নিদা হাকিকা
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
জনগুলি
ونأتي إلى صعوبة هيدجر التي يئن منها الجميع في كل مكان! وهي مرتبطة إلى حد كبير بمشكلة اللغة التي يعبر بها عن فكرة الوجود، وهو متهم بأن لغته عصية على الفهم، وأن أسلوبه عجيب غير مألوف حتى لأبناء لغته، وأنه ينحت «جهازا» من المصطلحات التي لا تعرفها اللغة الفلسفية ولا تعرفها لغته نفسها، ويغوص إلى اشتقاقات منسية أو مشكوك في أمرها ليستمد منها دعائم فلسفته.
كل هذا أمر معروف يكاد أن يرتبط باسمه، بحيث أصبحت بعض تعبيراته مثار التندر والسخرية! ولن أحاول أن أعتذر عن الرجل، فلغته عسيرة ومعقدة حقا، وأسلوبه أسلوب شاعر ركيك إلى أقصى حد، وهو نفسه يعترف بغرابة لغته في مواضع كثيرة من كتاباته (وكأنه يذكرنا أيضا بتحسر كانط على أسلوبه المرهق إذا قورن بأسلوب هيوم المطبوع!) ولكن جانبا كبيرا من هذه الصعوبة اللغوية يمكن التغلب عليه إذا عرفنا مفاتيح فكره - أو بالأحرى مفتاحه الوحيد! - وتعودنا على مصطلحاته الجديدة. والواقع أن صعوبته الكبرى لن يحسها إلا من يحاولون ترجمته إلى لغة أخرى؛ فبعض كتاباته تستحيل تمام الاستحالة على المترجم، اللهم إلا إذا فسر كل جملة بحاشية أكبر منها! وكل من يقرأ ترجمة بعض أعماله الصغيرة في الإنجليزية أو الفرنسية لا بد أن يقدر مدى الجهد الذي تكبده المترجم ليفكر معه أولا قبل أن يكتشف الكلمة المناسبة أو يبتكرها في لغته! ومع ذلك فلا بد أن يصطدم حتما ببعض الكلمات والمصطلحات التي يقف أمامها حائرا؛ لأن الفكرة نفسها مرتبطة بها أو مستمدة منها، وهنا لا يجد مناصا من تركها على ما هي عليه وأمره وأمر قرائه إلى الله!
بيد أن هذه المصاعب كلها يجب ألا تثنينا عن قراءة هذا الفيلسوف والتفكير معه، فنحن لا نستطيع أن نتجاهل أثره الضخم على الفكر المعاصر في شتى مجالاته، ولا تعمقه الجاد ل «زمن المحنة»، كما يقول عنوان أحد الكتب الهامة التي صدرت عنه لكارل لوفيت:
6
ولعل صعوبته أن تكون راجعة إلى صعوبة «الموضوع» الذي يحاول الاقتراب منه، وهو كما علمنا ليس موضوعا، ولا يمكن أن يكون موضوعيا! وأحسب أننا يجب أن نصدق ما يقوله من أنه لا يملك اللغة التي تسعفه في التعبير عن الوجود، بل إنه ليفتقد «النحو» أيضا! وليس هذا مجرد اعتذار عن فقره في موهبة الكتابة، فهو يتعمق التراث الفلسفي كي يكشف عن «أساسه» الذي أهمل ونسي، ويبين قصور هذا التراث وضرورة تحديه وتجاوزه. ولا عجب إذن أن يترك لغة هذا التراث ويتحرر منها خطوة خطوة، وإن ظل بطبيعة الحال مقيدا بها، مضطرا إلى الحوار معها والهجوم عليها بأسلحتها في نفس الوقت الذي يكون فيه لغته الجديدة، يكفي دليلا على هذا أن تراجع مقدمة الكتاب لترى كيف تخلى عن مشكلة الذات والموضوع، وكيف بدأ بفكرته عن «الموجود الإنساني» أو «الدازاين» أو «الموجود-هناك» مرحلة جديدة في فهم الإنسان، وكيف أسقط مشكلة العالم الخارجي بضربة واحدة؛ إذ إن الموجود الإنساني بطبيعته موجود في العالم! وكيف أعاد النظر في مفاهيم عديدة كالأنطولوجيا والترانسندنس (العلو) والحقيقة ... إلخ؟ وكيف لم يتوقف منذ صدور كتابه الأساسي «الوجود والزمان» سنة 1927م عن البحث والسعي «على الطريق» سعيا لا يهدأ ولا تخبو ناره؟ ومثل هذا البحث والسعي المتصل لا بد أن يضايق الشارح الذي يريد أن يثبته على رأي أو موقف يريحه! (9)
ربما زال جانب كبير من صعوبة هذا الفيلسوف لو حاولنا أن نفهم تفكيره ونحققه «من الداخل» ولم نحاول أن نثبته على مسامير الشعارات الجاهزة والقضايا المحددة المريحة التي تملأ كتب تاريخ الفلسفة والأدب (حتى لتبدو لي في بعض الأحيان أشبه بمحلات العاديات والتحف التي تثبت رءوس الحيوانات وجلودها على الحائط!) عندئذ يمكن أن نجد في قراءته متعة لا تقل عن المتعة التي نحسها في صحبة كبار الفلاسفة، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إنها تفوقها في كثير من الأحيان، وما أسهل النقد - أو النقض! - على من ينظر إلى مثل هذا المفكر من الخارج أو يحاول الاقتراب من عالمه بمفاهيم ثابتة تعود عليها، فلنجرب هذا التعاطف واللقاء مع هيدجر ومع غيره من المفكرين والأدباء، ثم ننتقده بعد ذلك كما نشاء على أساس صحيح. وليس معنى التعاطف واللقاء أن نسبح في بحره ونرتدي زيه ونتخذ موقفه وننظر بعينيه، فهذا تكرار شاحب لا يليق إلا بالببغاوات، بل معناه أن نتابعه على الطريق الشاق، ونحقق حركته الفكرية في تطورها وصيرورتها قبل إصدار الحكم عليها، هذا هو موقفي الذي لا أحيد عنه، أما المتعجلون والمتزمتون فهم وما يشاءون!
ولا شك أننا أحرار بعد ذلك في الحكم عليه كما نشاء، وشتان ما بين بعد وقبل! فهنا يمكن أن نكون منصفين، وأن نتكلم عن علم ووعي لا عن شهوة إلى الكلام، وأن ندخل طرفا في الحوار، بعد أن هيأنا أنفسنا له، ولهذا فإن هذا الكتاب لا يطمع إلا في أن يكون تمهيدا متواضعا لتفكير هيدجر، مجرد محاولة أرجو أن تغريك بقراءته «وتجر رجلك» إلى بحار نصوصه! (10)
أخيرا، فإن هذا «التمهيد» يتمنى أن يضيف لبنة واحدة إلى البناء الفلسفي الذي يرتفع بالجهد والإخلاص في بلادنا العربية، وهو لهذا يحب أن يسجل دينه وعرفانه للجهود الطيبة التي سبقته وعبدت له الطريق، ويود أن يشيد بالدراسات القيمة التي ظهرت عن هيدجر، وفي مقدمتها دراسات أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي «الزمان الوجودي، والإنسانية والوجودية في الفكر العربي، ودراسات وجودية»، وأستاذنا الدكتور عثمان أمين في كتابه «في الفلسفة والشعر»، والأساتذة الدكاترة: زكريا إبراهيم «الفلسفة الوجودية، ودراسات في الفلسفة المعاصرة، فلسفة الفن في الفكر المعاصر »، ويحيى هويدي «دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة»، ومحمود رجب في رسالته التي لم تظهر بعد عن «المنهج الظاهرياتي عند هرسل»، وترجمته لمحاضرة هيدجر «ما الفلسفة؟»، وفؤاد كامل في ترجمته لمحاضرتيه «ما الميتافيزيقا؟» و«هلدرلين وماهية الشعر» وترجمته القيمة لكتاب ريجيس جوليفيه عن «المذاهب الوجودية من كيركجورد إلى سارتر».
أما عن مشكلة الحقيقة فأود أن أنوه بفضل البحث الذي أصدره الدكتور نظمي لوقا عن الحقيقة، وبرسالة الدكتور فؤاد زكريا عن مشكلة الحقيقة التي أعارني ترجمته الإنجليزية لها (إذ لم يكن الأصل العربي بين يديه!) وكانت خير عون لي طوال الفترة التي شغلت فيها بإعداد هذا الكتاب.
وأود أخيرا أن أسجل عرفاني بالترجمة الفرنسية ل «ماهية الحقيقة»، وهي الترجمة التي قام بها الأستاذان فالتر بيميل وألفونس دي فيلنس، وساعدتني أكبر مساعدة على استجلاء الكثير من غوامض النص الأصلي، أما الكتاب الذي صحبني في رحلتي المضنية مع نصوص هيدجر المختلفة ابتداء من «الوجود والزمان»، ودلني على الطريق في دروبه «المسدودة»، فهو كتاب الأستاذ فالتر بيميل الذي ظهر عن هيدجر في سلسلة «روفولت» المعروفة، وتفضلت الآنسة فاطمة مسعود بإرساله إلي، والحق أن فضل هذا الكتاب علي أكبر من كل شكر ومن كل تعبير.
অজানা পৃষ্ঠা