ويبدو أن نيتشه كان في هذه الفترة يوفي دينا لأساتذته ؛ ففيها كتب عن شوبنهور، وعن فاجنر، وعن بعض معاصريه، في تلك المجموعة التي أطلق عليها اسم «خواطر في غير أوانها»، فضلا عن الكتاب السابق الذي ألفه متأثرا بفاجنر.
على أنه حين بدأ ينقطع عن الجامعة، ويطوف أرجاء إيطاليا وسويسرا، كان قد تجاوز مرحلة التأثر المباشر بشوبنهور وفاجنر، وبدأت فترة من التأليف العقلي النقدي، ظهر فيها تحرره بوضوح، وبدأ فيها يوجه نقده إلى كل مقومات العصر، فظهر له كتاب «أمور إنسانية، إنسانية إلى أقصى حد» في جزأين، بدأ الأول في سنة 1876، وانتهى من الثاني في سنة 1879. وفي العام التالي، وفي جو فينيسيا المتحرر، كتب نيتشه «الفجر»، ثم بدأت فترة من التأليف الخصب، ظهر له فيها «العلم المرح» (1882)، و«هكذا تكلم زرادشت» (1883-1885)، و«بمعزل عن الخير والشر» (1885)، و«أصل نشأة الأخلاق» (1887). وفي خلال كل ذلك، كان يعد مواد كتابه الأكبر الذي كان ينوي فيه تدوين خلاصة فلسفته بطريقة منهجية منظمة، والذي لم تتح له فرصة إتمامه وتنسيقه، فنشر كما تركه ضمن مؤلفاته المختلفة؛ وأعني به كتاب «إرادة القوة» (1884-1888). وحتى العام الأخير من حياته الواعية، ظل نيتشه يؤلف بغزارة، فأخرج رسالتين عن فاجنر، هما قضية فاجنر، ونيتشه ضد فاجنر. وانتهى عهده بالتأليف بكتاب «هو ذا الرجل!
Ecce homo » الذي عرج فيه على شخصيته هو، فتناولها هي وكتاباته بالتحليل، وكأنه لم يشأ أن ينتهي من التأليف دون أن يعرض على الناس رأيه في نفسه.
وعندما وصل تفكيره إلى هذه القمة، وبلغ في نقده أقصى الحدود التي يمكن ذهنه أن يبلغها، لم يقو عقله على المضي في طريقه، فإذا بأعراض الجنون الحقيقية تظهر عليه؛ ففي ديسمبر سنة 1888
1
وصلت منه إلى أصدقائه خطابات بإمضاء «نيتشه - قيصر»، وتلقت كوزيما - زوجة فاجنر - خطابا منه يقول فيه: «أريان، إنني أحبك. ديونيزوس» (وهو اعتراف سنفسره فيما بعد)، وبينما كان يسير في شوارع تورين، شاهد فرسا يضربه صاحبه ضربا أليما، فألقى بنفسه عليه ليحميه، ثم سقط على الأرض صريع الجنون. وقضى نيتشه ما يقرب من اثني عشر عاما في فيمار
Weimar
بعيدا كل البعد عن عالم العقلاء، إلى أن مات في 25 أغسطس سنة 1900.
ومن الظواهر المؤسفة أن جنون نيتشه الأخير قد استغل أسوأ استغلال، فذهب بعض الكتاب إلى أن مؤلفاته كلها تتسم بطابع الجنون، وأن اللوثة العقلية تظهر فيها كلها - بدرجات مختلفة - منذ البداية. وليس هناك أدنى شك في أن حياة نيتشه لو لم تكن قد انتهت على هذا النحو؛ أعني لو كانت قد انتهت مثلا بحادثة وقعت له في عام 1888، لما خطر هذا الاتهام على بال أحد؛ ذلك لأن البحث الموضوعي الدقيق لكتابات نيتشه لا يؤدي إلى أي تأييد لهذا الادعاء الباطل. وكل ما في الأمر هو أن خصائصه النفسية، التي كانت تنعكس بوضوح على كتاباته، كانت ذات طابع فريد؛ ومن من كبار الكتاب أو الفنانين لم يكن له طابع نفسي فريد؟ إن العزلة القاتلة التي عاش فيها نيتشه قد صبغت أسلوبه بصبغة خاصة، وشعوره بالوحدة قد أضفى على كتاباته نوعا من الترفع والتعالي؛ غير أن هذا كله ليس جنونا على الإطلاق، وما هو إلا تعبير عن النمط النفسي الخاص الذي ينتمي إليه نيتشه، وهو نمط مألوف بين العقلاء، بل بين الكثيرين من أعمق العقلاء تفكيرا.
والحق أن المرض بوجه عام كان يؤثر دائما في نيتشه تأثيرا عكسيا؛ أعني أنه كلما اشتدت عليه وطأة المرض، كان يدعو إلى إنسانية سليمة صحيحة، وكانت نغمة الصحة والقوة تزداد وضوحا في كتاباته. قد يكون هذا تعويضا، ولكنه لا يؤثر مطلقا في قوة الدعوة وروعة الهدف ذاته.
অজানা পৃষ্ঠা