86

নিদা হাকিকা

نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر

জনগুলি

الحق أن المشكلات التي يثيرها ليست مجرد مشكلات للبحث، وإنما هي وعاء يضم تجربته الأساسية، ويقدم من خلاله سؤاله عن الوجود، كما فعل في بحوثه عن العمل الفني ومشكلة التقنية وشروحه لنصوص الفلاسفة وقصائد الشعراء ... إلخ، إنه يريد أن يستمع إلى نداء اللغة، واللغة هي لغة الوجود، ولا بد أن تتحدث اللغة إلينا، أن تعبر لنا عن ماهيتها: «فماهية اللغة هي لغة الماهية»، ولن تتسنى لنا تجربة اللغة حتى يحدث هذا، وخير ما يمهد لهذا الحدث أن نحس بجوار الشعر والفكر، ونتمكن من السكن في هذا الجوار، صحيح أن المفكرين قد قدموا لنا أفكارا قيمة عن اللغة، وأن الشعراء قد أبدعوا آيات لغوية رائعة، غير أن ماهية اللغة لم تعبر عن نفسها عند أحد منهم ولا في أي مكان بوصفها لغة الماهية، فما تقوله اللغة نفسها يختفي عادة وراء ما يقال من خلالها، وربما كان السبب في هذا أنها تتمسك بالأصل الذي انحدرت منه وتأبى على ماهيتها أن تظهر، وربما كان السبب أيضا أننا لم نفكر بعد تفكيرا أصيلا في الشعر والفكر، وهما الأسلوبان المميزان في القول، ولم نحاول أن نلتمسهما حيث ينبغي أن يلتمسا، أي في الجوار الذي يؤلف بينهما.

ونعود إلى تفسير قصيدة جئورجه عن الكلمة، فهي لا تقتصر على القول بأن هناك علاقة بين الشيء (الموجود) والكلمة، بل تزيد عليه أن الكلمة هي التي تساعد الشيء على الوجود وتحفظه، إنما هي التي تجعل الشيء شيئا، وما وصفناه بالعلاقة بينهما هو في الحقيقة أقرب إلى «التمكين»، فالكلمة هي التي تمكن الموجود من الوجود وتكفله له.

قلنا إن الشعر والفكر يربط بينهما الجوار، فما هو العنصر المشترك بينهما؟ إنه عنصر اللغة نفسها، ولكننا جميعا نعلم أن الشعر غير الفكر، هذا ما يشهد به الحس السليم ولا ينكره هيدجر، وإذا كان الشاعر والمفكر، والعالم ورجل الشارع يستخدمون لغة واحدة أو عنصرا واحدا، فإنهم يختلفون مع ذلك أشد الاختلاف تبعا لاستخدام الكلمة في الشعر أو الفكر أو العلم أو الحياة اليومية، وربما أوحى إلينا تفسير قصيدة جئورجه أننا لسنا في جوار الشعر والفكر؛ إذ كان الفكر هو طريقنا إلى فهم ما يقوله الشاعر، ولكن المسألة أعقد من هذا، فهذه المحاولة التي قمنا بها يعوزها إدراك الجوار في ذاته، إننا نقيم حقا في اللغة ونتخذ منها سكنا لنا، ولكن الإحساس بهذا المقام والسكن من أصعب الأمور، وإذا كان هذا السكن هو الذي يحدد ماهية الإنسان، فإن العودة إلى ما يسميه هيدجر «مقر الوجود الإنساني» هو الواجب الأسمى علينا، وهو الذي يتجه إليه بكل جهده وفكره، ولا ينبغي أن نتصور هذا «المقر» «مكانا ثابتا» لا يبرحه الإنسان، بل لا بد من اعتباره المكان أو المجال الذي تتفتح فيه إمكانياته الأصيلة التي عرفناها عند الحديث عن تحليل الوجود الإنساني في «الوجود والزمان»، ولا ينبغي أيضا أن نفهم هذه العودة بمعنى الرجوع للقديم، فهذا شيء تأباه تاريخية الإنسان كما يأباه التكوين الزماني للوجود نفسه.

هذه «الرجعة» إلى مقر الوجود الإنساني والماهية الإنسانية تقابل ما نلمسه اليوم من «تقدم» في ماهية الآلة مقابلة الضد للضد، وما بقي الإنسان على جهله بقوام ماهيته وأساسها، فسيظل كل تقدم في السيطرة الآلية والتقنية أمرا مشكوكا فيه؛ لأنه سيقيس تقدمه بمدى تحكمه في الطبيعة، لا بمدى معرفته بحقيقته أو بالطبيعة نفسها بما هي كذلك.

ولكن ما هي هذه الجوهرة التي يحملها الشاعر معه؟ كيف نفهمها؟ ما معنى هذا الرمز؟ ولماذا تعجز ربة القدر عن إيجاد اسم لها؟ إن هيدجر يقترح علينا أن تكون هذه الجوهرة هي الكلمة نفسها، هنا يعرف الشاعر حدوده التي لا يصح أن يتخطاها، فهو يفتش في «وطن الشعر» عن كلمة تسمى الكلمة فلا يعثر عليها، أيمكن أن يساعده الفكر؟ إن الكلمة ليست شيئا، عبثا نبحث بين الأشياء عن الكلمة، والكلمة لا «تكون» بالمعنى الذي «تكون» به الأشياء والموجودات، ومع ذلك فكينونتها متميزة عن كل الأشياء؛ ولهذا لا يجوز لنا أبدا - من الناحية الموضوعية البحتة - أن نقول عنها إنها تكون، والأولى أن نقول: إنها تعطي.

169

إنها تعطي بمعنى العطاء والإهداء، ولكن ما الذي تعطيه؟ الجواب بسيط: إنه الوجود، وهي لا تعطيه بالمعنى الذي كان مفهوما في العصور الوسطى من أن الله أو الكلمة هي التي تخلق الموجود، بل بالمعنى الذي فهمناه من قبل من «الإنارة» التي تتجلى فيها الموجودات وتظهر، دون حاجة منها إلى خلقها وإيجادها.

ونقترب الآن من فكرة الجوار بين الشعر والفكر، ونحاول أن نفهمه من خلال اللغة نفسها: «فالإنسان لا يكون إنسانا إلا بقدر ما ينصت لنداء اللغة، وبقدر ما يستخدم اللغة ويتحدث بها»، هذه العبارة تغير محور الارتكاز الذي عرفناه حتى الآن، فقد تحدثنا عن علاقة الماهية بالإنسان، ووصفنا اللغة بأنها سكنه ومقامه الذي يحيا فيه دون أن ينتبه إليه أو يتفكر في أمره؛ لأنه أبعد شيء عنه وإن كان أقربه إليه، وها هو ذا الإنسان يتوارى قليلا لكي تبرز اللغة إلى مقدمة المسرح (وهي - إن صح هذا الظن - تخاطبنا كما يخاطب الممثل أو الراوية جمهور المتفرجين في المسرحيات الملحمية، أو المسرحيات التي أصيبت بوباء «الموضة» دون أن يكون لها من الملحمية أدنى نصيب) لكي تقول لنا: لقد درجتم على اعتبار اللغة أداة اتصال وتوصيل، وظننتم أن اللغة وسيلة تستخدمونها، ولكن ما رأيكم، دام فضلكم، في أنكم مخطئون في حقها وحق أنفسكم؟ إن اللغة يا سادة هي التي تستخدمكم، تعلموا إذن أن اللغة هي التي تستخدم الإنسان، وعليه أن يطيعها وينصت إليها، وربما ثار أحد المتفرجين فنهض غاضبا من مقعده - كما يحدث كثيرا في مسرحيات هذه الأيام - وصعد إلى خشبة المسرح وصاح: ما هذه الإهانة؟ إنك أنت الذي تجعل منها شيئا، ما عسى أن تكون هذه اللغة التي تريد منا أن نخدمها ونكون في طاعتها؟ أرجعتم بنا إلى نظرية الأصل السماوي للغة أو نظرية «التوقيف» وما فيها من خزعبلات عفى عليها الزمن ودفنها العلم؟ ولكن «الراوية» لن يستسلم بهذه السهولة، سيحافظ على دوره ولو حاول المتفرجون كلهم أن يزحزحوه من مكانه! وها هو ذا يقول في تؤدة تليق به إن ماهية اللغة هي القول، والقول ،

170

في اشتقاقه الأصلي من اللغات الهندو-أوروبية التي تجهلونها ويعرفها المؤلف، يعني الإشارة والدلالة، وهو يعني كذلك الإظهار، والإظهار - وهذا ما لا تعلمونه أيضا - مرتبط بإنارة الوجود التي تحرر وتعطي، وتمنع وتخفي، فما الذي تعطيه وتمنعه، ما الذي تظهره وتحجبه؟ إنه العالم، وهذا شيء غير جديد على من درس «الأصل في العمل الفني» الذي قلنا فيه إن العمل يظهر حقيقة الوجود ويحجبها، يعطيها ويمنعها، هكذا يمكننا أن نقول - سواء فهمتم أم لم تفهموا - إن ماهية اللغة هي: لغة الماهية، وهي عبارة لو تأملتموها وعشتموها لحولتكم من الأعماق.

অজানা পৃষ্ঠা