ينهج «ديكارت» منهجا من الشك عرف بعد ذلك باسمه فيقال عنه: «الشك الديكارتي»، فلكي يبني فلسفته على أساس متين؛ قرر أن يشك في صدق معلوماته التي كان قد حصلها ما دام الشك فيها له ما يبرره. ويبدأ بالشك في الحواس وما تجيء به، ويسأل نفسه ساعتئذ: أفي مستطاعي أن أشك بأنني الآن جالس إلى جانب النار ومتدثرا بعطافي؟ ثم يجيب نفسه قائلا: نعم؛ لأنه قد حدث لي أحيانا أن رأيتني في الحلم جالسا هكذا إلى جوار النار متدثرا، مع أنني في حقيقة الأمر الواقع كنت عندئذ عاريا في مخدعي، فضلا عن أن حالات الجنون تصحبها الأوهام أحيانا، ومن الجائز أن أكون الآن في حالة من هذه الحالات.
وعلى الرغم من أن علوما كالحساب والهندسة أكثر يقينا من العلوم الطبيعية، إلا أن الشك فيها ممكن؛ فقد يكون الله قد أراد لي أن أخطئ كلما حاولت أن أعد أضلاع المربع أو أن أجمع اثنين إلى ثلاثة. فإذا قيل إن مثل هذه الإرادة المضللة مستحيلة على الله، أفلا يجوز أن يكون هنالك شيطان شرير قادر على الخداع والتضليل، فيضلني عن طريق الصواب؟ فإن فرضنا وجود شيطان كهذا كان من الجائز أن يكون كل ما أراه أوهاما باطلة.
لكني مهما مضيت في شكي على هذا النحو فسيبقى لي شيء لا أستطيع أن أشك فيه، فلو لم أكن موجودا لما استطاع شيطان أن يضللني. ووجودي هذا قد لا يعني وجود بدني؛ لأن إدراكي لوجود بدني قد يكون من قبيل الأوهام. أما الفكر فشأنه غير هذا؛ لأنني إذا أردت أن أحكم بفكري على كل شيء بالبطلان؛ فقد اعترفت ضمنا بأنني موجود بفكري؛ إذ كيف أحكم بفكري على شيء بالبطلان والفكر غير موجود؟ وما دام فكري موجودا فأنا موجود. ونضع هذا المعنى في العبارة المشهورة التي قالها ديكارت في هذا الصدد فنقول: «أنا أفكر فأنا - إذن - موجود.» وهي حقيقة لها في رأي ديكارت من اليقين ما يستحيل على أي شكاك أن ينفذ إليها بشكه؛ ولذلك فهو يقول عنها: «لقد حكمت بأن في مستطاعي أن أتقبل هذه الحقيقة تقبلا خاليا من الريبة، فأجعلها المبدأ الأول للفلسفة التي كنت أنشدها.» هكذا انتهى ديكارت من شكه إلى حقيقة يثق في صدقها ويتخذها أساسا لاستدلالاته، ومثل هذا الشك الذي ينتهي إلى أساس وطريق معرفته أيسر جدا من الطريق إلى معرفة الجسم، وسيظل الروح محتفظا بخصائصه حتى ولو لم يكن له جسد يستقر فيه.
ويسأل ديكارت نفسه بعد ذلك قائلا: لكن لماذا تكون هذه الحقيقة: «أنا أفكر إذن فأنا موجود» بهذا اليقين كله؟ ثم يجيب عن سؤاله بأنها يقينية لأنها واضحة ومتميزة، فأخذ هذا الجواب وجعله قاعدة عامة هي: «كل شيء ندركه بعقولنا إدراكا غاية في الوضوح وغاية في التميز فهو صواب.» ولو أنه يعترف بأنه ليس من اليسير أن نهتدي إلى أي الأشياء التي يكون إدراكها واضحا ومتميزا.
ومما ينبغي ملاحظته أن ديكارت يستعمل كلمة «التفكير» بمعنى واسع، فالشيء الذي يفكر - باستعمال الكلمة عند ديكارت - هو الشيء الذي يشك ويفهم ويدرك ويثبت وينفي ويريد ويتخيل ويشعر، فعنده أنه حتى الشعور الذي يحدث لنا أثناء النوم ضرب من التفكير.
المعرفة إذن أساسها العقل الذي يدركه صاحبه إدراكا مباشرا. ولننظر الآن ماذا يحدث حين نظن أننا ندرك شيئا بحواسنا؟ أو بعبارة أخرى: فلننظر فيما يحدث عند معرفتنا للأشياء المادية، ويأخذ ديكارت مثلا لذلك قطعة من شمع العسل، فلها صفات معينة تبدو للحواس: طعمها طعم العسل، ورائحتها كأريج الزهر، ولها لون معين تراه العين، كما أن لها حجما وشكلا، وهي ذات صلابة وبرودة، ولو نقرتها بعثت صوتا له رنين معين. لكن ضع قطعة الشمع هذه إلى جوار النار تتغير هذه الصفات، ولو أن الشمع باق؛ وإذن فالصفات التي كانت تبدت للحواس لم تكن هي الشمع في حقيقته، وحقيقته قوامها امتداد ومرونة وحركة، وهذه خصائص يدركها العقل، ولا ترتسم لها صور ذهنية على نحو ما ترتسم الصور الذهنية للمحسوسات؛ وعلى ذلك فالشيء الذي نعنيه بقولنا: «شمع» ليس في حقيقته مما تدركه الحواس، وحسبنا أن نذكر أن حقيقة الشمع حاضرة على السواء في الحواس المختلفة، مع أن الحواس المختلفة متباينة جدا فيما تدركه؛ فالعين ترى لونا، والأذن تسمع صوتا، والأنف يشم رائحة، وهكذا، فإذا كانت حقيقة الشمع حاضرة في اللون حضورها في الصوت أو الرائحة - على اختلاف هذه الإحساسات - كانت حقيقة الشمع مختلفة عن هذه الإحساسات جميعا. إنني في الحقيقة لا أرى الشمع إلا بعقلي، أما هذه الظواهر التي تتلقاها الحواس فليست من حقيقة الشمع إلا بمقدار ما تكون ثيابنا دالة على حقيقتنا، فلو جاز لي أن أقول إنني حين أرى ثيابا وقبعات في الطريق فإني أرى حقائق الناس، جاز أن أقول كذلك إنني حين أحس من الشمعة صفاتها بحواسي فإني أدرك حقيقتها. جرد قطعة الشمع من ثيابها الحسية هذه تدرك حقيقتها بعقلك، وهكذا تكون معرفتك للأشياء الخارجية بالعقل لا بالحواس، وإن بدا الأمر غير ذلك.
وينتقل ديكارت بعد ذلك إلى تقسيم الأفكار أنواعا مختلفة (وهو هنا يدخل الإدراكات الحسية ضمن الأفكار) قائلا: إن أكثر الخطأ شيوعا بين الناس هو ظنهم بأن أفكارهم شبيهة بالأشياء الخارجية، والأفكار في ظنه تنقسم أنواعا ثلاثة: (1) أفكار فطرية فينا. (2) أفكار تأتي إلينا من خارج أنفسنا. (3) أفكار نخلقها نحن خلقا. والصنف الثاني من هذه الأصناف الثلاثة هو الذي نخطئ حياله؛ إذ ترانا مدفوعين بميل طبيعي إلى الظن بأن أفكارنا التي تأتي من خارج أنفسنا هي صور شبيهة بالأشياء الخارجية التي أحدثت فينا تلك الأفكار. أضف إلى ذلك أنها أفكار لا يخضع حدوثها فينا لإرادتنا، بل هي تتكون عن الأشياء أردنا ذلك أو لم نرد؛ فيزيد ذلك من اقتناعنا بأنها تصور أشياءها تصوير الشبيه بشبيهه، لكن لا الميل الطبيعي الذي يدفعني إلى هذا الاعتقاد ولا استقلال هذه الأفكار عن إرادتي بحجة منطقية تدل بالضرورة على صدق الاعتقاد.
ولكن إذا كانت أفكاري التي تأتيني من الأشياء الخارجية ليس فيها ما يدل على أنها تصور الأشياء التي في العالم تصويرا أمينا، أفلا يكون هنالك وسيلة تزيل عني الشك في وجود تلك الأشياء؟ يجيب ديكارت أن الوسيلة هي الاعتقاد في إله خير لا يخدع كما خدعنا الشيطان الذي افترضنا وجوده عندما بدأنا عملية الشك. الله هو الذي وهبني هذا الميل الطبيعي الذي يدفعني إلى القول بأن أفكاري عن الأشياء الخارجية صور أمينة لها، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان هذا الميل في طبيعتي خديعة، وما دام الله الواهب لا يخدع كان ما يدفعني إليه ميلي الطبيعي من حيث صدق الأفكار التي تأتيني من الخارج حكما صحيحا ؛ وإذن فالعالم الخارجي - عالم الأشياء - موجود كما تدركه الحواس.
ولعلك تلاحظ أن ديكارت قد سار في رأيه عن مصدر المعرفة ومدى يقينها في خطوتين: إحداهما تهدم والثانية تبني، لكنه كان أقوى في جانب الهدم منه في جانب البناء؛ فلئن كان في المرحلة الأولى - مرحلة الشك - فيلسوفا ثائرا على تقبل الناس في العصور الوسطى لأفكارهم تقبل التسليم، فقد عاد في المرحلة الثانية فانتكس إلى إيمان العصور الوسطى.
الفصل السادس
অজানা পৃষ্ঠা