لكن هنالك في العقل - فيما عدا وسيلتي الإدراك الحسي اللتين هما المكان والزمان كما أسلفنا - مدركات عقلية موجودة فيه «قبل» أية خبرة حسية، هي مدركات «قبلية» نستعين بها في تكوين المعاني الكلية من المدركات الحسية، ثم في ربط هذه المعاني الكلية بعضها ببعض بحيث نكون الأحكام التي نطلقها على الأشياء إيجابا أو سلبا؛ فأنت حين تدرك البرتقالة الواحدة التي أمامك مستعينا في إدراكها «بمنظار» المكان الذي يضم اللون إلى الشكل والطعم والرائحة والملمس في مجموعة واحدة متلاصقة تكون هي إدراكك الحسي للبرتقالة. أقول إنك حين تفعل هذا لا تكون قد كونت لنفسك بعد «مدركا عقليا» أو «معنى كليا» عن البرتقالة بصفة عامة، بل لا بد لك من خطوة أخرى تقارن فيها عدة البرتقالات الجزئية التي تمر بك في خبرتك لتجردها من صفاتها العرضية ولتبقي لها صفاتها التي يجب أن تكون في الشيء لكي يكون برتقالة، هذه الصفات الجوهرية إذا ما تكونت لديك كان عندك بذلك «معنى كلي» عن البرتقالة بصفة عامة، لا هذه البرتقالة الواحدة أو تلك البرتقالة الواحدة. وعلى هذا النحو تمضي في تكوين «مدركات عقلية» عن الأشياء، ثم ماذا؟ إنك لو وقفت عند هذه المرحلة لما كان لديك «معرفة» بمعناها الصحيح؛ لأن «المعرفة» إنما تكون في الأحكام التي تطلقها على الأشياء إيجابا أو سلبا؛ أي أنها تكون بربط مدركاتك العقلية وإيجاد الصلات بينها مما يدخل بعضها في بعض أو يبعد بعضها عن بعض؛ فنقول مثلا: «النار تحرق الورق» و«النحاس يوصل الكهرباء» و«الخشب لا يغوص في الماء»، وهكذا وهكذا.
لكي تستطيع أن تخطو هاتين الخطوتين بعد مرحلة إدراكاتك الحسية للأشياء الجزئية التي تقع في خبرتك، وهما الخطوتان اللتان تكون بهما «مدركات عقلية»، وتربط هذه المدركات العقلية في أحكام، زودت فطرتك بنوع من المدركات العقلية لا يحتاج - كغيره من المدركات العقلية - إلى خبرة حسية لتكوينه؛ فالمدرك العقلي «شجرة» لا يتكون إلا بعد أن تدرك بالحس أشجارا، أما المدرك العقلي «سببية» فمفطور في عقلك قبل أن تحصل بحواسك أية خبرة حسية، بحيث إذا جاء ضمن خبرتك الحسية شيئان «أ» و«ب» مرتبطان برابطة السببية كالنار والورق المحترق، لم يكن هنالك داع أن تبحث عن الرابطة السببية بين العناصر الحسية ذاتها؛ لأنها من عندك وفي فطرتك، تجعلها على أمثال هذه الحوادث التي ترتبط بها، فتقول: إن «أ» سبب في حدوث «ب» على الرغم من أن الخبرة الحسية ليس فيها إلا «أ» تتبعها «ب»، وليس في مجرد التتابع المحسوس معنى الضرورة؛ أي ليس فيه ضرورة أن تكون «أ» دائما متبوعة ب «ب»، إنما الذي فرض هذا الدوام أو هذه «الضرورة» هو المدرك العقلي الذي زودت به فطرة الإنسان.
هذه المدركات العقلية الفطرية القبلية (أي التي توجد قبل الخبرة الحسية) هي التي تسمى بالاصطلاح الفلسفي «مقولات»، ووجودها شرط لا محيص عنه ليتمكن الإنسان من «معرفة» العالم الخارجي، ولولاها لبقيت مدركاتنا عن العالم الخارجي خليطا مهوشا لا اتساق فيه ولا معنى.
خذ مقولة «الجوهر» مثلا، فما الذي يجعله متعذرا عليك أن تتصور أن البرتقالة إن هي إلا مجموعة صفات تحسها الحواس المختلفة دون أن يكون هنالك من الصفات ما يمسكها في وحدة واحدة؟ ما الذي يجعله متعذرا عليك أن تتصور أن الفرد الواحد من أفراد الناس إن هو إلا سلسلة من حادثات متتابعة عابرة دون أن يكون في داخله محور ثابت هو الذي يوحد بين هذه الحادثات في شخص واحد؟ أو بعبارة أخرى ربما كانت أوضح: ما الذي يضطرك اضطرارا أن تفرض وجود نفس أو روح في الإنسان؟ الذي يضطرك إلى هذا هو فطرتك التي تفرض «جوهرا» تتعلق به الظاهرات العرضية ليتكون الشيء في تصورك، وإلا لانحل الشيء إلى حالات مفككة لا وحدة بينها ولا دوام لوجودها؛ فقد كان «هيوم» على حق حين قال إن الشيء ليس إلا سلسلة ظواهره؛ لأن هذه نتيجة تلزم حتما عن المقدمة التي بدأ بها، وهي أن المعرفة مصدرها الحواس وحدها؛ إذ لو كان الأمر كذلك؛ لما كانت البرتقالة إلا محسوساتها، ولما كان الإنسان أيضا إلا ما يظهر منه للحواس؛ وبالتالي لما جاز لنا أن نفترض في داخله وجود نفس أو روح؛ لأنها ليست مما يأتي عن طريق الحواس. أقول: إن «هيوم» كان على حق على شرط أن نسلم معه بالمقدمة. لكن لماذا لا نبدأ بمقدمة أخرى كما فعل «كانت»، ونقول إن في العقل مقولات فطرية ذاتية قبلية هي التي نصب فيها خبراتنا الحسية؟ ومن تلك المقولات مقولة «الجوهر»؛ فجوهر الإنسان - أي نفسه أو روحه - فرض لا بد منه لتتكون للفرد وحدته واستمراره، وجوهر البرتقالة فرض لا بد منه كذلك لتمسك الظاهرات الحسية في وحدة شيئية. نعم ليس «الجوهر» نفسه من بين المحسوسات لكنه شرط لازم لاجتماعها وتماسكها، وإلا لكان تصورنا لصفات البرتقالة المتفرقة أو لصفات الإنسان وهي معلقة وحدها بغير محور تتعلق به كتصورنا لمجموعة ثياب معلقة في الهواء بغير مشجب تستند إليه.
هذه المقولات شأنها شأن وسيلتي الإدراك الحسي - المكان والزمان - ذاتية نخلعها من عندنا على مدركاتنا ليتكون لنا علمنا بالعالم الموضوعي؛ أي أنها جزء من بنية عقولنا، وهي بمثابة القوالب الفارغة أعدت لتنصب فيها خبراتنا الحسية كائنة ما كانت، ولكن حدود تطبيقها تقف عند حدود الخبرة الحسية، فلا يجوز أن تطبقها على ما ليس يأتي عن طريق الحس.
ولئن كانت وسيلتنا الإدراك الحسي من مكان وزمان قد مكنتانا من ترتيب أشتات الإحساس المتفرقة ترتيبا يجعل بينها اتصالا مكانيا وتتابعا زمنيا؛ وبالتالي استطعنا أن نطلق الأحكام الرياضية في علمي الهندسة والحساب، بحيث تكون أحكاما إخبارية عن عالم الأشياء، وفي الوقت نفسه تكون أحكاما قبلية يقينية، فإن هذه المقولات تمكننا من إطلاق الأحكام في العلوم الطبيعية بحيث تأتي هي الأخرى إخبارية وقبلية في آن واحد؛ أي تأتي مخبرة عن عالم الأشياء، وفي الوقت نفسه يكون فيها اليقين الذي يأتي من العقل ولا ينتظر التجربة الحسية.
ليس ما في العالم من اطراد الحوادث في نظام واتساق يبدوان في قوانينه، ليس هذا الاطراد موجودا في الطبيعة نفسها، بل خلعه الفكر الذي عرفه وأدركه حسب قوانينه المتأصلة في فطرته؛ أي أنه ليس للعالم الطبيعي قوانين خاصة به يسير بمقتضاها غير القوانين التي يعمل بها العقل؛ فقوانين الأشياء هي نفسها قوانين الفكر، والعلاقة التي تربط أفكارنا بعضها ببعض هي نفسها العلاقة التي تربط الأشياء في الواقع الخارجي بعضها ببعض، فإذا كنت ترى الأشياء مرتبطة برابطة السببية؛ فذلك لأن السببية مقولة عقلية مفطورة فينا. ولا غرابة؛ فنحن لا نعلم الأشياء الخارجية إلا بمعونة الفكر وقوانينه، فبديهي أن تكون تلك القوانين العقلية هي نفسها القوانين التي ندركها في الطبيعة.
الفصل السابع
مصدر المعرفة عند المتصوفة
وسيلة المعرفة عند التجريبيين هي الحواس، ووسيلتها عند العقليين هي العقل، وعند النقديين وسيلتها هي الحواس والعقل معا، أما المتصوفة فمن رأيهم أن الحق المطلق - وهو الله - لا تكون الوسيلة إلى معرفته هي الحواس أو العقل أو الحواس والعقل معا، بل تكون الوسيلة إلى معرفته هي «الحدس» أو العيان المباشر أو البصيرة، فكل هذه ألفاظ تسمى بها وسيلة المعرفة حين يمتزج الشخص العارف بالشيء المعروف، بحيث لا تكون هنالك تفرقة بين الذات من جهة والموضوع من جهة أخرى. وإن شئت مثالا قريبا فانظر إلى نفسك كيف تعرف أنك موجود؟ إنك لا تعرف ذلك بعين أو أذن أو أنف؛ لأنك لو أغلقت هذه الأبواب كلها فستعرف أنك موجود. وأنت كذلك لا تعرف وجود نفسك بالبرهان تقيمه فتكون هناك مقدمات تستنتج منها النتائج؛ أي أنك لا تعرف وجود نفسك بالعقل بل تعرف بأن تدركه إدراكا مباشرا، وهذا الضرب من الإدراك هو الذي يقال له في الفلسفة اصطلاحا: إدراك بالحدس، وهو هو بعينه طريقة الإدراك التي ندرك بها الله.
অজানা পৃষ্ঠা