الرسالة المصرية
لأبي الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي
470-528
পৃষ্ঠা ৫
مقدمة
نزح كثيرون من رجال الأندلس إلى الشرق طلبا للعلم أو المال أو الجاه، أو رغبة في أداء فريضة الحج، وكان من أولئك النازحين إلى مصر رجل جمع إلى الأدب الحكمة، وإلى الطب التنجيم والموسيقى والرياضة، والبراعة في علم الحيل. هذا الرجل هو أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت، المولود في مدينة دانية، من بلاد الأندلس سنة 470 ه?.
قدم أبو الصلت إلى الإسكندرية ومعه أمه - فيما يروى ابن خلكان سنة 487، أي في أيام الخليفة الفاطمي المستنصر بالله أبي تميم معد بن الظاهر بالله على بن الحاكم بأمر الله، ووزيره إذ ذاك والقائم بأمر دولته الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي الأرمني.
পৃষ্ঠা ৬
وكان يأمل أبو الصلت من وراء رحلته هذه بسطة في العيش، وثراء من المال، كما أشار إلى ذلك في صدر رسالته. ويبدو أنه ظل دهرا خاملا يتحين الفرص، إلى أن أتيح له أن يتصل بأحد المقربين إلى الوزير الأفضل، في أيام الخليفة الآمر، وذلك الرجل هو تاج المعالي مختار، فخدمه بصناعتي الطب والتنجيم، فأعجب به، ووصفه بحضرة الأفضل وأثنى عليه، وكان كاتب الأفضل ينفس عليه ذلك، ويخشى بأس تاج المعالي، وحدث أن تتابعت من تاج المعالي السقطات فأدى ذلك إلى أن يقبض عليه الأفضل ويعتقله، فيجد كاتب الأفضل الفرصة سانحة للقضاء على أبي الصلت، فيختلق له ما يدفع الأفضل إلى أن يلقى به في سجون المعونة بمصر، مدة ثلاث سنين وشهر، بعد الذي دبج فيه من المدائح والشعر.
ويروى ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء، أن دخول أبي الصلت إلى مصر كان في حدود سنة 510 ه، وأنه حبس في الإسكندرية في خلافة الآمر بأحكام الله ووزارة الأفضل. فإن صحت هذه الرواية كانت سندا في أن أبا الصلت ورد مرة أخرى بعد وفاة ولي نعمته أبي الطاهر يحيى بن تميم بن المعز ابن باديس المتوفى سنة 509، وهي سنة خروجه من مصر.
পৃষ্ঠা ৭
ضاق أبو الصلت ذرعا بمصر، وما لقى فيها من الخيبة والعنت. قال القفطي: "ودخل مصر في أيام أفضلها فلم ينل منه إفضالا، وقصده للنيل فلم يجد لديه نوالا". فحينئذ شد رحاله إلى المغرب في سنة 506، واستعاد صلته بحضرة أبي الطاهر يحيى بن تميم بن باديس، الذي وضع له هذه " الرسالة المصرية".
يصف له فيها ماعاينه في مصر وما عاناه، وتناول في هذه الرسالة القيمة: 1 الوصف البلداني للديار المصرية ونيلها.
2 ثم أخذ في تصوير جمال ربوعها ومغانيها تارة بالشعر وأخرى بالنثر.
3 وعقب على ذلك بالكلام في سكانها وأجناسهم ومذاهبهم وأخلاقهم وعقائدهم، منذ عهد الفراعنة إلى ظهور الإسلام.
4 وتحدث بعد ذلك فيما تحتويه من الآثار العجيبة، كالهرمين والبرابي.
5 وذكر عواصم مصر في القديم والحديث.
6 وقدامى العلماء من اليونان والروم، مستطردا بذلك إلى ندرة من لقيه بمصر من المشتغلين بالعلم والحكمة والطب.
7 وعجب من جهل من لقي بها من الأطباء، ونوه بفضل بعض الأطباء البارعين.
8 وتحدث في ولوع المصريين بأحكام النجوم وكثرة استعمالهم لها، وأورد في ذلك نوادر وطرائف.
9 ثم عرج على ذكر من لقيه بها من الأدباء والظرفاء.
পৃষ্ঠা ৮
فهذه الرسالة تضرب بأسباب إلى علوم وفنون شتى، وتعد اليوم كما عدت بالأمس، وثيقة يرجع إليها البلداني، والمؤرخ، وباحث الآثار، والاجتماعي، والحكيم، والطبيب، والمنجم، والأديب.
هذه الرسالة الصغيرة الحجم العظيمة القدر كانت متعارفة متداولة بين كبار العلماء والمؤرخين، ثم أضحت نادرة مجهولة، إلى أن تمكن المغفور له العلامة أحمد تيمور باشا طيب الله ثراه من اقتنائها في مكتبته الخاصة، وهي برقم 601 أدب وعلى هذه النسخة الوحيدة في العالم - كما يتضح من مراجعة فهارس بروكلمان أعتمد في نشر هذه الرسالة الفريدة، التي أورد طرفا منها ياقوت في "إرشاد الأريب"، والعماد في "الخريدة"، والقفطي في "إخبار العلماء"، وابن أبي أصيبعة في "عيون الأنباء"، والأسعد بن مماتي في "قوانين الدولة"، والمقرى في "نفح الطيب"، والمقريزي في "الخطط"، كما سيتضح له عند تحقيق نصوصها.
ولأبي الصلت غير الرسالة المصرية "كتاب الحديقة" على أسلوب "يتيمة الدهر" للثعالبي، وقد نقل منه العماد في "الخريدة". وله أيضا "الأدوية المفردة" وهو محفوظ في مكتبة بودليان، و"تقويم الذهن" في المنطق، بمكتبة الإسكريال، و"أوراق من كتاب في الفلك" بالإسكريال، و"كتاب في المعاني المختلفة للفظة نقطة" في مكتبة ليدن، و"قصيدة" بمكتبة برلين.
পৃষ্ঠা ৯
وقد صنف في معظم هذه الكتب وهو في اعتقال الأفضل بمصر، كما نص ابن خلكان.
انتهت أيام أبي الصلت في المهدية، وقد اختلف المؤرخون في سنة وفاته، فقيل سنة 520 وقيل سنة 528 وإليك الرسالة:
পৃষ্ঠা ১০
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت رحمه الله تعالى: كنت إبان عصر الشباب مونق، وغصن الصبا مورق.
إذا لمتي مسودة ... ولماء وجهي رونق
ممن سامحه الدهر بغفلة من غفلاته، وتجافى له عن غفوة من غفواته، فعاش آمن السرب، سائغ الشرب، لا يتفرغ من أدب يرود رياضه، ويرد حياضه، إلا إلى طرب يعمر ميدانه، ويسحب ذيوله وأردانه. ثم تلون فقلب لي ظهر مجنه، وسقاني دردى دنه، فتدارك ما أغفله، واسترد ما بذله، واضطررت إلى مفارقة الوطن، والخروج عن العطن، فتماسكت إشفاقا من مفارقة أول أرض مس جلدي ترابها، وشدت على التمائم بها. وجاءت أمور لا تطاق كبار، فلما لم يكن الفرار، قلت: ليس لي إلا أن أرمي بنفسي كل مرمى، وأطرحها كل مطرح.
لأبلغ عذرا أو أنال رغيبة ... ومبلغ نفسي عذرها مثل منجح
وسكنت إلى البيت المشهور:
পৃষ্ঠা ১১
تلقى بكل بلاد إن حللت بها ... أهلا بأهل وأوطانا بأوطان
وإن كان يقول العامة: ليس بين بلد وبلد نسب، فخير البلاد ما حملك فجعلت أستقري البلاد لأتيمم أوفقها للمقام، وأعونها على مقارعة الأيام، فكانت مصر مما وقع عليها إختياري، وصدقت حسن ظني قبل اختباري، وسرت قاصدا إليها أعتسف المجاهل والتنائف، وأخوض المهالك والمتالف، فطورا أمتطي كل حالكة الإهاب، مسودة الجلباب، ثابتة كصبغة الشباب، قد فسح ميدانها، ووضع براحة الريح عنانها، فجرت جري الطرف الجموح، وفاتت مدى الطرف الطموح؛ وطورا كل نقب الأياطل، كالهياطل، سبط المشافر جعد الأشعار، أحتذى العقيق، أو الصنو الشقيق، إن علاقات ظليم خاضب، وإن هوى قلت شهاب ثاقب، يصل الذميل بالوخاد، وبلتهم التهائم والنجاد. فكم جزع واد جزعته، وجلباب ليل أدرعته، وكم بر خرقت مخارمه وفجاجه، وبحر شققت غواربه وأمواجه، وليس لي غير مصر مقصد، ولا وراءها مذهب، ولا دونها للغنى متطلب.
وكم في الأرض من بلد ولكن ... عليك لشقوتي وقع اختياري
পৃষ্ঠা ১২
فلما تغمري ركابي من النيل،، واستذرت بظل المقطم، ألقيت عصا التسيار، واستقرت بي النوى، وخفت ظهورهن من الرحال، وأرحتهن من الحل والترحال، وقلت: ضالتي المنشودة، وبغيتي المقصودة، هاهنا ألبث وأقيم، فلا أبرح ولا أريم، "بلذة طيبة ورب غفور". وحيث التفت فروضه وغدير، وخورنق وسدير، وظل ظليل، ونسيم عليل.
وكم تمنيت أن ألقى بها أحدا ... يسلى من الهم أو يعدى على النوب
فما وجدت سوى قوم إذا صدقوا ... كانت مواعيدهم كالآل في الكذب
وكان لي سبب قد كنت أحسبني ... أحظى به فإذا دائي من السبب
فما مقلم أظفاري سوى قلمي ... ولا كتائب أعدائي سوى كتبي
ولم تطل مدة اللبث حتى تبينت بما شاهدته أنى فيها مبخوس البضاعة، موكوس الصناعة، مخصوص بالإهانة والإضاعة؛ وأن عيشها الرغد، مقصور على الوغد، وعقابها المر، موقوف على الحر، فلو تقدمت فعلمت ذلك لخف عنها مركبي وصرفت إلى سواها وجه مطلبي، ولكان لي في الأرض مرمى شاسع، ومنتاب واسع، بل تثبطت، حتى تورطت، حتى عوملت بما يعامل به ذوو الجرائر والذنوب، وجرعت من المذلة بأوفى ذنوب. هذا مع ما حبرته من المدح التي اشتهرت شهرة الصباح، وهبت هبوب الرياح، ولهج بها الحادي والملاح.
فسار بها من لا يسير مشمرا ... وغنى بها من لا يغني مغردا
পৃষ্ঠা ১৩
إلا أن الله جلت آلاؤه، وقدست أسماؤه، تدارك برحمته فأزال تلك المحنة بالمنحة، ونسخ تلك النقمة بالنعمة، وختم بالوصول إلى حضرة الملك الأجل أبي الطاهر بن يحيى بن تميم المعز بن باديس، الذي لم تزل حضرته مصاد العناة، ومراد العفاة، ومجتمع الفضائل، ومنتجع الأفاضل، ومشرع الجود، ومشعر الوفود. فلما استترت بجناحه، واستظهرت باستماحه، أعذب لي بسماحة الدهر جناه، واعتذر لي مما جناه، فكف دوني كفه، وصرف عني صرفه.
كريم رفضت الناس لما بلغته ... كأنهم ما خف من زاد قادم
فكنت فيما مضيت عليه، وآلت حالي إليه، من إشراقها بعد الأفول، وإبراقها بعد الذبول، كنصل أهمل أمره، من جهل قدره، ولما وقع إلى وقع الخبير به صان صفحته وحده، وحلى حمائله وغمده، ثم ادخره فيما يدخر وأعده، فإن انتضاه، يوما ارتضاه، وإن جرده، أحمده، وإن هزه، سره في الضريبة حزه.
ولكن أبى الله أن يكون الفضل إلا لمن نشأ في مغارسه، ونجم في منابته، وربى في حجره، وغذى بدره.
فلم أستسغ إلا نداه فلم يكن ... ليعدل عندي ذا الجناب جناب
فما كل إنعام يخف احتماله ... وإن هطلت منه على رباب
ولكن أجل الصنع ما جل ربه ... ولم يأت باب دونه وحجاب
وما شئت إلا أن أدل عواذلي ... على أن رأيي في هواك صواب
وأعلم قوما خالفوني فشرقوا ... وغربت أني قد ظفرت وخابوا
পৃষ্ঠা ১৪
والأولى أن أضرب عما سلف، وأترك ما فرط، وآخذ فيما أجريت إليه وقصدته، ونحوته واعتمدته، مما آثرت به الحضرة السامية أدام الله سموها من وصف ما عانيته من أرض مصر وعاينته، والاقتصار على الذي رأيته دون ما رويته، فليس من يقول: علمت هذا من طريق العلم والسماع، كمن يقول: تحققته بالمشاهدة والاطلاع، فإن ذا اللب الأمين لا ينخدع بمحال، ولا يرضى بانتحال.
وأنا أبتدئ بذكر هذه البلاد وموقعها في المعمورة ومجرى النيل منها، وغنائه فيها، وأشفع ذلك بنبذ من ذكر أحوال أهلها في أخلاقهم، وسيرهم وعاداتهم، وما يتصل بذلك وينجر معه، ويجيئ بسببه، ويدخل في تضاعيفه. وهأنذا آخذ في ذلك، وبالله أستعين، وعليه التوكل.
أرض مصر بأسرها واقعة من المعمورة في قسمي الإقليم الثاني والإقليم الثالث، ومعظمها في الثالث.
وحكى المعتنون بأخبارها وتواريخها أن حدها في الطول من مدينة برقة التي في جنوب البحر الرومي، إلى أيلة من ساحل الخليج الخارج من بحر الحبشة والزنج والهند والصين. ومسافة ذلك قريب من أربعين يوم.
পৃষ্ঠা ১৫
قالوا: وحدها في العرض من مدينة أسوان وما سامتها من الصعيد الأعلى المتاخم لأرض النوبة، إلى رشيد وما حاذاها من مساقط النيل في البحر الرومي، ومسافة ذلك قريب من ثلاثين يوما. ويكتنفها من مبدئها في العرض إلى منتهاها جبلان [أحدهما في الضفة الشرقية من النيل، وهو المقطم، والآخر في الضفة الغربية منه. والنيل منسرب فيما بينهما. وهما] أجردان غير شامخين، يتقاربان جدا في وضعيهما من لدن مدينة أسوان إلى أن ينتهي إلى الفسطاط، فثم تتسع مسافة ما بينهما وتنفرج قليلا، ويأخذ المقطم منهما مشرقا والآخر مغربا على وراب في أخذهما وتفريج في مسلكيهما، فتتسع أرض مصر من الفسطاط إلى البحر الرومي الذي عليه الفرماء وتنيس ودمياط ورشيد والاسكندرية، وهناك تنقطع في عرضها الذي هو مسافة [مابين] أوغلها في الجنوب و[أوغلها] في الغرب والشمال. وإذا ما مسحت بالطريق البرهانية في طريق هذه المسافة [من الأميال] لم تبلغ ثلاثين ميلا، بل تنقص عنها نقصا ما له قدر، وذلك لأن فضل ما بين عرض أسوان التي هي أوغلها في الجنوب وعرض مدينة تنيس التي هي أوغلها في الشمال، تسعة أجزاء ونحو سدس جزء من الأجزاء التي بها تحيط الدائرة العظمى، [وهي] ثلاثمائة وستون جزءا. وليس بين طوليهما فضل يقع بسببه في هذا الحساب ما له قدر يعتد به. فإذا ضاعفنا هذا العدد بما يخص الدرجة الواحدة من محاذاة ذلك من الأميال، وذلك ستة وخمسون ميلا وثلثا ميل علة ما دل علية البرهان، كان ذلك نحو خمسمائة وعشرون ميلا بالتقريب، وذلك مسافة سير عشرين يوما أو قريب من ذلك. وفي هذه المدة من الزمان يقطع السفار أبدا ما بين هذين البلدين بالسير المعتدل في أكثر من ذلك قليلا، لما في الطريق من التعريج وعدم الاستقامة.
পৃষ্ঠা ১৬
وليس تشتمل أرض مصر بعد الفسطاط الذي هو مقر الملك وكرسي الدولة، على مدائن لها قدر في كثرتها ولا فخامتها، لكن أجل مدائنها وأفخرها أما في الجهة الشمالية من الفسطاط فالاسكندرية وتنيس ودمياط، وأما في الجهة الجنوبية إلى أقصى الصعيد فقوص وقفط. فهذه صفة أرض مصر على الجملة .
وأما النيل فينبوعه من وراء خط الاستواء، من جبل هناك يعرف بجبل القمر، فإنه يبتدئ بالتزيد في شهر أبيب، الذي هو بالرومية يولية. والمصريون يقولون: "إذا دخل أبيب، كان للماء دبيب". وعند ابتدائه في التزيد تتغير جميع كيفياته وتفسد، والسبب الموجب لذلك مروره بنقائع مياه آجنة يخالطها فيجتلبها، ويستخرجها معه ويستصحبها، إلى غير ذلك مما يحتمل. فتصير مثل الحال التي وصفه بها الأمير تميم بن المعز لدين الله:
أما ترى الرعد بكى فاشتكى ... والبرق قد أومض فاستضحكا
فاشرب على غيم كصبغ الدجى ... أضحك وجه الأرض لما بكى
পৃষ্ঠা ১৭
[وقد حكى العود أنين الهوى ... لكنه جود فيما حكى] وانظر لماء النيل في مده ... كأنما صندل أو مسكا
أو كما قال غيره من أهل العصر، من قصيدة يصف بها أرض مصر:
ولله مجرى النيل منها إذا صبا ... أرتنا به في مرها عسكرا مجرا
فشط يهز السمهرية ذبلا ... وموج يهز البيض هندية تبرا
إذا مدحا كي الورد غضا وإن صفا ... حكى ماءه لونا ولم يعده نشرا
وهذا نظير ما أنشدنيه عبد الله بن سرية لنفسه:
راقني النهر صفاء ... بعد شوقي لصفائه
كان مثل الورد غضا ... ثم قد صار كمائه
ولأبي بكر الصنوبري في مثل هذا المعنى:
ولقد طربت إلى الفرا ... ت بكل ذي كرم ومجد
والشمس عند غروبها ... صفراء مذهبة الفرند
والماء حاشيتاه خض ... روان من آس ورند
تحبوه أيد الريح إن ... هبت على قرب وبعد
بطرائف من فضة ... وطرائف من لا زورد
والسفن كالطير انبرت ... في الجو من مثنى وفرد
পৃষ্ঠা ১৮
حتى إذا جزر الفرا ... ت مضى وأعقبه بمد أبصرته وكأنه ... ملقى عليه رداء ورد
متململا كالصب أو ... ذن من أحبته بصد
وكأنما بحشاه ما ... بحشاي من قلق ووجد
وقال تميم المعز، وأحسن التشبيه:
يوم لنا بالنيل مختصر ... وبكل يوم مسرة قصر
والسفن تصعد كالخيول بنا ... فيه وجيش الماء ينحدر
فكأنما أمواجه غرف ... وكأنما داراته سرر
وقال محمد بن الحسن:
النهر مكسو من الأزهار ... بردا أنيقا مثل ثوب ...
...................... ... يجري بمسك أو بذوب نضار
وإذا استقام رأيت صفحة منصل ... وإذا استدار رأيت عطف سوار
وقال أبو الحسن محمد بن الوزير، في تدرج زيادة الماء إصبعا إصبعا، ومنفعة ذلك التدرج:
أرى أبدا كثيرا من قليل ... وبدرا في الحقيقة من هلال
فلا تعجب فكل قليل ماء ... بمصر مسبب لخليج مال
زيادة إصبع في كل يوم ... زيادة أذرع في أحسن حال
فإذا كان في الخامس عشر ذراعا وزاد من السادس عشر إصبعا واحدة كسر الخليج.
পৃষ্ঠা ১৯
ولكسره يوم معدود، ومقام مشهود، ومجتمع غاص، يحضره العام والخاص. وإذا كسر فتحت الترع وهي فوهات الخلجان ففاض الماء وساح، وعم الغيطان والبطاح، وانضم الناس إلى أعلى مساكنهم من الضياع والمنازل، وهي على آكام وربى لا ينتهي إليها الماء، ولا يتسلط السيل عليها، فتعود عند ذلك أرض مصر بأسرها بحرا غامرا لما بين جبليها المكتنفين لها. وتثبت على هذه الحال ريثما يبلغ الحد المحدود، في مشيئة الرب المعبود. وأكثر ذلك يحوم حول ثمانية عشر ذراعا، ثم يأخذ عائدا في منصبه، إلى مجرى النيل [ومسربه، فينضب أولا عما كان] من الأرض مشرفا عاليا، ويصير فيما كان منها متطامنا، فيترك كل قرارة كالدرهم، ويغادر كل تلعة كالبرد المسهم، وفي هذا الوقت من السنة تكون أرض مصر أحسن شيئا منظرا، ولا سيما متنزهاتها المشهورة، ودياراتها المطروقة، كالجزيرة، وبركة الحبش وما جرى مجراها من المواضع التي يطرقها أهل الخلاعة، وينتابها ذوو الأدب والطرب. واتفق أن خرجنا في مثل هذا الزمان إلى بركة الحبش، فافترشنا من زهرها أحسن بساط، واستظللنا من دوحها بأوفى رواق، وطلعت علينا من زجاجات الأقداح شموس في خلع البدور، ونجوم بالصفاء تنور، إلى أن جرى ذهب الأصيل على لجين الماء، ونشبت نار الشفق بفحمة الظلماء، فقال في ذلك بعضنا لله يومي ببركة الحبش ... والأفق بين الضياء والغبش
والنيل تحت الرياح مضطرب ... كصارم في يمين مرتعش
قد نسجتها يد الغمام لنا ... فنحن من نسجها على فرش
ونحن في روضة مفوفة ... دبج بالنور عطفها ووشى
فعاطني الراح، إن تاركها ... من سورة الهم غير منتعش
وسقني بالكبار مترعة ... فهن أروى لشدة العطش
فأثقل الناس كلهم رجل ... دعاه داعي الصبا فلم يطش
وقال أيضا:
علل فؤادك باللذات والطرب ... وباكر الراح بالنايات والنخب
أما ترى البركة الغناء لابسة ... وشيا من النور حاكته يد السحب
وأصبحت في جديد النبت في حلل ... قد أبرز القطر منها كل محتجب
من سوسن شرق بالطل محجره ... وأقحوان شهى الظلم والشنب
وانظر إلى الورد يحكى خد محتشم ... من نرجس ظل يبدي لحظ مرتقب
والياسمين وقد أربى على درر ... والراح من درر تطفو على ذهب
كم مرة قد شفينا فيه غلتنا ... بجاحم من فم الإبريق ملتهب
شمس من الراح حيانا بها قمر ... موف على غصن يهتز في كثب
أرخى ذوائبه، وانهز منعطفا ... كصعدة الرمح، في مسودة العذب
فاطرب ودونكها فاشرب فقد نغبت ... على التصابي دواعي اللهو والطرب
ومما يتعلق بوصف النيل من أبيات له كتبها إلى الأفضل ليلة المهرجان:
পৃষ্ঠা ২১
أبدعت للناس منظرا عجبا ... لازلت تحيي السرور والطربا
ألفت بين الضدين مقتدرا ... فمن رأى الماء خالط اللهبا
كأنما النيل والشموع به ... أفق سماء تألقت شهبا
قد كان من فضة فصار سما ... وتحسب النار فوقه ذهبا
وقد تعاور الشعراء..... شعاع على صبح. ومن مليح ماقيل في ذلك قول بعض أهل العصر، وهو أبو الحسن على بن أبي البشر الكاتب:
شربنا عم غروب الشمس شمسا ... مشعشعة إلى وقت الطلوع
وضوء الشمع فوق النيل باد ... كأطراف الأسنة في الدروع
وأنشد أبو المنصور الثعالبي (في يتيمة الدهر) لمنصور بن كيغلغ:
قام الغلام يديرها في كفه ... فحسبت بدر التم يحمل كوكبا
والبدر يجنح للأفول كأنه ... قد سل فوق الشط سيفا مذهبا
وأنشد فيه للقاضي أبي القاسم علي بن إبراهيم بن أبي الفهم التنوخي:
أحسن بدجلة والدجى متصوب ... والبدر في أفق السماء مغرب
فكأنها فيه بساط أزرق ... وكأنه فيها طراز مذهب
وقال ابن وكيع التنيسي:
غدير يدرج أمواجه ... هبوب الشمال ومر الصبا
পৃষ্ঠা ২২
إذا الشمس من فوقه أشرقت ... توهمته جوشنا مذهبا وقال بعض أهل العصر من قصيدة:
باطى نهر كان الر ... وهو اللجين به ذوبا
إذا حمشته الصبا رأيته ... كأنه زردا مذهبا
وقال أبو عبادة البحتري يصف بركة:
إذا علتها الصبا أبدت بها حبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها
إذا النجوم تراءت في جوانبها ... ليلا حسبت سماء ركبت فيها
وقد أحسن عبد الله بن المعتز في قوله:
وتبدى لهن بالنجف المق ... فر ماء صافي الجمام غرى
فإذا قابلته درة شمس ... خلته كسرت عليه الحلى
وقال ابن التمار الواسطي يصف ضوء القمر على دجلة:
قف فانتصف من صروف الدهر والنوب ... واجمع بكأسك شمل اللهو والطرب
أما ترى الليل قد ولت عساكره ... مهزومة وجيوش اللهو في الطلب
والبدر في الأفق الغربي تحسبه ... قد مد جسرا على الشطين من ذهب
وقال محمد بن عبد الله السلامي:
ونهر تمرح الأمواج فيه ... مراح الخيل في رهج الغبار
إذا اصفرت عليه الشمس خلنا ... نمير الماء يمزج بالعقار
পৃষ্ঠা ২৩
وأما سكان أرض مصر فأخلاط من الناس مختلفة الأصناف: من قبط وروم وعرب وبربر وأكراد وديلم وحبشان وأرمن، وغير ذلك من الأصناف والأجناس على حسب اختلافاتهم، وقالوا: إن السبب في اختلافهم، والموجب لاختلاطهم، اختلاط المالكين لها، والمتغلبين عليها، من العمالقة واليونانيين والروم والعرب وغيرهم، فلهذا اختلطت أنسابهم فاقتصروا من التعريف بأنفسهم على الانتساب إلى مواضعهم، والانتماء إلى مساقطهم ومواقعهم.
وحكى جماعة من المؤرخين أنهم كانوا في الزمن السالف عباد أصنام، ومدبري هياكل، إلى أن ظهر دين النصرانية وغلب على أرض مصر فانتصروا، وبقوا على ذلك إلى أن فتحها المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأسلم بعضهم وبقي بعض على دين النصرانية، ومذهبهم مذهب اليعاقبة.
وأما أخلاقهم فالغالب عليهم اتباع الشهوات، والانهماك في اللذات، والاشتغال بالترهات، والتصديق بالمحالات، وضعف المرائر والعزمات، إلى غير ذلك مما حكاه أبو الحسين علي بن رضوان في ذلك واقتصه، وأورده من الأمور الطبيعية وموجبه، وكفى به حكما منصفا، وشاهدا عدلا.
পৃষ্ঠা ২৪
وحكى الوصيفي في كتابه الذي ألفه في أخبار مصر أن أهلها في الزمن السابق كانوا يعتقدون أن هذا العالم، الذي هو عالم الكون والفساد أقام برهة من الدهر خاليا من نوع الإنسان، وأن تلك الأنواع مختلفة على خلق فاذة، وهيئات شاذة، ثم حدث نوع الإنسان فنازع تلك الأنواع فغلبها واستولى عليها، وأفنى أكثرها قتلا، وشرد ما بقي منها إلى القفار، وأن تلك المشردة هي الغيلان والسعالي وغير ذلك، مما حكاه من اعتقاداتهم المستحيلة، وتصوراتهم الفاسدة، وتوهماتهم النافرة. إلا أنه يظهر من أمرهم أنه كان فيهم طائفة من ذوي المعرف والعلوم، خصوصا بعلم الهندسة والنجوم. ويدل على ذلك ما خلفوه من الأشغال البديع المعجزة، كالأهرام والبرابي، فإنها من الآثار التي حيرت الأذهان [الثاقبة، واستعجزت الأفكار الراجحة] ، وتركت لها شغلا بالتعجب منها، والتفكر فيها. وفي مثلها يقول أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري في قصيدته التي يرثي بها أباه:
تضل العقول الهبرزيات رشدها ... ولا يسلم الرأي القويم من الأفن
وقد كان أرباب الفصاحة كلما ... رأوا حسنا عدوه من صنع الجن
পৃষ্ঠা ২৫