وأمسك بذراعها قائلا في فوضوية مصرية: هيا بنا يا شيخة، ودعينا من صديقك هذا.
ولكنها أصرت على موقفها وهي تتلوى وتتملص منه وتقول: غير ممكن، إني أنتظر صديقي ولا يمكن أن أتركه.
ثم لم تلبث أن أضافت: ولكن شكلك عاجبني جدا لدرجة أنني أريد أن أقبل حسنتك الجميلة هذه التي بجوار فمك.
وسرته الملاحظة، بل دفعته إلى مزيد من الفوضوية، فجذبها بعنف قليل ودمه كان قد بدأ يسخن، وقال: أنا حاضر وصديقك غائب؛ دعينا من الغائب واكتفي بالحاضر. وتلوت في يده كالعجينة ولكنها لم تتحرك.
ولمح شخصا يصعد سلالم النفق فترك يدها. واستمر الصاعد في طريقه تجاههما، وحينئذ أحس درش بالحرج، وتراجع عن قربه الشديد منها، وجاء الشاب، وقال بأدب بارد: مساء سعيد.
فأجابه درش: مساء سعيد.
ولف الشاب ذراعه حول الفتاة وقال: هيا بنا يا تيدي.
ومضت الفتاة سكرانة تتلوى، وحتى لم تلتفت لتلقي نظرة على درش وقد خلفته واقفا وقفة لا تسر عدوا أو حبيبا.
ولكنه لم يقف طويلا. ما لبث أن عاد إلى تجواله في الميدان وهو شبه يائس، خائف جدا أن يتقدم الوقت ويفرغ الميدان من الناس، ومن النساء بالذات كما حدث في الليلتين السابقتين. ولكن الميدان لم يفرغ، والنساء والفتيات كن لا يزلن كثيرات كشعر الرأس. ومشكلة درش الحقيقية لم تكن في هذا؛ فحتى لو تعرف بفتاة أو بامرأة فماذا يفعل وهو لا يستطيع اصطحابها إلى الفندق الذي نزل فيه؟ فبوابه كئيب يبدو أنه ليس أبدا من النوع الذي يمكن أن يسمح بشيء كهذا. فأين يذهب بها وهو لا يستطيع استصحابها لبيتها؟ قد تستطيع أن تدله على بنسيون أو فندق آخر ممكن أن يذهبا إليه سويا، ولكن أن يصل به الأمر إلى هذا الحد يستلزم أن تكون معرفته بها قد توثقت إلى درجة كبيرة، وهو يريد أن يحدث هذا كله في ليلة واحدة، بل في جزء صغير من ليلة. فكيف يمكن أن يتعرف إلى فتاة وتتوثق معرفته بها ويستصحبها إلى فندق في ظرف ساعة أو ساعتين؟ والأهم من هذا أنه لا يريد واحدة من فتيات الأزقة أو الشوارع؛ إذ ما أكثر ما اعترضن طريقه وأزاحهن عن نفسه بنظراته وتكشيراته، وهو يريد أن يتم كل هذا مع سيدة أوروبية أصيلة ذات شخصية، تريده هو ولا تريد نقوده، وتعطيه نفسها بإرادتها، بمطلق إرادتها، المشكلة إذن عسيرة وحلها يكاد يكون مستحيلا.
وفجأة بدا مصطفى يلاحظ شيئا. بدأ الميدان يمتلئ بجنود بحرية حين تمعن فيهم وجدهم شبانا صغارا أعمارهم تتراوح بين السابعة عشرة والعشرين، ومع هذا يرتدون زي البحرية. وحين التقطت أذنه إنجليزيتهم أدرك أنهم أمريكان. من أين يجيء بحارة أمريكيون لفيينا وهي ليست ميناء؟ سؤال وجد الإجابة عليه صعبة جدا. ممكن أن يكونوا قد جاءوا في إجازة مثلا، أو في رحلة في أوروبا، كل شيء جائز. المهم أنه بعد قليل كان قد أدرك أنهم هم الآخرون يجوبون الشوارع مثله في جماعات صغيرة وكأفراد. بل تبين أن بينهم بعض الزنوج، ولدهشته وجد أن لونهم فاتح وليس كما تخيل دائما أن زنوج أمريكا غامقو السواد. وكانوا صغارا هم الآخرون وفي عيون البيض والسمر والسود كان يلمح نفس النظرة، هم أيضا يبحثون عن النساء مثله، فلنر ما يحدث يا أمريكان؟ قالها لنفسه ساخطا حانقا، فقد ظهر له من حيث لا يدري أو يتوقع مئات المنافسين الذين يبحثون مثله عن النساء، غير أنه كان مطمئنا إلى حد ما، فالنوع الذي يبحث عنه هو غير النوع الذي يبحث عنه أولئك البحارة الصغار. إنه يبحث عن أوروبا السيدة، وهم يبحثون عن أوروبا العابثة، وشتان ما بين الأوروبتين. ولأمر ما كان يتوقع لهم نجاحا كثيرا، إذ كان يعتقد أن الفتيات الأوروبيات لا بد أنهن «ناقمات هن الأخريات على هذا الاستعمار الأمريكي الجديد»، ولا بد أنهن سيقفن من هؤلاء البحارة العابثين موقفا مشرفا.
অজানা পৃষ্ঠা