثه عن عقائد الاخرين ب (أدب الاختلاف)، وهو مما تفتخر به الثقافة العربية عامة والإسلامية خاصة، نعم لدينا كتب تحمل عناوين: أدب السماع، أدب المعاشرة، أدب الطلب، أدب الإخوان، أدب الجليس، أدب النديم، أدب الموائد، أدب القاضى، أدب الكاتب، أدب السلطان، أدب الحروب وفتح الحصون، أدب الناطق، أدب الجدل، وفي هذه العناوين تعنى كلمة (الأدب): المعرفة، الثقافة، الخبرة اللازمة لإحسان التصرّف بالقول أو العمل، أو حتّى الصمت، فى هذا المجال أو ذاك ... ولا شك أن أدب الجدل يعنى حسن الاستماع إلى الاخر واحترام وجهة نظره وإحسان الرّد عليه مع عدم الإساءة له حتى في موقف الخلاف معه، انطلاقا من المبدأ الأسمى الذى أرساه القران الكريم، والذى يقوم على شقين:
أحدهما: قوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون ٦] .
والاخر: قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام ١٦٤] .
وانطلاقا من هذا المبدأ جاء الرصيد التطبيقى الرائع الذى حكاه القران عن بعض مواقف الأنبياء في تقرير حريّة الاختيار ومسئولية كلّ عما وقع عليه اختياره دون إجبار أو ازدراء. ففى سورة البقرة- بعد أن ذكر وصية إبراهيم
المقدمة / 8
لبنيه بأن يؤمنوا بالله، ووصية يعقوب لبنيه كذلك بالإيمان بالله وتوحيده، وألايموتوا إلّا وهم مسلمون- جاء قوله تعالى تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة ١٣٤، ويتكرر في لفظ الاية ١٤١] . فإذا لجّ العصاة في الجدال والحجاج كان التوجيه من الله لرسوله قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ البقرة ١٣٩] .
ويضرب نوح ﵇ المثل في احترام رأى الاخرين وعدم مجاراة قومه في ازدراء مخالفيهم في العقيدة وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [هود ٣١] .
فلما أوسعوه خلافا، وتحدوه في صدق رسالته، وقالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [هود ٣٢] . كان جوابه الذى ألهمه الله إيّاه: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ [هود ٣٥] .
ومعنى الاية ولفظها قريب مما جاء في الاية (٢٥) من سورة سبأ، بعد أن مهد له بما في الاية (٢٤) . ولكن المهم هو أن ما جاء في الايتين كان هو نهاية الاشتباك بين المتشككين والموقنين في أوائل السورة- فى الايتين ٣، ٦ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ... وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ [سبأ ٣، ٦] ذلك هو محور الخلاف، أما الجواب فقد جاء- كما قلنا- فى الايتين ٢٤، ٢٥: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
المقدمة / 9
فيم الخلاف والتطاول إذن؟ مع أن الأمور واضحة ومقرّرة:
لنا أعمالنا ولكم أعمالكم
إن افتريته فعلى إجرامى وأنا برىء مما تجرمون
لا تسألون عمّا أجرمنا ولا نسأل عما تعملون
بل إن الاية ٢٤ من سورة سبأ تحمل معنى رائعا، وذلك بعدم القطع بالمصيب والمخطئ من المتجادلين، وترك الأمر لحكم الله، وذلك في قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، أحد الفريقين بالقطع (على هدى)، والاخر (فى ضلال مبين) لكن دون تحديد، نزاهة وإنصافا للخصم المجادل، وإحقافا لأدب الخلاف.
هذه الظاهرة- الإنصاف للاخر عند الاختلاف، بعدم القطع بمن على صواب، أو عدم القطع بالأفضل، أو عدم القطع بمن ينتصر- عرفها العرب.. حسّان بن ثابت يدافع عن الرسول ﷺ، ردّا على هجاء أبى سفيان بن الحارث له، يقول حسّان مخاطبا أبا سفيان:
هجوت محمد فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشرّكما لخيركما الفداء
لاحظ الشطر الأخير (فشركما لخير كما الفداء) لم يقل الشاعر إن الرسول ﷺ هو خيرهما، وإن كان مؤمنا بذلك، نزاهة وثقة بأن ممدوحه هو الأفضل وإن لم يصرّح بذلك ...
الرسول ﷺ قام بتطبيق أعظم الأمثلة في الأدب الاختلاف، وذلك بالتنازل عن ذكر صفته- وهى الرسالة- عند تسجيل معاهدة الحديبية، بل والتنازل عن ذكر البسملة بصورتها المعهودة، اكتفاء بكلمة (باسمك اللهم)، وذلك نزولا
المقدمة / 10
على رغبة مفاوض أهل مكة الذى قال: لا أعرف الرحمن، ولا أقرّ بأنك رسول الله «ولو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك (محمد بن عبد الله)» فيقول النبى ﷺ: «إنى لرسول الله، وإن كذبتمونى، وأنا محمد بن عبد الله، ثم يقول للكاتب: اكتب محمد بن عبد الله.
هذا على الرغم من اعتراض عليّ وأبى بكر وعمر، وغضبهم إلى قريب من الثورة، ولكنه أدب الاختلاف، فقد عرف ﷺ أنه- وهو في موقف التفاوض مع من يخالفه في عقيدته- إنه ليس من حقه أن يفرض صفته، أو لغته الخاصة، على مخالفه، لذلك ارتضى لغة مشتركة يقرها خصمه ويوافق عليها، وإن كان في قرارة نفسه لا يرضاها.
وكم من مرة جاءته رجالات قريش يحاولون أن يثنوه عن دعوته بالتهديد تارة والترغيب أخرى، وكان يعلم سلفا أن عروضهم مرفوضة، ولكنه كان ينصت إلى ما يقولون ويستمع إليه ويناقشه ويرد عليه في موضوعيّة ورحابة صدر. وتحمل كتب السيرة الكثير من أخبار هذه المفاوضات، من أشهرها ما دار بينه وبين عتبة بن ربيعة الذى جاء إلى الرسول فقال:
«يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم ... فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها» .
ويقول الرسول: «قل يا أبا الوليد، أسمع ...
فلما فرغ عتبة قال رسول الله ﷺ: أو قد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم.
قال: فاسمع منى. قال: أفعل ... إلى اخر الخبر. [الخبر في سيرة ابن هشام ١/ ٢٩٣، ٢٩٤] .
المقدمة / 11
عزيزى القارئ ... ذلك هو الدرس الذى تعلمناه من الرسول ﷺ درس فى أدب الاختلاف ولغته.. كيف تستمع لخصمك، وتفسح له صدرك وتمنحه فرصة التعبير عن رأيه وشرح موقفه، وبعد ذلك يكون من حقك الردّ، والردّ هنا بمعنيين: الجواب، والرفض، وأبعد درجات الرفض هو شعار (لكم دينكم ولى دين) (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، دون عداء، هذا الدرس بسطه القران الكريم- كما سبق أن رأينا- وعرفه العرب في بعض أشعارهم- وطبقه الرسول ﷺ أحسن تطبيق، وكان ﷺ أحفظ له وأكثر عملا به من هؤلاء الذين صدّعوا رؤوسنا بالكلام عن الحرّية والمساواة والعدالة و... و... إلخ وكنا نظن أنه قد جاء الوقت لتؤتى هذه الدعاوى ثمارها لينعم الإنسان بتأمل نفسه وما حوله ويملأ رئتيه من نسائم السلام والمحبّة، ولكن سرعان ما طلع علينا من يقول إنه سيشعلها حربا صليبية جديدة من جهة، ومن يدير اسطوانة مشروخة فى الهجوم على ديانات الاخرين ورموزها من جهة ثانية، مع إصرار عنيد وغبىّ على أن ما يقولونه وما يسعون إليه هو المساواة والمحبة والسلام والعدل.
وأنه الطريق إلى مصلحة الشعوب ورخائها. ويعجب المتأمل من درجة التناقض بين الأقوال والأقوال، وكذلك بين الأقوال والأفعال ... فالاحتلال أصبح يسمى تحريرا، وتدمير الشعوب: الأرض والديار والبشر- أصبح يسمّى خلاصا، وامتلاك أعنى الأسلحة وأكثرها فتكا واستخدامها عند اللزوم، وتحريم ذلك على الاخرين يسمى عدالة ومحافظة على السلام!!. وهكذا ...
عزيزى القارئ ... كنا قد اخترنا أن يكون كتاب الذخائر هو (نهاية الإيجاز فى سيرة ساكن الحجاز) الذى كتبه الطهطاوى بمناسبة شهر رمضان، وجاءت المهاترات الأخيرة في التطاول على شخص الرسول ﷺ ودعوته فأكدت سلامة اختيارنا.
المقدمة / 12
نعم ... لأن سيرة الرسول ﷺ التى ترسم خط حياته في الكفاح من أجل دعوته بالقول والفعل تقدم مشهدا رائعا لما سميته (أدب الاختلاف في الإسلام) وهو مشهد حدوده- أو لنقل مفرداته من جهة: لا إكراه في الدين، ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتى هى أحسن، ومن جهة أخرى: ولا تزر وازرة وزر أخرى، لكم دينكم ولى دين.
وهو- كما نرى- مشهد لا مجال فيه للمزايدة أو الغصب، أو التطاول على الاخرين والطعن عليهم، بل شعاره (امن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمؤمنون كلّ امن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله) ومع ذلك نتّهم نحن بالتعصّب ويدّعى الاخرون لأنفسهم صفة التسامح، وتلك هى المأساة الحقيقية في عالمنا الحديث، أعنى أدّعاء الأدوار، أو تبديلها وتبادلها عنوة وغصبا، الذئب يمثل دور الحمل، والحمل يورّط في دور الذئب، القاتل يظهر في دور الضحية، والضحيّة يفرض عليها دور القاتل.... وهكذا.
وتلك- مرة أخرى- هى المأساة، أو لنقل: المؤامرة التى نرجو أن يكشف حقيقتها ويفضح أبعادها نشرنا لكتاب في سيرة الرسول يحمل حقيقة موقفه من مخالفيه وكيفية تصرفه في نشر دعوته، مما كان وما يزال- هدفا للهجوم الظالم عليه من جانب مدعى السلام والتسامح، أولئك الذين فاتهم أن يستوعبوا الدرس الحقيقى ... درس الإسلام في أدب الاختلاف مع الاخرين.
عبد الحكيم راضى أكتوبر ٢٠٠٦
المقدمة / 13
هذه الطبعة
عزيزى القارئ ... هذه كلمة شكر، وعرفان بالفضل لأهله، وصاحب الفضل في حصولنا على هذه الطبعة هو الصديق الكريم الأستاذ أحمد على حسن صاحب مكتبة الاداب الذى تفضل أولا بالسماح لنا بتصوير طبعة الكتاب الصادرة عن مكتبته، ثم زودنى بعد ذلك بطبعة أخرى على اسطوانة قال إنها أصحّ من النسخة الورقية المطبوعة.
وقد احتاج التعامل مع الاسطوانة التى حصلنا عليها إلى جهد شاق ومحاولات متعددة، وذلك لسببين: اختلاف نظم الأجهزة، واختلاف مقاس الطبعة عن المقاس الذى تطبع به الذخائر، أما الجهد الأكبر فكان في تصحيح النسخة الجديدة ومراجعتها إذ تبين لنا كثرة الأخطاء الواردة بالطبعة المذكورة إلى حد يفوق أى توقع ... مما اضطرنى إلى قراءتها أكثر من مرة، مستعينا بالمقابلة مع النسخة الورقية الموجودة. وأكثر ما كانت الأخطاء في الأشعار الواردة بالكتاب وهى كثيرة وكذلك في أسماء الأشخاص والأماكن.
وقد ساعدنى في جانب من المراجعة الابن العزيز الدكتور سامى سليمان أحمد- مقدم هذه الطبعة- فله جزيل الشكر.
رئيس التحرير
المقدمة / 15
مقدم هذه الطبعة
د. سامى سليمان أحمد، أستاذ النقد العربى الحديث المساعد بكلية الاداب، جامعة القاهرة.
١- درس بجامعة «بامبرج» بألمانيا (١٩٩٥- ١٩٩٨) كما درّس بها (١٩٩٦- ١٩٩٨) اللغة العربية والعامية المصرية والأدب العربى الحديث.
٢- عمل أستاذا زائرا بجامعة أوساكا للدراسات الأجنبية باليابان (٢٠٠٤- ٢٠٠٦) .
٣- شارك في عدد كبير من المؤتمرات العلمية حول قضايا الأدب والنقد العربى بالجامعات المصرية واليابانية، وبالمجلس الأعلى للثقافة.
٤- شارك في عدد من المشروعات العلمية، ومنها معجم أسماء العرب (١٩٨٩- ١٩٩٠)، ومشروع جامعة أوساكا للدراسات الأجنبية لعمل امتحان دولى لقياس مهارات دارسى العربية من غير الناطقين بها (٢٠٠٤- ٢٠٠٥)، ودليل الجامعة الأمريكية للأدب العربى الحديث (٢٠٠٦) .
٥- نشر مقالات ودراسات متعددة بمجلات فصول والفكر العربى ومجلة كلية الاداب جامعة القاهرة، ومجلة «كانساى» للدراسات العربية والإسلامية باليابان، ومجلة الفنون الشعبية.
٦- من مؤلفاته:
الخطاب النقدى والأيديولوجيا: دراسة للنقد المسرحى عند نقاد الاتجاه الاجتماعى فى مصر «١٩٤٥- ١٩٦٧» (٢٠٠٢) .
كتابة السيرة النبوية عند رفاعة الطهطاوى: دراسة في التشكيل السردى والدلالة (٢٠٠٢) .
خطاب التجديد النقدى عند أحمد ضيف مع النص الكامل لكتابه «مقدمة لدراسة بلاغة العرب»، (٢٠٠٣) .
مدخل إلى دراسة النص الأدبى المعاصر، (٢٠٠٣) .
الذات وحلم تغيير الواقع: قراءة في قصيدة «الجامعة» لمحمد سليمان (٢٠٠٤) .
حفريات نقدية: دراسات في نقد النقد العربى المعاصر (٢٠٠٦) .
المقدمة / 17
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم رفاعة الطهطاوى ومدخل حديث لكتابة السيرة النبوية
(١) مثل رفاعة الطهطاوى (١٨٠١- ١٨٧٣ م) نموذجا للمثقف العربى المجدد في أولى مراحل النهضة العربية الحديثة التى بزغت مع بدايات القرن التاسع عشر، وقد فرضت تلك المرحلة على ذلك المثقف الحديث والمحدّث أن يسهم بكتاباته في مجالات ثقافية واجتماعية متعددة، وقد جسد الطهطاوى هذا النموذج إذ جمعت كتاباته بين عمل المفكر الاجتماعى والتعليمى، والصحفى، والأديب (الشاعر والناثر)، والمؤرخ غير المحترف، ومثل منحاه الإصلاحى العنصر الأساسى الرابط بين كتاباته التى تؤكد، بتنوعها، سعى الطهطاوى إلى الوفاء بما تطلبه واقعه.
وقد تنوعت إسهامات الطهطاوى في مجالات الأدب العربى في القرن التاسع عشر؛ ورغم كونه واحدا من شعراء المرحلة الأولى من مراحل حركة الإحياء، على نحو ما يتجلى في ديوانه، فإن من اللافت أن إسهاماته في ميادين الكتابة النشرية هى التى وضعت اسمه في قائمة الأدباء المجددين في القرن التاسع عشر؛ إذ جمع بين تقديم شكل الرحلة في كتابه «تلخيص الإبريز في تلخيص باريز» (١٨٣٤) والإسهام في تأصيل الرواية التعليمية وذلك بترجمته لرواية فينيلون (١٦٥١- ١٧١٥) المسماة" وقائع تليماك" (١٦٩٩) والتى أعطاها الطهطاوى عنوان" مواقع
المقدمة / 19
الأفلاك في وقائع تليماك" (١٨٦٨) . كما أن له إسهامات بارزة في مجال الكتابة التاريخية يعكسها كتابه" أنوار توفيق الجليل في توثيق مصر وبنى إسماعيل" (١٨٦٨)، كما يعكسها كتابه" مناهج الألباب المصرية في مباهج الاداب العصرية" وإن لم يكن من نمط الكتابة التاريخية الخالصة.
وقد كتب الطهطاوى السيرة النبوية وقدمها تحت عنوان" نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز"، وهى تمثل أوّل نموذج للكتابة الحديثة لمتن السيرة النبوية. وتحمل تلك العنونة أكثر من دلالة؛ فالطهطاوى قد ربط" نهاية الإيجاز" بكتاب" أنوار توفيق الجليل" وهذا ما يسوغ النظر إلى" نهاية الإيجاز" بوصفه جزا من كتابات الطهطاوى التاريخية، ويدعم ذلك
تقسيم الطهطاوى كتابه إلى أبواب وفصول تحمل عناوينها دلالات مرتبطة بتتبعه حياة الرسول (ص) وبعض هذه العناوين- مثل" الأسباب الباعثة على الهجرة"- يبدو أكثر اتصالا بعمل المؤرخ منه بعمل الأديب.
وفي مقابل الدلالات السابقة هناك دلالات مضادة تشير إلى إمكانية قراءة" نهاية الإيجاز" بوصفه كتابا مستقلا عن" أنوار توفيق الجليل"، من ناحية، وبوصفه كتابة تقع في المنطقة الواصلة بين الأدب والتاريخ من ناحية أخرى. فالطهطاوى أعطى كتابته عن السيرة اسما مستقلا عن كتابه التاريخى، كما أن كتابة الطهطاوى للسيرة ذات وشائج قوية في ارتباطها بأنماط كتابات السابقين عليه للسيرة النبوية، بقدر ما هى مختلفة عن كتابات اللاحقين له مباشرة أو الأجيال التالية له؛ فكتاب محمد الخضرى" نور اليقين في سيرة خير المرسلين" (١٨٩٥) بمثابة سيرة تاريخية بالغة الاختصار، بينما كتاب محمد حسين هيكل" حياة محمد" (١٩٣٥) يمثل، فيما نرى، أول دراسة تاريخية يقدمها كاتب أو مؤرخ مصرى حديث يفيد من مناهج البحث التاريخى الغربى، ويتجادل مع كتابات بعض المستشرقين حول سيرة النبى" ص".
ويعد" نهاية الإيجاز" وكتاب" المرشد الأمين للبنات والبنين" اخر كتابات الطهطاوى، وقد نشرت فصول" نهاية الإيجاز" فى ثلاثة وأربعين عددا من أعداد مجلة" روضة المدارس" فى سنواتها الثالثة والرابعة والخامسة. ويتكون النص المنشور
المقدمة / 20
فى" روضة المدارس" من ستة أبواب، وتتفق الأبواب الخمسة الأولى منه مع الطبعة المحققة التى تقوم عليها دراستنا هذه (١) . بينما عنون الطهطاوى الباب السادس على النحو التالى: الباب السادس في الوظائف والعمالات البلدية، خصوصية وعمومية، أهلية داخلية جهادية، التى هى عبارة عن نظام السلطنة الإسلامية، وما يتعلق بها من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية على ما كان في عهد رسول الله ﷺ وفيه فصول" (٢)، ولكن المحققين (عبد الرحمن حسن محمود وفاروق حامد بدر) جعلا من هذا الباب وما يليه كتابا سمياه (الدولة الإسلامية: نظامها وعمالاتها) ثم ووصفاه بأنه المتمم لكتاب" نهاية الإيجاز" (٣) .
وفي نهاية العدد الثالث والأربعين من" روضة المدارس" هناك فقرات- حذفها المحققان- يقرر فيها على رفاعة أن الطهطاوى قد أتم قبل موته تسويد كتابى" نهاية الإيجاز" و" المرشد الأمين"، وقد راجع نهاية الإيجاز حتّى الفصل التاسع من الباب الثالث، بينما تتبع على رفاعة بقية الكتاب (قراءة وتصحيحا، حذفا وإثباتا) (٤) .
واللافت أن المحققين قد حذفا المقدمة التى وضعها الطهطاوى لكتابه، والتى نشرها في العدد الرابع من السنة الثالثة من سنوات" روضة المدارس" وهى مقدمة مكونة من صفحتين يشير فيها الطهطاوى إلى أن" نهاية الإيجاز" يمثل الجزء الثانى من" أنوار توفيق الجليل"، ويشير أيضا إلى أن على مبارك هو الذى رأى التعجيل ينشر هذه السيرة منجمة في" روضة المدارس" على تطبع كاملة بعد ذلك (٥) . ولما كان" نهاية الإيجاز" متمماك" أنوار توفيق الجليل" فقد احتل في هذا النسق ترتيب المقالة الخامسة على النحو التالى: المقالة الخامسة: فى ظهوره ﷺ وأحواله وشئونه ووقائعه والدخول في الحياة البرزخية وذكر الخطط والعمالات الإسلامية التى كانت في عهده ﷺ إلى استخلاف أبى بكر رضى الله عنه وفيه أبواب.
ويمكن للقارئ المعاصر أن يقرأ" نهاية الإيجاز" من منظور التشكيل السردى الذى وضع فيها لطهطاوى السيرة النبوية، بما ينطوى عليه ذلك التشكيل من واحدات وتقنيات وطرائق سردية اعتمدها الطهطاوى لينقل بواسطتها، من ناحية، رسالة ضمنية حملتها كتابته، وليسهم، من ناحية ثانية، فى تقدم نمط جديد من
المقدمة / 21
أنماط كتابة السيرة النبوية بوصفها نصّا سرديا، وليساهم، من ناحية ثالثة، فى إنشاء تقاليد كتابة بعض الأنواع السردية الحديثة في الأدب العربى.
وبقدر ما تكشف النواحى الثلاث السابقة عن منحى التجديد الأدبى لدى الطهطاوى فإنها تتطلب إضاءة عدة أطر تتمثل في أنماط كتابة السيرة النبوية- بوصفها نصا سرديا- لدى السابقين على الطهطاوى، وعلاقة كتابة الطهطاوى السيرة بلحظة نشأة الأنواع السردية الحديثة في الأدب العربى، ووعى الطهطاوى بالأشكال السردية العربية الوسيطة، ومستويات تلقى نص الطهطاوى ودور الوسيط الثقافى الذى نقله إلى المتلقى في تحديد طرائق التلقى، وعلاقة كتابة الطهطاوى بالموقف أو الرسالة التى ضمّنها تلك الكتابة.
وستتبدى طبيعة كتابة الطهطاوى عبر الأطر المختلفة التى نضع" نهاية الإيجاز" فى سياقاتها المتداخلة والمتفاعلة معا.
(٢) مرّ متن السيرة النبوية بمراحل متعددة ومتشابكة، ومتوالية أيضا، إلى أن استوى نصّا سرديا مكتملا؛ إذ شكلت المرويات التى رواها بعض الصحابة عن حياة النبى (ص) وصفاته وسلوكه المادة الأولى لمتن السيرة، وطوال القرنين الأوّل والثانى الهجريين برزت أسماء بعض التابعين- مثل عروة بن الزبير وعاصم بن عمر بن قتادة والزهرى وعبد الله ابن أبي بكر وغيرهم- ممن تخصصوا في رواية أخبار النبى. وقد وازى تطور الاهتمام بجمع أخبار النبى التطور في علوم الحديث والتفسير والتاريخ (٦) وهذا ما برز، منذ بداية القرن الثالث الهجرى، إذ توزع الاهتمام بسيرة النبى بين أصحاب كتب طبقات المحدثين، من ناحية وكتّاب التاريخ العام من ناحية ثانية، وكتّاب سيرة النبى من ناحية ثالثة. فابن سعد (ت ٢٣٠ هـ) صاحب (الطبقات الكبرى) قد دوّن سيرة النبى في الأجزاء الأربعة الأولى من كتابه، حيث كان يعنون الفقرات، ثم يسوق داخل كل فقرة مجموعة المرويات: أي الأحاديث والأخبار التى تقع في دائرتها، ولا يكاد يقدم رأيا فيما يرويه (٧) . على حين أصّل الطبرى (ت ٣١٠ هـ) فى كتابه (تاريخ الرسل والملوك) تقليدا يتمثل في تقديم
المقدمة / 22
سيرة الرسول (ص) بوصفها جزا من التاريخ العام، وقد تابعه في ذلك المؤرخون التالون له كابن الأثير (ت ٦٣٠ هـ) فى كتابه (الكامل في التاريخ) وابن كثير (ت ٧٧٤ هـ) فى كتابه (البداية والنهاية) وغيرهما.
وتشكلت كتابة السيرة النبوية في ثلاثة أنماط مختلفة؛ نمطان منها يمكن وصفهما بأنهما نمطان سرديان خالصان، على حين يمكن وصف ثالثهما بأنه يضيف إلى المتن السردى نصا اخر شارحا بعض الوقائع أو يضيف معارف من علوم متنوعة. ويمثل نمط السيرة المكتملة التى تقدم وقائع حياة النبى (ص) وغزواته وعلاقاته المختلفة النمط السردى الأوّل، ونموذجه الأجلى سيرة ابن إسحاق (ت ١٥١ هـ) التى رواها ابن هشام (ت ٢١٨ هـ)، وقد قسم ابن إسحاق السيرة إلى ثلاثة أقسام كبرى هى المبتدأ، والمبعث، ثم المغازى، وكان يقدم- سواء داخل كل قسم من الأقسام الكبرى أو الأقسام الصغرى التى تشكل الأقسام الكبرى- الأخبار المختلفة، ويقدم الوقائع مستشهدا بالأشعار سواء في إطار سرده الوقائع، أو في نهايتها؛ كما في تقديمه- فى نهاية الغزوات- الأشعار المختلفة التى قيلت فيها.
وإذا كان ابن هشام قد هذب نص ابن إسحاق فإنه قد أهمل بعض مرويات ابن إسحاق كما خذف أشعارا لم ير (أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به (٨) .
ولقد تحول متن ابن هشام إلى المصدر الأساسى الذى اعتمده اللاحقون له سواء كانوا من المؤرخين الخلّص أو من كتاب السيرة النبوية، ويمثل كتاب" عيون الأثر فى فنون المغازى والشمائل والسير" لابن سيد الناس (ت ٧٣٤ هـ) نموذجا لكتابة تتابع تقاليد سرد السيرة النبوية المكتملة التى أصّلها ابن إسحاق وابن هشام، ثم تضيف إليه تقاليد جديدة مثل تقديم مرويات مختلفة عن رواة اخرين غير ابن إسحاق، وتقديم مرويات تمثل تحديدات أدق لمضامين بعض مرويات ابن إسحاق، أو تصحيح بعض المرويات التى قدمها ابن إسحاق (٩) .
ولما كان معنى مصطلح السيرة النبوية قد انصرف- لا سيما في المراحل المبكرة من رواية السيرة وتدوينها- إلى دلالة تقصره على تقديم المرويات الخاصة بمغازى الرسول (ص) فإن كتاب محمد بن عمر الواقدى (ت ٢٠٧ هـ) " المغازى" يمثل نمط
المقدمة / 23
الكتابة في السيرة طبقا لهذا الفهم. ويبدو أن اقتصار عمل الواقدى على فترة قصيرة من حياة النبى (ص) قد منحه فرصة وضع تقاليد خاصة في سرد المغازى؛ إذ ثبّت طرائق واحدة اتبعها في سرد الغزوات المختلفة؛ فبعد أن افتتح كتابه بذكر أسماء الرواة الذين نقل عنهم أخباره مشيرا إلى اختلاف مروياتهم أخذ يسرد (المغازى واحدة واحدة مع تاريخ محدد للغزوة بدقة، وغالبا ما يذكر تفاصيل جغرافية عن موقع الغزوة، ثم يذكر المغازى التى غزاها النبى بنفسه وأسماء الذين استخلفهم على المدينة أثناء غزواته، وأخيرا يذكر شعار المسلمين في القتال، كل ذلك بالإضافة إلى وصفه لكل غزوة بأسلوب مواحد، فيذكر أولا اسم الغزوة وتأريخها وأميرها، ويكرر في بعضها اسم المستخلف على المدينة وتفاصيل جغرافية مما كان قد ذكرها في مقدمة الكتاب. وفي أماكن كثيرة يقدم لنا الواقدى قصة
الواقعة بإسناد جامع- أى يجمع الرجال والأسانيد في متن واحد. وإذا كانت الغزوة قد نزل فيها ايات كثيرة من القران، فإن الواقدى يفردها واحدها مع تفسيرها ويضعها في نهاية أخبار الغزوة. وفي المغازى الهامة يذكر الواقدى أسماء الذين شهدوا الغزوة وأسماء الذين استشهدوا أو قتلوا فيها) (١٠) .
ويشكل نمط الكتابة المختصرة النمط السردى الثانى من أنماط كتابة السيرة النبوية، وهو يشترك مع النمط السابق في تقديم الأخبار الخاصة بحياة الرسول (ص) ووقائع دعوته وغزواته المختلفة، وتقسيم هذه الأخبار طبقا للمسار الزمنى لحياة الرسول (ص)، ولكن كتّاب ذلك النمط كانوا يركزون على اختيار الوقائع، ويعرضون عن تقديم المرويات المختلفة حول الوقائع التى يعرضونها، كما يندر لدى بعضهم- كابن عبد البر- تقديم الأشعار المرتبطة بوقائع السيرة، بينما لا يورد بعضهم الاخر- كابن حزم- أيّا من أشعار السيرة. ومن أبرز النماذج التى تمثل هذا النمط كتاب" الدرر في اختصار المغازى والسير" لابن عبد البر (ت ٤٦٣ هـ)، وكتاب" جوامع السيرة" لابن حزم الأندلسى (ت ٤٥٩ هـ) (١١) .
وثمة احتمال أن يكون تأصل هذا النمط في إطار كتابة السيرة النبوية قد أثر على كتابة بعض النصوص التى تنتمى إلى النمط الأوّل؛ فكتاب المقريزى (ت ٨٤٥ هـ) (إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع) يقوم على
المقدمة / 24
إيجاز المرويات المختلفة التى يعيد المقريزى صياغتها بلغته هو، مقدما- فى ثنايا سرده- بعض المرويات المسندة إلى قائليها الأوّل، ومستشهدا بالقليل من أشعار الوقائع، (١٢)، ولعل قيام كتاب المقريزى على لغة مؤلفه في الصياغة جعل منه متنا مختلفا عن متون النمو الأوّل التى كانت تنظيما لمجموعات من الأخبار ذات الأسانيد.
إن متن السيرة النبوية في كتابات النمطين السابقين يشكل نصا سرديا يقوم على تتابع عدد من الواحدات السردية الكبرى التى تصور حياة النبى (ص)، وإذا كانت كل واحدة سردية كبرى تقدم مرحلة مهمة ودالة من حياة شخصية النبى (ص) فإن الواحدة السردية الكبرى يمكن أن توصف بأنها مقطع سردى طويل يبدأ من نقطة زمنية محددة وينتهى عند نقطة زمنية محددة، وتحمل كل نقطة منهما قيمة دالة في حياة الشخصية، وما بين نقطة البداية ونقطة النهاية يتشكل امتداد زمنى تملؤه عناصر سردية متنوعة كالوقائع والأخبار والأحداث وغيرها. وإذا كانت كل واحدة كبرى تشكل (سلسلة من الأفعال المتعاقبة) (١٣) فإن الراوى لا يكتفى بتقديم تلك السلسلة عبر مسار زمنى صاعد، وإنما يستطيع دائما أن يكسر ذلك المسار بالعودة المطولة إلى الماضى أو ماضى الماضى أحيانا- ولا سيما لتأصيل نسب الشخصية- أو تقديم نبوات بمصائر بعض الشخصيات- ولا سيما أعداء البطل- أو الاستطراد نحو كثير من التفريعات السردية التى تضعف- أحيانا- من ظهور المسار الزمنى الأساسى للوقائع.
وتشكل بعض الوقائع في السيرة النبوية ما يمكن أن يسمى واحدة سردية وسطى إذ تقع- من ناحية- فى مدى زمنى أقل من المدى الذى تستغرقه وقائع الواحدة السردية الكبرى، كما تقوم- من ناحية ثانية- على نواة صراع مباشر يحدد للراوى طريقة معينة في سرد الوقائع وتنظيمها وصياغة التفاصيل، مما يجعل السرد أدنى إلى التركيز على خيوط متوالية زمنيا، ومتوالدة سببيا. وتمثل الغزوات الكبرى نماذج دالة لتلك الواحدات السردية الوسطى، ولعل هذا" التميز" الذى تتصف به واحدات المغازى هو الذى جعل عبد الله إبراهيم يصفها بأنها قد جاءت- فى سيرة ابن إسحاق (بشكل واحدات شبه قصصية) (١٤)، بينما وصف عبد
المقدمة / 25
الحميد بورايو الغزوة بأنها (تمثل قصة مكتملة، لها بداية ووسط ونهاية، وهى في الوقت نفسه ترتبط بمثيلاتها بواحدة ملحمية) (١٥) .
وتمثل الأخبار والحكايات المختلفة نمط الواحدة السردية الصغرى ليس في متن السيرة النبوية واحدها، ولكن في كل أشكال السرد العربى الوسيط.
وتمثل السيرة المشروحة النمط الثالث من أنماط كتابة السيرة النبوية، ويقوم هذا النمط على الموازاة بين نصين مختلفين ومتصلين في الان نفسه، ويتمثل النص الأوّل في متن ابن إسحاق أو ابن هشام الذى يتحول لدى كتاب هذا النمط إلى نص أصلى، بينما يتمثل النص الثانى في نص شارح يقدم فيه مؤلفه شرحا للألفاظ الغريبة أو إعرابا لبعض الكلمات أو العبارات الغامضة، وتجلية لأنساب بعض الشخصيات، وإكمالا لبعض الأخبار الناقصة، وتناولا لبعض الجوانب الفقهية أو الكلامية التى تثيرها بعض وقائع السيرة أو مواقفها.
ويبدو أن هذا النمط قد تشكل في مرحلة تالية لتشكل النمطين الأولين، كما يبدو أنه كان يؤدى بعض الوظائف التعليمية المباشرة، ومن الكتب الممثلة لهذا النمط كتاب" الروض الأنف في شرح السيرة" الذى ألفه عبد الرحمن السهيلى (ت ٥٨١ هـ)، وهو يقرر في مقدمته أنه قد جمع فيه (من فوائد العلوم والاداب، وأسماء الرجال والأنساب؛ ومن الفقه الباطن اللباب، وتعليل النحو وصنعة الإعراب، ما هو مستخرج من نيف على مائة وعشرين ديوانا، سوى ما أنتجه صدرى ونفحه فكرى ونتجه نظرى ولقنته عن مشيختى، من نكت علمية لم أسبق إليها ولم أزحم عليها) (١٦) .
ولعل ذلك النص أن يكون كاشفا عن أن اكتمال نص السيرة النبوية لدى ابن هشام- فى بداية القرن الثالث الهجرى- قد جعل من شراحه يسعون إلى إفادة القارئ بتقديمهم مجموعة من المعارف المختلفة المستمدة من مجالات الحديث والفقه وعلوم اللغة وعلم الكلام والتاريخ، والقراات أحيانا، فى إضاءة النص الأصلى للسيرة، وذلك ما يخرج بعض هذه النصوص، وربما معظمها، عن إطار الكتابة الأدبية والكتابة التاريخية؛ يستوى في هذا كتاب" الروض الأنف" وكتاب" الشفا فى حقوق المصطفى" الذى ألفه القاضى عياض (ت ٥٤٤ هـ) وجعل من شروحه
المقدمة / 26
وسيلة لعرض بعض المسائل الكلامية أو تقديم تفسيرات لبعض الايات القرانية، أو تقديم بعض الأحاديث والأخبار، أو عرض بعض مسائل القراات القرانية (١٧) .
شكل كل نمط من الأنماط السابقة مجموعة من التقاليد الكتابية الخاصة بمتن السيرة النبوية بوصفه نصا سرديا، أو بشرحه لغايات مختلفة. وكانت هذه الأنماط متاحة أمام الطهطاوى وهو يكتب" نهاية الإيجاز"، وقد نقل الطهطاوى كثيرا من النصوص السابقة عليه، وكان يردها إلى مصادرها، لكنه أعاد صياغة تقاليد كتابة السيرة النبوية حيث أفاد من تقاليد كتابتها لدى أصحاب الأنماط الثلاثة السابقة عليه (وذلك ما سيتضح تفصيلا في فقرات تالية) . وبقدر ما كان سعى الطهطاوى إلى إعادة صياغة تقاليد كتابة السيرة النبوية دالّا على منحاه التجديدى الذى يبدأ بتمثل الموروث- مع السعى إلى تجاوزه- فإن فعل التجاوز لدى الطهطاوى يمثل بدوره، دالا اخر على أن كتابة.
الطهطاوى السيرة النبوية لم تنفصل عن لحظتها التاريخية والأدبية؛ أى لحظة ميلاد الأنواع السردية الحديثة في الأدب العربى.
(٣) إذا كان الطهطاوى قد قدم صياغته للسيرة النبوية في أوائل العقد الثامن من القرن التاسع عشر فإن عمله هذا يمكن تفهمه في تقاطعه مع إطار التيار الأساسى السائد على الرواية العربية الحديثة في المرحلة الأولى من مراحل تبلورها، والتى تمتد من الثلث الأخير من القرن التاسع عشر إلى بداية الحرب العالمية الأولى. وقد ساد فيها نمطان روائيان هما الرواية التاريخية والرواية التعليمية ويتفق النمطان في كون التعليم الهدف المشترك لكليهما؛ وإن اختلفت طبيعته بينهما؛ فبينما كانت الرواية التاريخية تعلّم الأحداث والوقائع التاريخية الخاصة بفترة أو شخصية ما من التاريخ العربى والإسلامى فإن الرواية التعليمية قد تغيت تقديم معارف من علوم متنوعة، على نحو ما يتجلى في رواية" علم الدين" (١٨٨٣) لعلى مبارك (١٨٢٣- ١٨٩٣) والتى تعد النموذج الأساسى لها في هذه المرحلة (١٨) .
ومن اللافت أن بدايات الرواية التاريخية قد بدأت في لبنان في وقت معاصر
المقدمة / 27
لتقديم الطهطاوى" نهاية الإيجاز"؛ إذ قدم سليم البستانى (١٨٤٨- ١٨٨٤) روايات: " زنوبيا" (١٨٧١)، و" بدور" (١٨٧٢)، و" الهيام في فتوح بلاد الشام" (١٨٧٤)؛ وقد نشرت كلها في أعداد مجلة الجنان. بينما قدم جميل نخلة المدور روايته" حضارة الإسلام في دار السلام" فى عام ١٨٨٨ ثم بدأ جرجى زيدان (١٨٥٦- ١٩١٤) مع بداية العقد الأخير من القرن التاسع عشر، أى عام ١٨٩١، تقديم سلسلة روآياته عن تاريخ الإسلام؛ إذ قدم- فى الفترة من ١٨٩١ إلى ١٩١٤- اثنتين وعشرين رواية صاغ في معظمها أحداث التاريخ العربى الإسلامى (١٩)؛ وركز فيها على بعض المراحل والشخصيات المؤثرة فيه مثل:
الحجاج بن يوسف (١٩٠٢)، وأبو مسلم الخراسانى (١٩٠٥)، والعباسة أخت الرشيد (١٩٠٦)، والأمين والمأمون (١٩٠٧)، وعبد الرحمن الناصر (١٩٠٩)، ثم صلاح الدين ومكائد الحشاشين (١٩١٣) . على حين أنه اعتمد في القليل من روآياته التاريخية على وقائع بعض الفترات التاريخية الحديثة أو المعاصرة له، أو بعض شخصيات التاريخ العربى المصرى الحديث، كما في روايتيه محمد على (١٩٠٧) والانقلاب العثمانى (١٩١١) .
إن تلاقى نمطى الرواية التاريخية والرواية التعليمية في الهدف التعليمى العام هو الذى يفسر مظاهر التلاقى بينهما في طرائق الصياغة والتشكيل واستخدام تقنيات بعينها. فلما كان تعليم التاريخ- بالمعنى العام والمباشر لهذه العبارة- هو مبتغى كتاب الرواية التاريخية فإن ذلك الهدف كان يضم إلى تقديم الحقائق التاريخية المتعلقة بفترة ما، من ناحية، تصوير بعض الجوانب الحضارية التى تميز هذه الفترة، من ناحية ثانية، وتصوير الأخلاق والعادات، من ناحية ثالثة. وكان حرص كاتب الرواية التاريخية على أن يقدم لقارئه الحقائق والأحداث التاريخية الكبرى في الفترة يكتب عنها دافعا له إلى أن يثبت المراجع التاريخية التى اعتمد عليها سواء في بداية الرواية أو في نهايتها أو في مواضع مختلفة، على نحو ما يبدو لدى جرجى زيدان وجميل نخلة المدور. وقد أفرز ذلك ظاهرة متكررة تتمثل في حرص كتاب الرواية التاريخية على إسناد الأخبار والمعلومات إلى مصادرها. وبقدر ما تشير هذه الظاهرة إلى ارتباط هؤلاء الكتاب ببعض طرائق نقل الأخبار التاريخية وغير التاريخية- فى
المقدمة / 28
الأشكال السردية العربية الوسيطة- فإنها تشير أيضا إلى أن الجمهور الذى كان يتوجه إليه هؤلاء الكتاب إنما هو جمهور كانت" التقليدية" سمة مؤثرة في ثقافته؛ إذ كان يطالب كتاب هذا الشكل بالحرص على" المرويات الصحيحة" مما كان يدفع بعض الكتاب- مثل جميل نخلة المدور- إلى إعادة صياغة بعض الوقائع وتناولها (بشىء من التهذيب والتنقيح وتبديل الروايات الضعيفة بما هو أصح وأثبت عند أئمة النقل) (٢٠) .
وكان كتاب الرواية التاريخية يسعون إلى تقديم وصف تاريخى وجغرافى دقيق ومفصل وموثق للأماكن التى تدور فيها أحداث رواياتهم، بينما نحا بعضهم أحيانا إلى الاهتمام بإيراد التفاصيل التاريخية أكثر من العناية بإحكام (الخيال في خلق صورة حية واقعية) (٢١) للمجتمعات أو الفترات التاريخية التى يصورونها.
وقد دفع المسعى التعليمى المباشر كتاب الرواية التاريخية إلى الاتكاء على تقنية الاستطراد؛ إذ كان كاتب هذا الشكل يتخذ من أحداث روايته وسيلة لتقديم معلومات عن عصرها، أو تقديم النصائح والمواعظ والحكم والتوجيهات المباشرة (٢٢) . كما تتجلى الظاهرة نفسها في" علم الدين" حيث ينتقل الراوى بين عدة مسامرات تختلف في موضوعاتها مما يضعف من دور الرابطة الأساسية التى تربط هذه المسامرات (٢٣) .
لقد كان كتّاب نمطى الرواية التاريخية والرواية التعليمية يسعون- كل بطريقته إلى اتخاذ التشكيل السردى وسيلة ناجعة لتعليم جمهور المتلقين، وهذا ما حدد دور" الخيال" فى تشكيل حبكات أعمالهم؛ إذ ثمة صيغ مختلفة لتشكيل الحبكة؛ منها صيغة تقوم على الجمع بين حكاية وقائع تاريخية وحكاية متخيلة غالبا ما تكون حكاية عاطفية؛ وإذا كانت الحكاية الأولى تتشكل من عناصر قدمتها المصادر العربية القديمة عن الشخصية أو الفترة موضوع الرواية فإن الحكاية المتخيلة قد تستند إلى شخصيات تاريخية يملك الكاتب حرية الإفاضة في سلوكها أو ابتكار أحداث تنسب إليها أو مجاوزة بعض الأطر التاريخية في تصويرها له، على نحو ما يبدو في تصوير جرجى زيدان لشخصية أبى العتاهية في روايته" العباسة أخت الرشيد" (٢٤) .
المقدمة / 29