تقديم الكتاب
الفاتحة
تمهيد
بعد السجن
نابغة المحتالين
كيف غدا حافظ من ذوي الأملاك
حافظ والحسناء
في قهوة الرقص
حافظ في القهوة المصرية
حيلة في مصرف مالي كبير
فشل حافظ
في أديرة الأقباط الأرثوذكس
من نوادر حافظ نجيب
تقديم الكتاب
الفاتحة
تمهيد
بعد السجن
نابغة المحتالين
كيف غدا حافظ من ذوي الأملاك
حافظ والحسناء
في قهوة الرقص
حافظ في القهوة المصرية
حيلة في مصرف مالي كبير
فشل حافظ
في أديرة الأقباط الأرثوذكس
من نوادر حافظ نجيب
نوادر حافظ نجيب
نوادر حافظ نجيب
تأليف
جورج طنوس
فكرة الإنسان تجعله
صورة أبقى من الأثر
فافتكر في الخير تفعله
فحياة الناس «بالخبر»
جورج طنوس
مؤلف الكتاب
تقديم الكتاب
إلى حضرة الصديق الفاضل المهذب فوزي أفندي ناشد حنا عمدة أشروبه، ونجل سعادة السري الوجيه ناشد بك حنا عضو الجمعية العمومية عن مديرية المنيا.
أيها الصديق
هذا - أعزك الله - كتاب يشتمل على نوادر محتال شهير، أوتي ذكاء نادرا فاستخدمه في نصب الشراك لإخوانه من بني الإنسان، فرأيت أن أرفعه تقدمة إليك ليظهر الفرق العظيم بين الشاب الذي يستخدم ذكاءه في توطيد دعائم الأمن العام ونفع المجتمع الإنساني مثلك، وبين الشاب الذي على شاكلة حافظ نجيب الذي لا يلذ له إلا أن يمتاز على الأنداد بما ينصبه من فخاخ الخداع وأشراك الاحتيال، والضد يظهر حسنه الضد.
بل أقدمه إليك ليعلم القارئون أجمعون أن الذكاء مطية الأفاضل كما هو مطية الأشرار؛ فقد أظهرت مع حداثة عهدك بخدمة الهيئة الاجتماعية في منصب العمدية الذي قلدته عن عدل واستحقاق ذكاء نادرا في حفظ الأمن العام في البلد الذي انتخبك أهلوه رئيسا له، حتى غدوا لسانا ناطقا بشكرك والثناء عليك.
فلا زلت عاملا أمينا لشعبك وحكومتك، وقرة لعين أبيك، وفخرا لآلك، وزهرة ناضرة بين محبيك.
جورج
خط نجيب هواري.
الفاتحة
الحمد لله وكفى.
أما بعد؛ ما ظهر كتاب نابغة المحتالين أو حافظ نجيب حتى تهافت عليه القارئون ونفدت نسخه في أيام وجيزة؛ إذ راج رواجا نادرا لم يرو عن كتاب عربي قبل الآن، وليس ذلك لأن موضوع الكتاب علمي أو فلسفي، بل لأن المصريين شاقهم كثيرا الاطلاع على حيل واحد منهم نبغ في الاحتيال؛ إذ إن ظهور مثل المحتال الكبير «حافظ نجيب» بين أظهرنا مما يدعو إلى العجب الشديد، وما ذلك إلا لأن سكان هذا الوادي الجميل لم يألفوا جر المغنم من باب الاحتيال، ولم يعمل منهم على جمع المال من طرق محرمة في عرف الله والناس إلا نفر قليل جدا لا يذكر في جانب مجموع الساكنين.
هذا هو السبب الذي دفع الناس إلى التهافت على كتاب نابغة المحتالين لا سواه، وهو من دواعي الشرف للمصريين؛ لأنه يثبت أن المحتالين بينهم قليلون، ولذلك يأخذهم العجب من كل جانب إذا هم سمعوا بمصري جنح إلى الاحتيال ونبغ فيه، تلك سنة الله في هذا الشعب الكريم الخلال، الشريف العواطف، ولن تجد لسنة الله تبديلا. •••
ولقد كان الأكثرون ينتظرون مني أن أورد لهم في ذلك الكتاب كل ما أعلم من حكايات حافظ نجيب الغريبة وحيله المدهشة العجيبة، ولكن رأيت أن أنشر للقارئين قبل ذلك كله تلك الرواية التي خطها بقلمه وهو في سجن الحضرة ليعلموا منها أن الإنسان لا يخلق ميالا إلى الشر، ولكن هي الظروف تجعل الحمل ذئبا خاطفا، والملك الكريم شيطانا رجيما.
فإذا ما رأيت سارقا قيد إلى السجن مكبلا بالأغلال، أو قاتلا انتزع روح أخيه من بين جنبيه، لا تبسط يديك لاستنزال اللعنات عليه، بل اطلب له من الله الرحمة، وللذين سهلوا له سبيل الجرم الغفران.
أقول هذا لأنني أعتقد أن الشرير إذا لقي من يردعه عن غيه، ويعمل على إصلاح ما اعوج من أخلاقه، رجع عن الشر وارعوى، وكذلك قل عن الشاب الصالح، فهو إذا عاشر الأشرار ومازج الماكرين الخادعين ساء مصيره، وما مصيره إلا إلى التعس والهوان.
جورج طنوس
تمهيد
ما سقط حافظ نجيب في أيدي رجال البوليس وسيق إلى ظلمة السجن، حتى عرف أن كل امرئ معاقب على ما جنته يداه فاسودت الدنيا في عينيه، وندم على ما أتاه من الاحتيال والخداع مع حضرة الكاتبة الفاضلة البرنسس ألكسندره آفرينو، ولكن لات ساعة مندم.
ولقد عرف القارئون أن رجل البوليس السري قبض على حافظ نجيب بينما كان راكبا دوكارا وسائرا به قبيل الغروب في شارع وجه البركة حيث يزدحم طلاب الغرام الفاسد وعشاق الليالي.
ومنه سيق إلى سجن الإسكندرية بعد أن أجرى رجال البوليس هنا التحقيق الابتدائي معه وحوكم أمام محكمتها الأهلية، وكان في كرسي النيابة يوم محاكمته سعادة القانوني محمد بك محفوظ رئيس نيابتها سابقا والمستشار الآن في محكمة الاستئناف.
وقد روت صحف الثغر الإسكندري أثناء محاكمته حكاية مدهشة مؤداها أن المحامي الذي ندبته المحكمة للدفاع عن حافظ مجانا قال في يوم الجلسة إنه متنازل عن الدفاع عنه؛ لأنه احتال عليه فأخذ منه أربعة جنيهات بدلا من أن يعطيه ما يشجعه على الإجادة في دفاعه، ولذلك هو يخشى أن يسلبه ساعته وكل ما يملك إذا ترافع في دعواه، فأغرب الحاضرون في الضحك وكانوا كثيرين!
وقال توفيق أفندي فرغلي إنه خشي الدنو منه يوم المحاكمة مخافة أن يسلبه قلمه، وهو كل ما يملك في هذه الدنيا.
وقال طانيوس أفندي عبده: ما ذكر حافظ نجيب أمامي يوما حتى تمثل لي في الحال روكامبول.
وروكامبول هذا كان آية المحتالين في زمانه، وله رواية مؤلفة من 17 جزءا، وهي أشهر من أن تذكر.
ولما تنازل المحامي المشار إليه عن الدفاع عنه، قال حافظ إنه سيدافع عن نفسه بنفسه، وإنه في غنى عن جميع المحامين، فأظهر في مرافعته اقتدارا غريبا حتى أعجب به البعض وبكى الآخرون.
ومما يروى عن محاكمته أنه جيء بشاهد إثبات كان قبل القبض على حافظ نجيب محسوبا عليه، فشهد شهادة تثبت الجرم على حافظ، وعند ذاك التفت رئيس المحكمة إليه وقال: «وما قولك الآن في شهادة هذا الرجل الذي طالما غمرته بإنعامك؟»
فأجابه حافظ لساعته: لقد كنت إلى ما قبل اليوم ماديا لا أعرف ما هي الأديان ولا أعترف بالأنبياء الأطهار، أما الآن فقد عرفت أن نبينا محمدا نبي كريم إذ قال: «أبت النفس الخبيثة أن تخرج من جسم صاحبها قبل أن تسيء إلى من أحسن إليها.»
وقد جاء هذا الحديث الشريف مصداقا لما ورد عن ذلك الشاهد، فدهش القضاة والسامعون من قوة عارضته وسرعة بديهته.
غير أن ذلك الذكاء لم ينقذ حافظا من السجن، فحكم عليه بالنزول فيه عامين كاملين، فرضخ راغما لأحكام القضاء وسيق إلى سجن الحضرة لقضاء تينك السنتين.
وما شعر بغيابة السجن، وما لحق به من الهون بعد ذلك الحكم حتى كتب إلي كتابا مطولا يندب فيه سوء حظه، وكأنه عز عليه أن يعترف بخطئه الذي أثبته القضاء، فقال: «وإنني - وحرمة الحق - بريء من كل ما عزي إلي من النصب أو التبديد، ولكن هي الظروف صورتني للقضاء مبددا محتالا.» «هو الحب أنزلني منزل الشقاء، وكم لهذا الحب من ضحايا!» •••
ولاح لي من كتبه العديدة التي أرسلها إلي من سجن الحضرة أن السجن لم يؤثر عليه كثيرا إلا في الأيام الأولى فقط، ثم تعود على سكناه بعد ذلك فأخذ يمرح فيه كأنه في قصر مشيد تحيط به الحدائق الغناء.
ومن نوادره في سجن الحضرة أنه كان يضع الخبز في إناء الماء الخاص به، حتى إذا اهترأ صنع منه جوزة أو شيشة وأهداها إلى المغرمين من ساكني السجن بشرب التنباك أو الحشيش.
ولا ريب في أنه لم يكن يقصد من عمل هذه الأركيلة إلا أن يظهر للمسجونين أنه على جانب عظيم من الدهاء حتى ينال شهرة ذائعة بينهم، وهذه الشهرة هي الضالة الوحيدة التي ينشدها في هذه الحياة مهما عرض له في سبيلها من المصائب والعثرات.
ومن نوادره أيضا حصوله على ورق أميري من أوراق السجن وإرساله الخطابات العديدة منه بطريق البريد، وتأليفه الرواية التي نشرها في كتاب نابغة المحتالين مع أن نظام السجن يمنع المسجونين من الكتابة على الإطلاق.
ومن حكاياته وهو سجين أيضا أن أحد المسجونين شكا إليه سوء معاملة أحد موظفي السجن لامرأته التي تعودت على أن تزوره كل أسبوع، فسأله ما إذا كانت زوجته هذه حسناء، فأجابه: نعم. فقال له إن الانتقام سهل المنال إذا فعلت ما أشير به عليك. قال السجين: وما هو؟ فشرح له حافظ وسيلة الانتقام قائلا: نبه على زوجتك عندما تأتي لمقابلتك أن تحضر في الأسبوع المقبل وهي على أتم ما يكون من البهرجة والرواء، حتى إذا ما قابلها ذلك الموظف أظهرت له الميل، ثم ماست أمامه بقدها المعتدل حتى يقع في شرك هواها، وعند ذاك تتفق وإياه على أن يزورها في المنزل في ساعة معلومة من يوم محدود، وأن يحضر معه ما يلزم من المشروبات الروحية والمأكولات الشهية، وبعد ذلك تقدم بلاغا إلى مأمور القسم مؤداه أن موظف السجن المشار إليه راودها عن نفسها في كل مرة ذهبت فيها لمقابلة زوجها، فكانت تردعه بالتي هي أحسن فلم تفلح، وأخيرا أخذ يتردد على منزلها وهي تبعده عنها بكل الوسائل حتى غدت غير آمنة على حياتها وعرضها؛ ولذلك ترجو تعيين من يلزم من رجال البوليس لمراقبة المنزل وذلك العاشق الثقيل، حتى إذا ما جاء إليها مهددا ألقي القبض عليه وأرسل إلى المخفر للتحقيق معه ومحاكمته.
ولا أدري إذا كان ذلك السجين قد طاوعته نفسه على إنفاذ هذا الانتقام في ذلك الموظف، أم ردعه ضميره عنه.
وله عدة نوادر غريبة وحكايات عجيبة غير ما تقدم، ولكنها ضاعت من الذاكرة فأكتفي بهذا الآن.
بعد السجن
كيف جعل نفسه ابن أخي أفلاطون باشا
حافظ يحتال على يوناني في اليوم الأول لخروجه من السجن - اجتماعه بأبيه - اشتغاله بفن الكهرباء. ***
أرسل حافظ إلى أحد عارفيه في العاصمة كتابا قبل خروجه من سجنه ببضعة أيام سأله فيه أن يبعث إليه بريال واحد وبنطلون؛ ليتسنى له القدوم إلى القاهرة عند خروجه من السجن، فلم يخيب ذلك الرجل طلبه؛ لأنه وأكثر عارفي حافظ كانوا إلى ما قبل اشتهاره بالنصب والاحتيال يعتقدون أنه بعيد عن الدنايا والنصب، وأنه على سعة من العيش وذو عقارات تغنيه عن ارتكاب المحرمات؛ لأنه كان يدعي ذلك دائما، ولا يعلم الصحيح إلا الله.
خرج حافظ من السجن فارتدى بذلك البنطلون، ولا أدري من أين جاء بالجاكته والصديري والقميص والحذاء وغير ذلك؟ ثم ركب القطار حال خروجه عائدا إلى عاصمة القطر.
ولما وصل إلى العاصمة نزل في فندق البوستة الكائن بشارع وجه البركة أمام «رويال أوتيل»، ولعل سوء حظ صاحب هذا الفندق هو الذي بعث به إليه.
ولا ريب أن جيب حافظ كان أفرغ من جوف أم موسى؛ لأنه لم يستطع أن ينال مالا داخل السجن، ولعل ذلك لأن المسجونين ممنوع عليهم أن يدخلوا السجن ومعهم نقود؛ وإلا لما عجز عن الاحتيال على أحدهم، فلما نزل في فندق البوستة فكر في رجل ينصب له شركا، فلم يجد أقرب إليه من صاحب الفندق نفسه، فوضع له فخا سرعان ما وقع فيه.
وبيان ذلك أن حافظا ادعى عندما دخل الفندق أنه ابن المرحوم نجيب باشا - ولا أدري إذا كان يوجد في مصر باشا بهذا الاسم - وأن عمه المرحوم أفلاطون باشا، وأن عمته مقيمة في سراية بشبرا وأنه وريثها الوحيد، فلما اعتقد صاحب الفندق ذلك أكرمه وبالغ في العناية به لا سيما وأن حافظا عندما حل في الفندق طلب أحسن غرفة فيه، فلم ترق له غير غرفة فيها سريران فاتخذها لنفسه راضيا عن دفع أجرة سريرين بدلا من سرير حبا في راحته؛ لأنه لم يتعود إلا على الترف والدلال.
ولما شعر صاحبنا حافظ «أن السمك قد أكل الطعم»؛ أي إن صاحب الفندق اغتر به، ناداه وقال له إنه لم يدخل الفندق إلا لأن عمته وهي شقيقة المرحوم أفلاطون باشا طريحة الفراش، وقد حضر من الإسكندرية لزيارتها خاصة، ولأخذ مبلغ كبير منها تعودت على أن تعطيه إليه سنويا في مثل هذا الشهر، فلما رآها مريضة لم يشأ أن ينام عندها واختار الإقامة في الفندق، ثم دعا صاحبه إلى مصاحبته لزيارة عمته المشار إليها، فلبى الرجل دعوته عن رضى وارتياح.
وللحال أمر حافظ أحد الخادمين أن يحضر عربة تكون عجلاتها من ذات المطاط (كاوتشو)، وركبها وصاحب الفندق قاصدا إلى شبرا .
وفي ذلك الشارع الكبير المزدان بالقصور العظيمة التي يسكنها عدد من عظماء مصر، أوقف العربة أمام باب قصر منها ودخل بالرجل اليوناني إليه.
فلما وصلا إلى المندرة حيث يستقبل الضيوف جلس وإياه برهة شربا في خلالها القهوة.
وقد سأل حافظ الخادم أمام صاحب الفندق عما إذا كانت عمته لا تزال مريضة، فأجابه بالإيجاب، فقال لصاحب الفندق لا سبيل لنا إذن لمقابلتها اليوم، فلنعد إليها غدا أو بعد، حيث تكون قد نالت الشفاء أو تماثلت إليه.
ولما ركبا العربة دارت بينه وبين صاحب الفندق المحاورة الآتية:
حافظ :
أرجوك أن تعطيني الآن جنيها لأدفع للحوذي أجرته؛ لأن النقود التي جئت بها قد أنفقتها اعتمادا على ما سآخذه من عمتي.
الرومي :
أمرك يا بك (وللحال أخرج من جيبه جنيها وأعطاه إلى حافظ بكل احترام).
حافظ :
إني سأرده إليك غدا إذا تمكنت من الاجتماع بعمتي، وإلا فلا مناص لي من أن أقترض منك مبلغا من المال إلى أن يمن الله عليها بالشفاء العاجل.
الرومي :
يجب أن تتأكد يا سعادة البك أنني دائما طوع أمرك. (ولعله قال ذلك عن طمع منه بالربا الذي يتقاضاه اليونانيون من أبناء الذوات، ولكن ما كل ذي ورم بذي سمن.)
وفي اليوم الثاني خرج حافظ من الفندق وأمضى النهار متنزها هنا وهناك، وعندما خيم الغسق عاد إليه وقال لصاحبه إن عمته لم تزل مريضة، وإنه ليس في وسعه الحصول على النقود إلا بعد أسبوع من الزمان، ولذلك هو يرجوه أن يقرضه خمسين أو ستين جنيها، فأثر بكلامه على الرجل؛ لأنه أحضر إليه المبلغ في الحال، فكتب له حافظ به كمبيالة يدفعها إليه عند الطلب.
وفي اليوم التالي شاهدته في الطريق فحياني وشكرني على ما نشرته له من المقالات والقصائد التي بعث بها إلي من سجن الحضرة، فقلت له أن لا موجب لهذا الشكر؛ لأنني أعتقد أن ما أتاه هفوة منه لا يبعد عليه أن يصلحها وهو لم يزل في سن الشباب، فأخذ يقسم لي بأغلظ الأيمان أن كل ما روته الجرائد عنه محض اختلاق، وأن مسألة سجنه سر من الأسرار، فلم أطل معه الكلام في هذا الصدد، بل سألته ما إذا كان زار أباه وإخوته، فقال: لا، وما ذلك إلا لأني خجل من مقابلة أبي، فقلت له: أنا الكفيل لك برضاه إذا وافقتني وذهبت معي لزيارته، فرضي.
وعند ذاك ركبنا عربة وقفت بنا عند منزل أبيه، وهو حضرة الفاضل أحمد أفندي نجيب في جزيرة بدران في شبرا، فلما اجتمع الوالد بالولد أظهر الأب لابنه استياءه الشديد مما حصل له، ووبخه توبيخا صارما، فقال له حافظ: «كم في الحبس من مظاليم!» ومع ذلك فالمثل يقول: ما فات مات، فانظر لما هو آت.
وبعد حديث غير طويل صفح أبوه عنه، واتفق وإياه على أن يدير حركة المحل الذي افتتحه حديثا إذ ذاك لتركيب المصابيح والأجراس الكهربائية بأول شارع الدواوين تحت عنوان - شركة الكهربائية الحقيقية - فوعد حافظ أن يستلم زمام العمل من غد، ثم خرج مع أبيه حيث تنزها في المساء معا.
وهنا لا بأس من إيراد كلمة موجزة عن الفاضل أحمد أفندي نجيب؛ ليرى القراء الكرام أن الصالح ينبت الطالح في بعض الأحايين، كما ينبت النرجس من البصل أحيانا.
عرفت أحمد أفندي نجيب، وهو مأمور لمركز المنصورة منذ ثماني سنوات تقريبا في اليوم الذي حدثت له تلك الحادثة المشهورة مع بعض وكلاء الصحف، فرأيت الرجل مثال الأمانة والاستقامة، اشتهر بين الناس أجمعين بالتقى والعبادة والنزاهة، حتى إنه أفرط في المحافظة على روح القانون إفراطا غريبا، فلم يكن يفرق بين شخص وآخر؛ إذ كل الناس لديه سواء.
وهو ذو همة علياء؛ فقد طارد كبار اللصوص في الفيوم مطاردة ألقت الرعب في قلوبهم، وشهد له المستشار السابق وجميع كبار نظارة الداخلية بالإقدام الغريب والنزاهة التامة.
ومما يروى عنه أنه ضبط قاتلا فحكم عليه بالإعدام، ولكنه مع ثقته بعدل القضاء كان يخشى كثيرا أن يكون رجلا مظلوما، فاتفق مع حارسيه في سجنه على أن يسألوه عند منتصف الليل تماما من يوم معلوم عما حمله على إنكار الجريمة، حيث يكون هو واقفا بالباب مصغيا لما يجيب به فصدعوا بأمره، وعندما سألوا القاتل ذلك السؤال أجابهم: «وهل يجوز الاعتراف في مثل هذه الأحوال؟»
فعند ذاك استراح ضميره الحي، وأيقن أن الرجل قاتل أثيم يستحق القتل، ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.
وهو الآن مأمور الأوقاف في الفيوم، وشهرته ذائعة بالاستقامة والفضل، فما قول القارئ الكريم في هذا التباين العجيب بين الوالد والولد. •••
عرف القارئ أن حافظا استلم إدارة محل الكهرباء لمساعدة أبيه، فمضت أيام لم أره فيها، ولكني علمت أن صاحب فندق البوستة يفتش عليه؛ لأنه علم بأن حافظا ليس ابن أخي أفلاطون باشا كما ادعى «صح النوم»، وأنه احتال عليه.
وقد صادف أني شاهدت الرجل بنفسي وسألته جلية الخبر فقصه علي مفصلا، ثم سألني إذا كنت أشتري مبلغ الستين جنيها التي له على حافظ بخمسة جنيهات، ويحول لي الكمبيالة، فأبيت طبعا.
ثم لم تمر أيام قليلة حتى هجر حافظ محل أبيه، ولا حاجة بي إلى ذكر السبب؛ لأنه لا يجوز للكاتب أن يدخل بين الوالد والولد.
وهكذا ذهب أمل أبيه سدى كما ذهبت أموال وأحلام صاحب فندق البوستة أدراج الرياح.
نابغة المحتالين
يحتال على الأغنياء الجاهلين
من طريق الرتب والنياشين
حافظ يمثل مندوبا عثمانيا ساميا - وقوع غني من أهل الريف في شراكه - إنعامه عليه برتبة الميرميران - إنعامه على ريفي آخر بالتبة الثانية. ***
ضاقت سبل العيش في وجه حافظ بعد خروجه من السجن؛ لأنه كان كلما طرق بابا للعمل سد في وجهه؛ إذ غدا الناس يخشونه بعد ما ذاع عنه وشاع في حادث احتياله على حضرة الكاتبة الفاضلة صاحبة مجلة «أنيس الجليس» الغراء.
عند ذاك لم يجد بدا من العمل بقول الشاعر:
وإذا حالك ساءت
فليكن عندك حيلة
ومن البديهي أن أرباب البطالة الذين لا عمل لهم إلا الاحتيال على الناس تجمع بينهم وحدة الحال، ولهذا ما عتم حافظ أن تعرف على بضعة منهم فانضموا تحت لوائه بلا تعب ولا عناء.
ولما غدا حافظ مثل «أرسين لوبين» نابغة المحتالين الفرنسويين، ذا عزوة ورجال يشدون أزره ويأتمرون بأمره ويسيرون طبق رغباته، أخذ في تدبير المكايد التي يصيد بها الأغنياء الجاهلين، ولقد فشا في تلك الأيام مرض عضال هو مرض الرتب والنياشين الذي أصيب به عدد جم من سراة مصر المعروفين بكل أسف عند السواد الأعظم بالوجاهة والنبل والمجد والفضل، فرأى حافظ أن يغتنم الفرصة - واللبيب من انتهزها - لإيقاع بعض المصابين بداء «السعادة والعزة» في فخاخه التي لا يحصى لها عدد.
ولما صحت عزيمته على ذلك جمع أفراد عصابته في قهوة بشارع جامع البنات أمام محل عياش وطنبة، وهي قهوة تعود التخلف إليها منذ أربعة عشر عاما على ما علمت من صاحبها.
جمع رجاله وجلس بينهم جلوس الزعيم، ثم أخذ يكلمهم بلهجة الخطباء المبدعين قائلا ما معناه:
أيها الإخوان
إنكم تعلمون - ولا ريب - أن صروف الأيام ونوائب الحدثان أنزلتنا منازل الفقر والهوان، وتركتنا بلا مال نقضي به الأغراض، أو منصب يدفع عنا شر العوز والشقاء.
غير أن الرجل الذكي القدير يهزأ بالزمن إذا عبس في وجهه ويتغلب على الأيام وإن قلبت له ظهر المجن؛ لأن العقل الرجيح يعرف كيف ينتقم من القضاء بالضحك على صغار العقول والأحلام.
وإننا، ونحن على ما تعلمون من الحاجة إلى المال، لا نجد بدا من ركوب المركب الخشن، ولو كان أسنة وسهاما، حتى لا نعيش كالحيوانات الساقطة تحت إمرة سوانا، وعرضة لكل مذلة وهوان.
ولقد خدمتني الصدف اليوم خدمة جلى؛ إذ مكنتني عندما كنت في «أوبرا بار» هذا الصباح من معرفة غني كبير من أغنياء الصعيد جاء إلى العاصمة ليشتري له رتبة الميرميران حتى يلقب في بلدته وبين عشيرته بسعادتلو أفندم.
ولقد لاح لي من حديث الرجل أنه على غاية ما يكون من الجهل، وأن الذين التفوا حوله ليس في وسعهم أن يخففوا عنه ثقل جيبه.
لهذا رأيت أن أعهد إلى أحدكم التحكك به بعد أن أدله عليه، حتى إذا ما تمكن من محادثته أخبره بأنه مطلع على ما يطلب، عارف بأنه إنما جاء إلى مصر ليكون باشا، ثم يوهمه بعد ذلك أن جلالة السلطان عبد الحميد قد أوفد إلى مصر مندوبا ساميا يحمل عدة رتب من الميرميران وسواها، وأنه في وسعه أن يحصل له على واحدة منها، فأمن الجميع على كلامه كما كان يؤمن رجال روكامبول على كل ما كان يشير به.
وللحال تفرق أفراد العصابة بعد أن وضع حافظ لكل منهم خطة عمله، ولم يبق معه إلا الذي اصطفاه من بينهم للتغرير بذلك الوجيه المغفل.
وفي اليوم الثاني أخذه إلى «أوبرا بار»؛ لأن ذلك الغني تعود على التردد إليه كل صباح، فلما وصل أشار إليه حافظ، حتى إذا ما وثق من أن تلميذه قد عرفه غادر البار ومن فيه. •••
جلس تلميذ حافظ إلى طاولة مجاورة للطاولة التي جلس عندها الغني المشار إليه، وأخذ يترقب فرصة لمحادثته، حتى إذا ما تركه الذين كانوا معه شاهد على الطاولة جريدة تركها أحدهم، فتقدم منه وقال له: أتأذن لي سعادتك بقراءة هذه الجريدة؟ فأجابه الغني: تفضل يا بك.
وبعد هنيهة دارت بين الاثنين المحادثة الآتية، وقد رأيت أن أرمز إلى تلميذ حافظ ورسوله بحرف «ت»، وإلى الغني بحرف «غ» دفعا لتكرار الأسماء.
غ :
قل لي رأيت إيه في الغازيتة؟ (ويعني بها الجريدة طبعا.)
ت :
لم أجد فيها شيئا؛ لأنني بحثت بين أخبارها عن المحل الذي اختاره دولة المندوب العثماني الأسمى الذي قدم إلينا من أيام، فلم أوفق إلى ذلك.
غ :
مندوب عثماني يعني إيه؟ مش هو مختار باشا اللي بقى له هنا سنين وأعوام؟
ت :
لا لا. سعادتك غلطان. إن المندوب السامي الذي أشير إليه هو غير مختار باشا؛ لأنه لم يحضر إلى بلادنا إلا منذ ثلاثة أيام فقط لمسائل مهمة ندبه جلالة مولانا السلطان لقضائها في مصر.
غ :
يعني يمكنك تقول لي الشغلانات المهمة دي إيه؟ سلامات، أيوه سلامات، الحمد لله على السلامة، ما تتفضل تقعد هنا حداي.
ت :
تشرفنا يا سعادة، (وسرعان «ما التصق بسعادة المغفل»، ثم مال عليه كمن يريد أن يودعه سرا هائلا، وقال له):
هل إذا بحت لك بالمهمة التي جاء ذلك المندوب السامي لقضائها، تعدني بكتمانها عن كل إنسان؟
غ :
أيوه، وعلي الحرام بالثلاثة.
ت :
حسنا، فاسمع وع جيدا ما أقول: لقد بلغ جلالة مولانا السلطان عبد الحميد خان خاقان البحرين وسلطان البرين أن المصريين من أشد الناس إخلاصا للدولة العلية والخلافة العثمانية، وأن كثيرين منهم قد تبرعوا لسكة حديد الحجاز بمبالغ طائلة دلت على ما في قلوبهم من الغيرة الشديدة على الدين الحنيف.
لهذا رأت جلالته أن ترسل ذلك المندوب السامي المعظم لتسليم من يستحق من أغنياء المصريين براءات الرتب والنياشين التي جاء بها ليعلموا هم أيضا أن جلالة السلطان عارف بإخلاصهم، وقادر على مكافأتهم.
غ :
وكيف يكون الحصول على رتبة الباشوية؟
ت :
تريد أن تقول رتبة الميرميران التي تعطي حاملها لقب باشا مع سعادتلو أفندم حضرتلري؟
غ :
أيوه، سباعتلو أفندم، أهي دي يا بوي.
ت :
للوصول إلى نيل هذه الرتبة الرفيعة الشأن طريقان؛ أولهما أن يتبرع الإنسان بمبلغ عظيم من المال لمشروع سكة حديد الحجاز، والثاني أن يشهد قوم من الذين يثق بهم دولة المندوب الأعظم أن فلانا هذا الطالب الإنعام عليه، من الأغنياء المحسنين الذين يتعهدون بالتبرع لمشروع سكة حديد الحجاز بطائل الأموال.
غ :
سلامات. تفضل سجارة، أجيب لك إيه؟ اشرب حاجة بنص فرنك!
ت :
مرسي يا بك لقد شربت الآن قهوة، ما قولك بمن يسعى لسعادتك لدى هذا المندوب الأعظم برتبة الباشوية؟
غ :
يبقى جدع وأشوف كيفه.
ت :
وبالطبع يجب أن تقدم لدولة المندوب حال الإنعام عليك مبلغا يذكر تبرعا منك للسكة الحجازية.
غ :
هي دي فيها كلام.
ت :
إذن فأنا أرجو سعادتك أن تسمح لي الآن بالانصراف حتى أقف على المحل الذي نزل فيه ذلك المندوب الأسمى ثم أعود إليك في الساعة الرابعة من بعد الظهر تماما.
وإنني لأرجوك ألا تبوح بكلمة واحدة مما قلته الآن لك لأحد ما، ولو كان ابنك أو أباك، وإلا فسد الأمر، خصوصا وأنك قد حلفت بالحرام.
غ :
ما يكون لك فكر، مع السلامة، أنا بانتظار حضرتك. (ثم صافحا بعضهما، وابتعد تلميذ حافظ مسرعا إليه.)
اجتمع نابغة المحتالين برسوله، فأوقفه هذا الأخير على كل ما جرى بينه وبين ذلك الغني من الحديث، فسر حافظ من نباهته كثيرا وأثنى على ذكائه ثناء جميلا، ثم أخذه وذهب به إلى فندق شبرد المعروف، واستأجر هناك ثلاث غرف محاذية لبعضها بعضا، وأوقف تلميذه على ما يجب أن يفعله بعد أن أوصاه بالانتباه والحذر.
ومن ثم قصد إلى أعوانه وأمرهم بالحضور إليه في الفندق عند الساعة الثالثة تماما ليكونوا على استعداد لمقابلة ذلك الوجيه الريفي.
أما هو فذهب إلى أحد باعة الملابس حيث اشترى «بدلة» سوداء عثمانية، ثم قصد إلى أحد حلاقي الأوبرا الخديوية فاشترى منه لحية وشاربا مستعارين، حتى إذا ما وضعهما ظهر لناظره أنه من عظماء الأتراك.
فعل ذلك كله وحضر إلى الفندق قبيل الساعة الثالثة، وللحال قدم تلاميذه فلما شاهدوه بالبدلة السوداء واللحية والشارب المستعارين أنكروه، فضحك كثيرا وسر من إحكام تنكره أكثر.
وعند الساعة الرابعة وبضع دقائق وصل تلميذه الأكبر يقود «ضحيته» إلى فندق شبرد، فاستأذن الذين على الباب بمقابلة دولة المندوب الأعظم، فأذنوا له بالدخول عليه.
وعند ذلك خلع الغني الريفي بلغته قبل أن يدخل جريا على العادة المتبعة عندهم، ثم دخل فخر حتى قدميه ولثم يد دولة المندوب العظيم الشأن، وجرت بعد هذا المحاورة الآتية، وقد رأيت أن أرمز إلى حافظ بحرف الحاء، مع بقاء «الغين» للغني و«التاء» لتلميذ نابغة المحتالين، فقال هذا الأخير بعد تبادل أقوال التحيات والتهنئة بسلامة القدوم:
ت :
إن الذي نريد عرضه على مسامع دولتكم هو أن هذا الوجيه من أكبر أغنياء الوجه القبلي ومن المشهورين بالأعمال الخيرية والمبرات المشكورة.
ح :
شيء جميل.
ت :
ومن أهم ما عرف فيه إخلاصه الشديد لجلالة مولانا السلطان الأعظم، وغيرته العظمى على الدولة ومشروعاتها، ولا سيما مشروع السكة الحديدية الحجازية.
ولهذا ما علم بوجود دولتكم في هذه الديار، حتى أسرع لتقديم واجب التهنئة والإخلاص، وعرض عبوديته لمولانا السلطان الأعظم على يد دولتكم.
غ :
أيوه، الأفندي بيقول الحق، ربنا يطول عمر مولانا السلطان. سلامات.
ت :
ونظرا لعلمي بالمأمورية التي ندبكم جلالة السلطان لقضائها في مصر، أعرض على دولتكم بأن هذا الوجيه من الذين يستحقون التشرف بالرتب العالية والوسامات السامية؛ نظرا لإخلاصه وصدق عبوديته.
ح :
حسنا. (ثم التفت إلى الوجيه الريفي وقال): أنت تعلم أن رتبة ميرميران عالية تشرف حاملها وتمنحه لقب باشا، فإذا ما سلمتك براءة واحدة منها وجب عليك أن تكون مثال الاستقامة والشرف والصدق بين الناس.
غ :
أنا كده برضه.
ح :
وعليه، فأنا أقلدك من الآن سيف الباشوية العظيمة الشأن. (ثم وقف وتناول سيفا كان موضوعا إلى جانبه، وهو من سيوف مراسح التمثيل المزركشة بالحجارة العاطلة التي تصنع من الزجاج ليكون ذا رونق وهاج، وبعد أن لثمه منطقه به وقال):
أهنئ سعادتكم برتبة الباشوية العظيمة الشأن (فتبسم الرجل من صميم فؤاده، وكاد أن يغشى عليه من شدة الطرب، حتى لجم السرور لسانه وأجرى دمعة من عينه فلم يسعه غير تقبيل يد دولة المندوب، ثم أشار دولته إليهما بالخروج، فخرجا بعد أن لثما أنامله الشريفة). (ولما وصلا إلى القاعة الثانية قال له: ما رأيك الآن؟ وأين هو المبلغ الذي ستتبرع به لسكة الحجاز حتى يعطيك دولة المندوب البراءة؟ فأخرج الباشا الجديد من جيبه كيسا من القماش داخله خمسمائة جنيه، وقال: هذا مبلغ كذا أتشرف بتقديمه لدولة المندوب. فأشار عليه تلميذ حافظ أن يعطيه إليه بيده، فأدخله عليه ثانيا، وتقدم «الباشا» ولثم يد المندوب ثانية، وقال له: أتشرف يا دولة الباشا أن أقدم لكم خمسمائة جنيه لسكة الحجاز.)
ح :
بورك في همتك يا باشا. وقد كنت أود أن أعطيك البراءة الآن ولكنها موجودة داخل صندوق لم أفتحه بعد، فلهذا أرى من الأوفق أن تترك سيف الباشاوية هنا، ثم تحضر غدا في مثل هذه الساعة لأخذه والبراءة معا، وإني أهنئك سلفا. (فأطاع الغني الأمر وأرجع السيف وكأن روحه خرجت عند ذلك، ثم ودع وعاد مع تلميذ حافظ من حيث أتيا على أن يعودا معا غدا إلى فندق شبرد لاستلام البراءة والسيف.) (وفي غد انتظر الغني المغفل عودة تلميذ نابغة المحتالين، فكان حظه حظ الذين انتظروا القارظ العنزي من قبل.) (ولما طال أمد الانتظار عليه، ذهب بنفسه إلى فندق شبرد وسأل عن دولة المندوب السامي فلم يجد من خدمة الفندق إلا السخرية والاستهزاء، فعجب للأمر كثيرا وكان ندمه شديدا عندما علم أن الأمر حيلة جازت عليه.)
ومما يذكر من نوادر حافظ عن الرتب والنياشين أن أحد أغنياء الريف شكا إليه سوء حظه في الرتب، وأنه سعى كثيرا للحصول على الرتبة الثانية فلم ينجح، فبعد أن أطرق حافظ قليلا قال له: إن الغرض الذي ترمي إليه من الرتبة أن تلقب بعزتلو بك؟ أجاب: نعم. فقال حافظ: إذن لا تهمك تلك الورقة التي تدعى بالبراءة؟ أجاب: نعم، لا تهمني مطلقا لأنها ليست وساما يزين صدر الإنسان.
فقال له حافظ: إن البكوية سهلة المنال، وإذا شئت أمطرتك تلغرافات التهنئة بالرتبة الثانية غدا، وهرع آل بلدك إلى رفع مراسيم التبريك إليك، ولكن على شريطة أن تنقدني مائة جنيه مصري متى تم ذلك.
فأقسم له الوجيه على أن يعطيه هذا المبلغ إذا جعل الناس كلهم يعلمون أنه بك، وأنه قد أنعم عليه بالرتبة الثانية، فسر حافظ بهذا القسم وخرج من عند ذلك الوجيه على أن يعود إليه مساء غد.
وفي الصباح أسرع إلى إدارات بعض الجرائد اليومية ونشر فيها خبرا مأجورا مؤداه أن قد ورد في صحف الأستانة العلية إنعام الجناب العالي بالرتبة الثانية على صاحب العزة المفضال فلان بك من عيون المركز الفلاني، ثم أرسل عدة أعداد من الجرائد التي نشرت هذا الخبر إلى بلد ذلك الوجيه ليكونوا على علم من الأمر.
وقبل أن يجتمع حافظ بالبك الجديد كان كثيرون من عارفيه الذين شاهدوه بعد مطالعة الصحف قد هنئوه وطلبوا له مزيد التعطفات السامية، فلما شاهد حافظا عانقه من فرحه ومنحه المائة جنيه رزقا حلالا.
ولا تسل عن الاحتفال الباهر الذي قوبل به سعادة البك المشار إليه في بلدته عند وصوله إليها، وهو لا ريب لا يزال يدعى «بك» إذا كان لم يزل حتى الآن على قيد الحياة.
ومن هاتين النادرتين الصغيرتين يرى القارئون الكرام أن الذكي إذا صرف ذكاءه إلى جر المال من أي طريق كان لم يعدم ذريعة ينال بها غرضه.
وأظن أن حضرة الفاضل كامل أفندي دياب مراسل المؤيد التجاري على علم من هذه الحكاية الغريبة، ولكنه على ما أظن يرويها محرفة بعض التحريف الذي لا يخل بجوهرها.
كيف غدا حافظ من ذوي الأملاك
اشتغال حافظ بالسمسرة - بيعه منزلا لا يمتلكه. ***
بين المهن التي زاولها حافظ أثناء جهاده في معترك هذه الحياة مهنة السمسرة، يوم كان كل واحد من الناس سمسارا حتى غدا السماسرة أكثر عددا من الذين يبيعون ويشترون.
وإن شابا كحافظ أوتي من زلاقة اللسان وقوة التعبير والتأثير ما أوتي، يمكن له أن يكون وسيطا «سمسارا» من أهون سبيل.
وقد أوقعت الصدف بين يدي حافظ رجلا من ذوي الأملاك، أراد أن يرهن منزلا له في أحد البنوك لقاء مبلغ ثلاثة آلاف جنيه، فأفهمه حافظ أن في وسعه إحضار هذا المبلغ إليه بفائدة لا تزيد على الخمسة في المائة في خلال ستة عشر يوما، ثم أخذ منه حجة المنزل ووصول الضرائب ليقدمها إلى البنك جريا على المعتاد.
عند ذاك فكر حافظ في طريقة تمكنه من بيع المنزل المذكور والاستيلاء على ثمنه، فاستحضر إليه وسيطا لا يعلمه ولم يره من قبل، وقال إنه يريد بيع منزل له، ثم اتفق وإياه على آخر ثمن للبيع وفوضه في إجرائه وقبض العربون.
ولقد رأى الوسيط الجديد أن الثمن الذي يطلبه حافظ قليل في جانب ما يساويه المنزل من الثمن الحقيقي، فسرعان ما أوجد شاريا قبض منه مبلغ مائة جنيه عربونا بمقتضى التوكيل الذي معه من حافظ نجيب الذي تسمى باسم صاحب المنزل الحق. وبعد ذلك كشف طالب الشراء على المنزل في المحكمة المختلطة، فلما لم يجده مرهونا ولا مباعا لأحد اشتراه بمبلغ أربعة آلاف جنيه، أخذها حافظ غنيمة باردة.
ولعل صاحب المنزل الحقيقي لا يزال حتى الساعة يبحث عن حافظ، كما يبحث عنه البوليس السري إلى الآن.
حافظ والحسناء
أو المحتال العاشق
إذا كان الحب في عرف ابن الفارض أوله سقم وآخره قتل، فهو في عرف النابغة حافظ نجيب مداعبة في أوله وربح في آخره، وإذا كنت أيها القارئ الكريم في ريب من ذلك فاسمع القصة التي سأرويها الآن لتصدق ما تقدم به البيان: من ميل حافظ التنقل وعدم الثبات، فهو إذا ما اتخذ إحدى القهوات للهو غادرها بعد حين قريب من الزمان إلى قهوة أخرى، شأن الطائر الغرد الذي لا يستقر على شجرة من الأشجار.
ففي ذات يوم راقت له قهوة كائنة في شارع كبير من أحياء العاصمة، فاتخذها له مركزا لقضاء بضع ساعات من النهار والليل.
ولا ريب أن الذي يجلس على القهوة لا يهمه منها إلا أن يكون ما يقدم إليه نظيفا وخاليا من الغش، أما حافظ فلم يكن هذا شأنه بل هو إذا جلس مرات في قهوة ما أخذ بتأمل ما حولها من المنازل سابرا غور كل منزل منها، على أمل أن يجد له في أحدها مغنما، فهو كثير التفكير بعيد النظر شأن النوابغ من رجال البوليس السري والمحتالين.
ولذلك ما كاد يجلس في تلك القهوة بضع مرات حتى علم أن في أحد المنازل المقابلة لها سيدة طرحت العفاف قصيا وأخذت تأتي ما لا تحلله الشرائع تحت الستار، وهي تظن أن ليس بين الناس من هو واقف على منكراتها إلا عشاقها وقد كانوا قليلين.
وغني عن البيان أن في مصر كثيرات على شاكلة هذه السيدة يأتين أنواع الفجور متحجبات عن أنظار الرقباء والعذال، وندر أن يعرف القريبون منهن أنهن على ضلال؛ لأن هؤلاء الفاجرات المتسترات يتظاهرن دائما بالتقى والإصلاح، ولذلك قال المثل العامي: خف من الذي يكثر من الصلوات.
ولو درت تلك المرأة المشار إليها أن حافظ نجيب أخذ في مراقبتها وعرفت من هو حافظ نجيب لأقلعت عن الإثم وتجلببت بجلباب الطهر والعفاف، ولكنها كانت تجهل أن عين حافظ ترقبها، ولذلك ظلت ناهجة منهجها غائصة في بحر خضم من الشرور والجرائم.
والظاهر أن حافظا راقه جمال تلك الحسناء، فعول على أن يكون أحد أولئك العشاق الذين يتطلعون إلى ما تضمه القصور والدور من السيدات، غير خاشين عقاب الضمير ولا موقف الديان.
فماذا فعل؟
لقد تمكن بدهائه واقتداره من معرفة واحد من عشاق تلك الحسناء، وهو بكل أسف من ذوي الألقاب العالية والوظائف السامية الذين إذا وجدوا في محفل أعجب بهم القوم، وكانوا موضوع التجلة والإكرام.
فلما وقف حافظ على هذا السر المكتوم تنكر بلباس خدم العيون والوجهاء وقصد إلى منزل تلك السيدة، وبعد أن قرع الباب طلب مواجهتها شخصيا لأمر يهمها، فلم تمتنع عن مقابلته، ولعلها تعودت السماح لمثله من الخدم بالمثول بين يديها.
وعندما تمكن من مقابلتها قال لها: إن سيدي البك قد أرسلني إليك سرا ليبلغك أنه في انتظارك في منزل خاص تمكن من إعداده اليوم للاجتماع بحضرتك فيه، وقد أكد علي أن أذهب بك إليه في هذه الساعة حيث هو بانتظارك على أحر من الجمر، وقد أرسل معي عربته الخاصة لتقلك إليه على عجل.
وبعد محاورة غير طويلة بين الخادم «حافظ نجيب» وبين تلك السيدة الحسناء قالت له: إني خائفة من الذهاب. فأقسم لها بأغلظ الأيمان على أنها في أمن تام، وعلى ألا يكون معها سواه، فتمكن بحديثه الخلاب وتأثيره العجيب من حملها على مطاوعته، فتركها عند ذاك وخرج حيث وقف على باب المنزل بانتظارها.
وقد جاء حافظ بعربة خاصة فعلا استأجرها من بعض الناس الذين يؤجرون أمثال هذه العربات للفنادق الكبرى وأرباب الأفراح، فما انتظر طويلا حتى هبطت عليه السيدة من منزلها متنكرة بحجاب كثيف يحجب عن عين المجتلي محاسن وجهها الجميل الفتان، فأسرع حافظ إلى جانب الحوذي وأمره بالمسير، حتى إذا ما وصل إلى البيت الذي كان يقصده أوقف العربة وتقدم السيدة صاعدا إليه، فتبعته على عجل مخافة أن تقع عليها عين عاذل أو رقيب .
أما مجمل ما حدث في ذلك المنزل، ولم يكن إلا إحدى عمائر الشيطان، فهو أن حافظا عندما أدخل السيدة إلى إحدى غرفه أوصد بابها وخلع عنه ملابس الخدم، فظهر بمظاهر أبناء الذوات، وللحال أدركت السيدة أنها وقعت في شرك نصب لها فحاولت الخلاص، ولكنها لم تجد إليه سبيلا.
ولما سألته عن البك المعروف أجابها أنني أقسمت لك على ألا يكون معك أحد غيري، وقد بررت بقسمي كما ترين، فهل تريدين عاشقا أرق مني شمائل وأكرم أخلاقا؟
ولا ريب أنه قد جرى بعيد ذلك ما جرى، فظن ما شئت أن تظن إن خيرا وإن شرا، ولا تسأل عن الخبر.
وقد هدد حافظ تلك السيدة بكشف أمرها وإذاعة سرها إذا هي لم ترضه، فاضطرت مكرهة إلى أن تعطيه كل ما كانت تزين به نفسها من الحلي والجواهر، وما كان في جيبها من النقود، خيفة أن يسلمها إلى رجال البوليس، ثم خرجت وهي لا تصدق بالنجاة، وفاز حافظ بالمصوغات والمال.
في قهوة الرقص
كيف أوقع إحدى الراقصات في شرك احتياله - إيهامها بأنه عازم على التزوج منها - مرافقتها إلى محل أساياس بالموسكي - إلقاء القبض عليه في فندق الكونتننتال - وقوعه في أيدي البوليس - فراره من السجن بعد ذلك. ***
يتشوق الناس كثيرا للاطلاع على الحوادث التي أجراها حافظ نجيب عندما تنسك وجعل نفسه من الرهبان المسيحيين منقطعا للصلاة والصوم في «الدير المحرق» تارة، وفي دير أنبا بشوي أو أنطونيوس مرة أخرى؛ لأن لغط الناس بهذه الحوادث كثر إلى حد ضاع معه الصحيح، ولأنه لم تقم صحيفة من الصحف لإذاعة تلك الأسرار بإيضاح يشفي الغليل، إذ قصرت فيما كتبته على ذكر موجز لا يغني ولا يفيد.
وأراني إجابة لرغائب غالب القراء مضطرا إلى تأجيل بقية النوادر العجيبة المدهشة التي أتاها حافظ تحت الستار قبل أن يجترم خداع تلك الراقصة الغانية التي كانت سببا في إيداعه السجن، بادئا الآن بذكر تفصيل ذلك الخداع متدرجا منه إلى بيان بقية حوادث حافظ ليعلم القارئون كيف نجا من أيدي البوليس؟ وكيف غش رؤساء الأديرة القبطية مدعيا أنه قبطي من أبناء السروات في أسيوط، إلى غير ذلك؟ حتى أصل به إلى تفصيل التحايل الغريب الذي أتاه على بعض رؤساء الأديرة المشار إليها، حتى حصل على مبلغ وافر من المال.
قلت إنني سأبدأ الآن بذكر حكاية حافظ مع الراقصة، وإليك تحريرها.
بينما كنت ذات مساء جالسا في قهوة الشيشة مر بي حافظ، وسرعان ما اتخذ إلى جانبي مكانا، وبعد أن حدثني طويلا لاح لي أنه على أشد ما يكون من البؤس، فأشفقت على ذكائه وعلمه أن يكونا في رأس شاب مثله لا يستخدمهما في عمل سام ينال منه أجرا يجعله في أحسن حال.
غير أن حافظا كان من الذين يعملون دائما بقول القائل:
وتجلدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتضعضع
فلهذا لم يشأ أن يظهر لي بؤسه، مع أن شواهد الحال كانت تنم عليه، وبعد أن شرب القهوة غادرني يتسكع في مشيته مطرقا برأسه مفكرا في حيلة تنقذه من ورطة الإملاق.
وبعد يوم واحد فقط سمعت أن حافظا أنفق على إحدى الراقصات في قهوة النوفرة بشارع كلوت بك خمسين جنيها في جلسة واحدة. فتأمل أيها القارئ الكريم كم كان دهشي عظيما عند ذاك! إذ بينا كان حافظ مملقا لا يملك بارة إذا به قد ظهر فجأة وهو ينفق إنفاقا يعجز عنه الأغنياء المسرفون.
من أين أتى حافظ بالذهب الرنان؟ لا أدري ولا أحب أن أختلق الحوادث والأخبار، ولهذا أقتصر على ذكر ما أعلمه من التفاصيل التي وصلت إلي عن حادث احتياله على الراقصة المشار إليها من العارفين بمحاضر البوليس.
لما عرف حافظ راقصة قهوة النوفرة أراد أن يخدعها بأنه من أبناء الذوات الوارثين، فلم يخيب لها طلبا قط، فظنته عند ذاك غنيمة باردة، فأخذت تطلب زجاجات البيرة بالعشرات وحافظ يدفع الثمن عن طيبة خاطر، غير مظهر ضجرا أو مللا، باذلا كل جهده في إرضاء تلك التي وهمها أنه وقع في غرامها حتى الركب.
ولما رأت الراقصة منه هذه السهولة في الدفع، وذلك الكرم الحاتمي، رجته أن يشرفها في منزلها على أمل أن تحتال عليه؛ لأنه مهما أنفق في القهوة من المال لا ينالها منه إلا التفاخر على زميلاتها من الراقصات، وذلك، ولا ريب، لا يزين معصمها بسوار ذهبي، ولا رأسها بتاج من الماس. فلما سمع حافظ دعواها لم يرفضها، بل شكر لها لطفها وظرفها ومكارم أخلاقها، ثم وعدها أن يزورها بعد ظهر الغد.
ولما حانت ساعة العصر ارتدى حافظ ببدلة جميلة المنظر، حسنة التفصيل، غالية الثمن، فاستقبلته الراقصة مرحبة به.
ومن ثم طلب حافظ شرب كأس من الخمر؛ لأن المدام من مستلزمات الغرام في عرف الأكثرين، واللبيب تكفيه الإشارة، فسرعان ما جاءته بزجاجة من كونياك مارتيل ماركة
VO ، وجلست إلى جانبه تناجيه بلغة الهيام.
والظاهر أن حافظا لم يرق له نوع الإدام الذي يستعمل «مازة»، فنادى الخادم وأمره بإحضار حمامتين ناضجتين من أحد المطاعم، فجاءه بهما وكان قد أعطاه جنيها، فقدم الخادم إليه بقيته وهي تسعة وثمانون قرشا صاغا، فأشار حافظ بيده وقال له: «أبق الباقي معك؛ فهو لك.»
وما رأت الراقصة ذلك الكرم الحاتمي النادر المثال حتى أخذت تعد نفسها بالهيل والهيلمان والمصوغات النادرة والأصفر الرنان، جاهلة أنها إن كانت ريحا فقد لقيت إعصارا.
ولما لعبت الخمر برأس الراقصة المشار إليها أخرج حافظ من جيبه حافظة من الجلد الثمين وأخرج منها عشرات من أوراق البنك الأهلي قائلا لها: انظري كم من مئات الجنيهات في هذه الحافظة! وإنني لم أرك إياها لأظهر لك أنني غني جدا، ولكن لأعتذر لك عن الحضور هذا المساء إلى القهوة؛ لأن عندي أعمالا مهمة تعوقني عن الذهاب إليها، ولكن ثقي أن حبك ثابت في فؤادي وأنني لن أرضى سواك بديلا.
والحقيقة أن جيب حافظ كان قد فرغ من المال، فأتى هذه الحيلة للخلاص من إنفاق عدة جنيهات في قهوة الرقص التي تشتغل فيها تلك الراقصة، وما كانت الأوراق المالية التي أظهرها إلا من الأوراق التي يصدرها البنك الأهلي مبصومة بختم فيه كلمة «لاغ»؛ لأن هذه الأوراق يوزعها على الصيارف والبنوك المالية للمضاهاة عليها عند اللزوم، ولا أعرف كيف حصل حافظ عليها ومن أين جاء بها هذا الشيطان؟ غير أن تلك الأوراق البائرة التي لا ثمن لها قد أدهشت الراقصة وحملتها على الاعتقاد بأن حافظا قارون زمانه وحاتم عصره وأوانه، فأجابته إلى ما طلب ببشاشة وابتسام.
ولما حانت الساعة التي يجب على الراقصة أن تخرج فيها إلى القهوة قال لها إنه يخشى أن تعلق بسواه، ولذلك هو يطلب منها عربونا على المودة والهيام لا سيما وأن في عزمه أن يتزوج منها، فحصل بهذه الواسطة على سوارين ذهبيين كانا يزينان أحد معصميها.
ذهبت الراقصة إلى قهوتها وهي تهجس بذكر حافظ وغناه والأوراق المالية التي معه، وذهب حافظ إلى حيث ثمن السوارين عند أحد الخبراء، فرأى أن ثمنهما لا يعادل ما أنفقه في ليلة واحدة على تلك الراقصة، فلم يرض بهما وعول على نزع بقية الحلي والمصوغات، ولذلك عاد في اليوم الثاني إلى منزل الراقصة عند الأصيل في عربة فاخرة استأجرها لسبك احتياله من العربات التي لا نمرة عليها ليوهم تلك الفتاة المسكينة أنها عربته، وأمر الحوذي أن يبقى بالانتظار، فاستقبلته ربة الدار بما يليق بقدره الرفيع من التجلة والإكرام، وأخذت تبالغ في احترامه وهي تظن بأنها تعمل على خداعه، متخيلة «أن في القبة شيخا»، وما درت من هو حافظ نجيب؟
وقبل أن تغرب الشمس قال حافظ للراقصة إنني أريد أن أشتري لك بعض الهدايا من أكبر المحال التجارية، وأرجو ألا تردي رجائي وأن تسرعي الآن بارتداء ملابسك لنذهب معا، فشكرت له الراقصة هذه العناية شكرا جزيلا ودعت له دعاء طويلا.
ولكيلا نضيع على القارئ الكريم وقته بالتفاصيل التي لا فائدة منها، نختصر من القول على أن حافظا أركب الراقصة معه تلك العربة الفاخرة فتاهت به عجبا ودلالا، ثم أوقف العربة في أول شارع الموسكي عند محل
La belle jardiniére ، الذي أسسه الخواجا أساياس لبيع فاخر الأقمشة وأنواع الهدايا، ثم قلد الوارثين والأغنياء في كلامه ومساومته ودلاله حتى ظن صاحبنا أن هذا الزبون الكريم خير من ألف زبون، خصوصا وأن حافظا لم يقتر في ثمن ما مالت إليه الراقصة الحسناء.
وما زال والراقصة يطلبان هذا وذاك حتى زاد ثمن ما انتقياه على الثلاثمائة جنيه، فاكتفت الغانية به وأشارت إلى حافظ بأن هذا يكفي الآن على نية أن تذهب به في يوم ثان إلى محل جوهرجي أو تاجر آخر حيث تربح ما ربحته من محل أساياس.
ولما قدم صاحب المحل كشفا بأثمان الأشياء التي انتقتها الراقصة إلى حافظ أخرج هذا من جيبه دفتر شيكات من الدفاتر التي تعطيها البنوك المالية إلى الذين يودعونها أموالهم، وكتب بالمبلغ المطلوب تحويلا على بنك الكريدي ليونه، وأعطى صاحب المحل عنوان الراقصة ليرسل البضاعة لها على عجل.
وبينا هو عائد مع الراقصة قال لها إنه مضطر إلى مغادرتها بعد أن يصل بها إلى منزلها حيث يغيب أربع ساعات ثم يعود، ولكنه لا يريد أن تذهب الليلة إلى القهوة؛ لأنه يرى من الواجب عليها الامتناع عن العمل بتاتا؛ إذ ستغدو عن قريب زوجته، فأجابته إلى ما طلب عن رضى بالطبع، ولكنه قال لها إنه يخاف ألا تصدق في كلامها، ولذلك يرجوها إذا كانت صادقة في وعدها وحبها أن تعطيه ما عليها من الحلي؛ لأنها بغيرها لا تقدر على الذهاب إلى القهوة، ثم يعيدها إليها عند رجوعه، فلم تجد المسكينة مناصا من إجابته إلى ما طلب خيفة أن يهرب العصفور من الفخ الذي وقع فيه!
ولما وصلا إلى المنزل أخذ حافظ منها مصوغاتها وودعها على أمل اللقاء العاجل في المساء بعد أن أعطى الخادم جنيهين لإحضار الكونياك وما يلزمه من المأكولات الشهية.
ذهب حافط وظلت الراقصة التعسة في انتظار تشريفه وانتظار الملابس وبقية الأشياء الثمينة التي انتقتها من محل أساياس، فذهب انتظارها سدى؛ لأن الخواجا أساياس عندما ذهب إلى البنك لقبض قيمة التحويل عجب موظفوه منه، وأجابوه ضاحكين بأن لا اسم مطلقا لصاحب التحويل عندنا؛ لأنه لم يودع البنك قرشا من أمواله، فعض عند ذاك على أرمه من الغيظ، وأدرك لساعته أن ذلك البك العظيم الجاه لم يكن إلا نصابا محتالا.
أما حافظ فقد فاز بالمصوغات والحلي وترك الراقصة تضرب أخماسا لأسداس.
ولما لم يعد حافظ في مساء ذلك اليوم ولا في صباح اليوم الثاني، عرفت هي أيضا أنه محتال كبير، فأسرعت إلى قسم الأزبكية حيث قصت الخبر على حضرات مأموره وضباطه، فكتبوا أقوالها في المحضر اللازم.
ثم ذهب الخواجا أساياس أيضا لشدة ما لحق به من الغيظ إلى قسم الموسكي، وأبلغ تفاصيل الخبر إلى حضرة المأمور النشيط، وعاد وهو يكاد يتميز من الكيد. ومن ثم أخذ رجال البوليس السري يبحثون على حافظ في كل جهة، فلم يقفوا له على مقر معلوم.
أما هو فقد باع المصوغات التي أخذها من الراقصة، ووضع ثمنها في جيبه، وذهب إلى فندق الكونتيننتال الشهير حيث نزل فيه باسم البرنس يوسف بك كمال بعد أن ارتدى بأفخر الملابس، وتحلى بالذهب البراق والماس الثمين، فلم يشك عمال الفندق فيه؛ لأنه ليس لديهم قلم لتحقيق شخصية من يقصدون إليهم.
وقد وصل إلى علم حضرة الأديب صالح بك شاكر خبر نزول حافظ نجيب في فندق الكونتيننتال، فحدثته نفسه بإلقاء القبض عليه، فقصد إلى الفندق وجلس في المحل المعد قهوة عامة لكل الناس، حتى إذا ما نزل حافظ حياه بوقار واحترام كما لو يحيي فعلا صاحب الدولة الأمير الخطير يوسف بك كمال، وسأله أن يسمح له بكلمة وجيزة في أمر ذي بال، فأجابه حافظ إلى ما طلب وجلسا معا على مائدة واحدة.
وبعد أن حياه دولة البرنس «حافظ نجيب» بسكارة من سكاير جناكليس سأله الإفصاح عن بغيته، فقال له صالح بك: إنني أعلم حق العلم أن حضرتك لست بالبرنس يوسف كمال، وأنك حافظ نجيب المحتال الهارب من وجه البوليس، فلذلك أنصح لك بالذهاب معي إلى أقرب مخفر حتى لا تحول الأنظار إليك، ويكون في ذلك ما فيه من الفضيحة والعار عليك.
فشمخ حافظ بأنفه كبرا وأجاب صالح بك بأنك واهم يا هذا فيما قلت، وما أنا بحافظ نجيب ولكنني البرنس يوسف كمال، ثم مد يده إلى جيب بنطلونه ليوهم مخاطبه بأنه سيخرج منه مسدسا أو مدية أو ما شاكل ذلك، فأسرع صالح بك وقبض على ذراعه بيد من حديد، وقال له: إما أن تسير أمامي وإما أن أستعين على إلقاء القبض عليك بخدم الفندق ورجال البوليس، فصغرت عند ذاك نفس حافظ وحاول إرشاء صالح بك فلم يفلح.
وأخيرا اضطر أن يسير وإياه جنبا إلى جنب كأنهما عاشقان أو قتيلا غرام حتى وصلا إلى قسم الموسكي، وهناك سلمه حضرة صالح بك إلى حضرة الفاضل رزق أفندي إبراهيم مأمور القسم بعد أن كان صلة تعارف بين الاثنين.
ولا ريب أن حضرة المأمور النابه قد أدرك اقتدار حافظ وسعة حيلته ودهائه الشديد، فأودعه سجنا لا يستطيع منه فرارا، فضاقت الدنيا على رحبها في وجه حافظ، فسلم أمره إلى المقدار وقال بلسان الحال ما يقوله العامي في مثل هذا المقام «الصباح رباح».
ولكن ذلك الرأس المفكر الكبير رأس حافظ نجيب عسر عليه أن يلتحف الأرض دون أن يفكر في طريق النجاة قبل أن تبدأ النيابة العمومية معه بالتحقيق، فيضطر إلى الافتكار بما ينقذه من شر التهم التي توجه إليه، فلم يطلب الراحة إلا وقد أعياه الفكر، ثم ابتسم ضاحكا من تقلب الأحوال؛ لأنه منذ ساعة واحدة فقط كان الأمير يوسف بك كمال موضوع التجلة والإكرام في أعظم فنادق القاهرة، فغدا الآن طريح «الأسفلت» وعشير اللصوص وغيرهم من المجرمين بعد أن كان خلطاؤه من ذوي الجاه والمال والنقود من القوم السائحين.
ولكن صاحبنا حافظ تعود على أن يستهين بالأخطار ويضحك من تقلبات الأحوال، فنام وهو واثق بالنجاة في القريب العاجل.
ولو كان في ذلك المقام وعلى تلك الحال شاب غير حافظ نجيب ليئس من الحياة الدنيا وأيقن بالشقاء المقيم، ولكن حافظا يرى مثل هذه الكوارث سحابات صيف لا تلبث أن تزول.
وفي صباح اليوم الثاني نادى حضرة المأمور على حافظ نجيب وشرع في إجراء التحقيق معه، فكان يجيب على كل سؤال يوجه إليه برزانة وثبات جأش يدلان على اقتدار عجيب في المواقف الحرجة، فعجب له حضرة المأمور ودهش من سرعة بديهته وقوة حاضرته.
ولقد ضبط معه قبل أن يودع السجن عدة أوراق مالية من أوراق البنك الأهلي الملغاة فأودعت محضر التحقيق.
وبعد أن انتهى رجال البوليس من تحقيقاتهم أرسلوه مع محضرهم إلى نيابة محكمة الموسكي لتتم التحقيق القضائي اللازم في مثل هذه الحال.
وقد حدث أنني صادفته ذات يوم والجنود عائدون به من نيابة الموسكي مع عدد ليس بقليل من المتهمين وفي يده الأغلال الحديدية فحياني مبتسما وقال لي على غفلة من رجال البوليس: «لي يا سي جورج في كل يوم شأن، وما هو إلا مظلمة جديدة من مظالم بني الإنسان. فقد اتهموني الآن بالنصب والاحتيال على راقصة طالما غمرتها بإنعامي وأغرقتها في بحر مكارمي، ولكن لا بأس فإن العصفور لا يظل في القفص طويلا.» وهو يرمي بالجملة الأخيرة إلى أن يوم فراره قريب.
وكأنه عز عليه أن يكون كاذبا في دعواه فأسرع في الهرب من أيدي البوليس متخلصا من غطرسة السجانين وعذاب التحقيق الدقيق.
وبيان ذلك أنه كان آيبا ذات يوم عند الظهر من محكمة الموسكي الجزئية حيث كان حضرة وكيل نيابتها يحقق معه وإلى جانبه عسكري يحرسه ويحافظ عليه من الهرب، فلما وصلا إلى العمارة الكبرى الكائنة على مقربة من محل «ستين» الشهير قال للجندي: أنت تعلم يا صاح أنني لست بالفقير المعدم وأن لي في النيابة العمومية مبلغا طائلا من المال وعدة مصوغات، ومن كانت حالته هكذا يصعب عليه كثيرا أن يقضي أيام التحقيق سجينا دون أن يكون معه في جيبه مال يمكنه من شراء كل ما تتوق إليه نفسه من الأكل والدخان، فإذا تفضلت علي بالانتظار قليلا ريثما أصعد إلى منزل أحد أصدقائي العظماء الساكن في هذه الوكالة، وآتى منه بخمسين جنيها أو ما يقرب من ذلك أعطيتك عشرة جنيهات لقاء لطفك ومكارم أخلاقك، وغدوت لك من الشاكرين، كما أنه يجب أن تثق أنني بعد خروجي سأكون لك نعم النصير وبك خير شفيق.
فسال عند سماع الجنيهات لعاب العسكري شوقا إليها، وقال لحافظ: «إنني أسمح لك بما أردت، على شريطة أن يظل القيد في يديك.»
فأجابه حافظ: «لا بأس في ذلك؛ لأن صديقي هذا يعلم أنني سجين ظلما، فهو لا يزدري بي إذا رآني مقيدا مثل سائر المتهمين.»
وسرعان ما أخذ يصعد الدرج أربعا أربعا تاركا الجندي بانتظاره، ناسيا هذا المسكين أنه إنما ينتظر أحد القارظين.
مضت ساعة وأخرى والعسكري التعس في انتظار حافظ وهو يعد نفسه بالجنيهات العشرة، ولكن حافظا لم يعد حتى أيقن ذلك العسكري أنه احتال على الفرار، وأن أوبته من المستحيلات، فصعد إلى المنازل التي في تلك العمارة الكبرى، وأخذ يطرق أبوابها واحدا بعد آخر فلم يجد لذلك السجين الهارب من عين ولا أثر، فأدرك إذ ذاك عظم خطئه ونتيجة إهماله، واستعد للعقاب العادل الذي سيحل به جزاء له على تهاونه.
أما حافظ فإنه خرج من باب آخر بعد أن حمل أحد الخادمين من البرابرة على حل قيوده، وسار في طريقه آمنا عيون العواذل والرقباء.
وفي مساء ذلك اليوم ذهب إلى القهوة المصرية الشهيرة باسم
Café Egyptienne
حيث توجد البلياردات النادرة المثال؛ لأنه كان من المولعين بلعب البلياردو ومشاهدة ما يأتيه كبار اللاعبين من الألعاب المدهشة.
حافظ في القهوة المصرية
كيفية احتياله على إحدى الغانيات الإفرنجيات - تقليده أبناء ذوات الفلاحين. ***
قلت إن حافظا جلس في القهوة المصرية، وبينا هو جالس أحب أن يمثل دورا قصيرا على الهامش وصوب نظره نحو غانية كانت هناك.
ولكن جيبه كان فارغا والمرء لا يكون وجيها ولا عالما ولا ذكيا بغير الذهب، فاضطر على الرغم منه أن يؤجل تمثيل ذلك الدور المضحك إلى يوم غد حتى يحصل على شيء من النقود لا سيما وأن عشاق تلك الغانية كانوا كثيرين.
ولقد تمكن بدهائه الشيطاني في اليوم الثاني من الحصول على مبلغ ليس بكبير من المال، فقصد لساعته إلى محل الماس بيرا، حيث اشترى عدة مصوغات كاذبة ولكنها تلمع في الليل لمعانا يبهر الأنظار، ولا سيما نظر الغواني اللواتي لا أحب إليهن من الأغنياء الذين ينفقون عليهن عن سعة ورخاء.
وما أمسى المساء حتى قصد إلى القهوة المعينة، وظل فيها إلى أن قرب الليل من الانتصاف وهو يحاول استدعاء تلك الغانية إليه، فلم يجد فرصة مناسبة؛ لأن عاشقيها أربوا على الخمسة عدا وكلهم من أبناء العيون وعيون البلاد.
ولكنه طلب إليها أخيرا أن تجلس معه، فلم تجد بدا من إجابة طلبه أسوة سواه. وقبل أن تحضر كان حافظ قد تزين بما اشتراه من المصوغات من محل «الماس بيرا»، فظهر بها من أصحاب الثروة الواسعة والجاه العريض.
وقد أرادت الغانية المشار إليها أن تحرج موقفه لتخلص منه، فأخذت تحضر لنفسها من المشروبات ما غلا ثمنه، فلم تجد من حافظ إلا ارتياحا، ثم آنست من سذاجته ما رغبها فيه بعد أن كانت راغبة عنه، على أمل منها بالضحك عليه واستنزاف ماله، جاهلة أنه حافظ نجيب آية المحتالين ونابغتهم بلا ريب في هذا الزمان.
أمعن حافظ النظر في الغانية وهي على تلك الحال من وجود خمسة أو ستة من العاشقين وكلهم يود الاستئثار بها، فرأى أن مركزه حرج، فعول على استخدام ذكائه للفوز على خصومه.
وقد دارت بينه وبين تلك اللعوب محادثة قصيرة باللغة الفرنسوية، فأفهمها بأنه وإن كان يجيد هذه اللغة إلى حد بعيد، فهو ليس من سكان العاصمة؛ لأنه ذو أراض واسعة في مديرية الشرقية، وما جاء إلى القاهرة إلا لأخذ رخصة من نظارة الأشغال العمومية ببناء عزبة وتركيب وابور بخاري على النيل، فزاد رغب الفاتنة فيه نظرا لما هو مشهور عن كرم المزارعين في محال اللهو والزهو.
وما حانت الساعة الثانية إلا وقد اتفقا على أن يشرفها حافظ بزيارته إياها في تلك الليلة، فلبى طلبها مظهرا لها أنه قتيل حبها وصريع هواها.
ولا ريب أن تلك اللعوب لم يخدعها إلا الحلي التي رأتها على حافظ، فظنت ما ظنت وتاهت في بيداء الأحلام الحلوة والأماني اللذيذة.
ولما أقفلت القهوة أبوابها وغادرها كل من فيها، انسل حافظ إلى الخارج ووقف أمام الباب منزويا داخل عربة، حتى إذا ما خرجت الغادة المشار إليها دعاها إليه فركبت معه وسار إلى المنزل العامر.
وكأن حافظ أراد أن يطرد ما يجيش في صدره من الهموم والخوف من الوقوع مرة أخرى في أيدي البوليس والرجوع إلى النوم على «الأسفلت»، فطلب خمرا جيدة فجيء بها إليه، وأخذ يشرب وفاتنته بين لهو ولعب كأنه لم يكن أمس سجينا تحت رحمة القضاء.
وما حانت الساعة الرابعة من الصباح حتى أنهك التعب قوى الفتاة الأوروبية، فاضطرت إلى الرقاد وتظاهر حافظ بالنوم أيضا، ولكن هيهات لمثله أن ينام في مثل ذلك المنزل، ولذلك صبر عليها حتى أيقن من أنها استغرقت في النوم، ثم خف إلى الباب وخرج منه دون أن يدري أحد بعد أن نزع كل ما اشتراه من المصوغات الكاذبة، ووضعه على مائدة الشراب فوق ورقة كتب فيها ما يأتي:
عزيزتي ...
لا تغتري بأي كان لأول مرة، فالإنسان كالدنيا دائما يغر في الابتداء ويسيء في النهاية.
لو شئت أن أسيء إليك لاستطعت، ولكنني لا أميل إلى الشر ولا أرغب في إيذاء أحد من عباد الله فنامي براحة وسلام.
إذا استيقظت فلا تعجلي في تفقد أمتعتك ومصوغاتك، فكلها سليمة لم تمسها يدي، بل زدت عليها جميع ما كان معي من المصوغات الكاذبة لتكون لديك تذكارا من «العاشق الظريف».
حاشية:
ربما عدت إلى زيارتك يوما، فانتظري ذلك اليوم بفارغ الصبر.
حيلة في مصرف مالي كبير
الحصول على مبلغ من المال
ولقد رأى حافظ نفسه في حاجة قصوى إلى مال يمكنه من الاختفاء عن عيون رجال البوليس السري والملكي، فعمد إلى إحدى القهوات، وهناك أخذ يفكر في إيجاد ذريعة تمكنه من نيل ما يرمي إليه، فسدت الأبواب في وجهه؛ لأنه كان على خوف دائم من أن يقف رجال البوليس على أثره فيعيدوه إلى السجن سريعا.
ولا ريب أن من كان في حالة حافظ يعجز مهما أوتي من الدهاء عن الاحتيال على عباد الله وهو طريد البوليس، وقد شهرت به الجرائد تشهيرا لفت نحوه أنظار الناس أجمعين.
ولكن حافظا أبى إلا أن يفوز بأمنيته، فصحت عزيمته بعد إمعان الفكر على إتيان حيلة غريبة يراها الإنسان سهلة ولكن الصعب في تصورها والإقدام عليها.
كان في جيب حافظ في تلك الساعة عشرة جنيهات، فأسرع إلى أحد المصارف الكبرى ووضعها فيه أمانة، ثم جاء في اليوم التالي وطلب سحب خمسة منها، فأعطي نمرة منقوشة على قطعة من نحاس للقبض بموجبها؛ إذ كانت العادة الجارية في ذلك البنك أن يعطى طالب المال أو من معه تحويل عليه تلك القطعة النحاسية وعليها نمرة توضع على التحويل المرسل إلى الصراف، حتى إذا ما جاء دوره نودي على نمرته لا على اسمه، فيقدمها ويقبض بموجبها المال.
فلما أخذ حافظ تلك القطعة النحاسية وعليها النمرة جلس حول طاولة كبرى هناك يجلس بقربها المنتظرون، حتى إذا سمع أحدهم نمرته خف إلى الخزنة ليقبض المبلغ المطلوب.
وقد كان على مقربة من حافظ بربري من البرابرة الذين تستخدمهم المحال التجارية والمصارف المالية في إرسال النقود إلى البنوك وسحبها منها، فأخذ يحادثه بشأن الأعمال وغرابة القطع النحاسية، حتى تمكن بدهائه من استبدال قطعته بالقطعة التي بيد البربري ونمرتها قبل نمرته بثلاث نمر أو أربع.
وقد كان حافظ مراقبا هذا البربري منذ دخوله، فعرف أن التحويل الذي جاء به هو بمبلغ مائتي جنيه، فلما نودي على نمرة البربري أسرع إلى الخزانة وقبض المبلغ المشار إليه.
وقد رأى حبا منه في اتخاذ كل تحوط يحول دون ظهور حيلته أن يرسل ذلك البربري إلى محل ماتوسيان لشراء سجاير له من هناك، فأجابه البربري تأدبا إلى ما طلب، فلما عاد كان حافظ خارجا من البنك فأخذ منه السكاير وشكر له حسن صنيعه.
أما البربري فدخل إلى البنك وطالب الصراف بقيمة التحويل الذي جاء به، فقال له إن المبلغ المستحق لك هو خمسة جنيهات فقط، فصاح غيظا مخطئا الصراف، وأخيرا جاء مدير البنك ووقف على الأمر بنفسه، ولكنه حتى الساعة لم يقف على حافظ نجيب، ولم يعلم أنه هو الذي تناول مبلغ المائتي جنيه غنيمة باردة.
ومما يذكر في هذا الباب أن ذلك البنك عدل عن هذه الطريقة على أثر حادثة حافظ مع البربري؛ لأنه رأى في وجودها خطرا ظاهرا، فكان صنيع حافظ إحسانا إلى ذلك البنك وإنقاذا له من غوائل الطريقة المشار إليها.
فشل حافظ
ادعاؤه أنه الخواجا روفان صيدناوي - معاكسة الظروف له. ***
وقبل أن يخطر له الذهاب إلى الدير ساح سياحة مطولة في الوجهين البحري والقبلي دون أن يقف له رجال البوليس على أثر فكأني به كان يتمثل دائما بما كتبته تحت رسمه:
أيها الباحثون عني أفيقوا
إنني كالهواء في كل أرض
إن رآني النسيم غض حياء
لخداعي وإنني لست أغضي
وقد وصل به الرحيل إلى بلدة الشين، فلما حط رحاله فيها سأل بعض الناس عن كبير هذه البلدة وسريها، فقيل له إنه حضرة الخواجا قلد غالي مفتش زروعات سعادة المحامي الشهير خليل بك إبراهيم الذي يملك هناك مساحة واسعة من الأطيان، فقصد إليه.
ولما وصل إلى السراي التي شيدها سعادة خليل بك هناك أرسل إلى الخواجا قلد كارت فزيت هذه صورته:
وغني عن البيان أن الشعب المصري كله يعرف أن أفراد عائلة صيدناوي الشهيرة كلهم أغنياء وأصحاب أملاك وأطيان كثيرة، فرأى حضرة الخواجة قلد نظرا لما فطر عليه من اللطف ومكارم الأخلاق أن يرحب بضيفه الكريم، فأسرع إليه وبالغ في إكرامه بينا كان صاحبنا حافظ «قد أعطى النعمة استحقاقها»، فجلس منتفخ الأوداج كبرا وفي يده عصا ذهبية يديرها لاعبا بها تارة وناكتا بها الأرض طورا.
وبعد أن شرب القهوة وبعض المرطبات سأله الخواجا قلد عن الداعي الذي حمله على تشريفه، فقال له «الخواجا روفان» أستغفر الله بل «حافظ نجيب» إنه كان على مقربة من الشين يعاين أرضا يرغب صاحبها في بيعها له، وقد صادف أن جميع النقود التي كانت معه قد أنفقت، فذهب إلى المحطة ليبدل فيها ورقة مالية بمبلغ مائة جنيه فلم يجد، ولما سأل الناس عن محل يمكن أن يوجد فيه هذا القدر من الذهب، أشير عليه بالذهاب إلى تفتيش خليل بك إبراهيم، فسره ذلك إذ ستكون هذه الزيارة سببا للتعارف مع محام شهير وغني من أكبر أغنياء القطر.
ثم زاد على قوله هذا شيئا كثيرا من «المعر والفشر»، فقال إنه يملك أطيانا عليها أربعة عمد من عمد البلاد، وغير ذلك مما لا يدخل تحت حصر أو قيد.
فقال له الخواجا غالي إنه يأسف كثيرا لعدم وجود مائة جنيه في خزينته، ثم نادى أحد الخادمين وأعطاه الورقة المالية دون أن يمعن النظر فيها وأمره بالذهاب بها إلى واحد يعرفه من التجار ليصرفها له، فلم يجد ذلك التاجر لحسن حظه مائة جنيه ذهبي في صندوقه. أقول لحسن حظه؛ لأن تلك الورقة المالية لم تكن إلا إحدى الأوراق الملغاة التي عرف القراء سرها فيما تقدم به البيان.
وعند ذاك أظهر حافظ أسفا وضجرا من هذه الحال، فقال له الخواجا قلد إنه إذا كان يريد من النقود ما يمكنه من السفر إلى مصر فهو يعطيه ما يشاء، وللحال أخرج من جيبه جنيها وسلمه إليه، فأخذه حافظ منه وكتب كلمة على كارت باسم الخواجة روفان إلى أحد أفراد عائلة كوهين بالمنصورة ليدفع الجنيه إلى الخواجا قلد، ثم سلمه إليه شاكرا لطفه.
قال حضرة الفاضل توفيق أفندي خليل إبراهيم الذي قص علي هذه الحكاية إنه عندما ذهب أحد المستخدمين إلى الخواجا كوهين بالمنصورة لقبض الجنيه، أغرب هذا الأخير في الضحك عندما ذكرت له أوصاف الخواجا روفان أي «حافظ نجيب»، وقال إن الخواجا روفان على غير ما سمع من الوصف، وإنه لا عمل له في الشين أو ما يجاورها على الإطلاق. ثم عرفوا بعد البحث أن الخواجا روفان الذي زراهم لم يكن إلا حضرة المحتال الظريف حافظ أفندي نجيب.
في أديرة الأقباط الأرثوذكس
التجاء حافظ إلى الأديرة للفرار من مطاردة البوليس - تأثير الرهبنة عليه - بماذا احتج للاندماج في سلك الرهبان - رثاؤه المرحوم مصطفى باشا كامل باسم الراهب غبريال إبراهيم بدير الأنبا بيشوي - اهتمام أدباء الأقباط والغيورين منهم بشأن هذا الراهب الجديد - حافظ يناظر واعظا قبطيا بصفة كونه راهبا - الراهب غبريال يظهر المعجزات - انتقاله إلى دير المحرق - احتياله على أسقفي بوش والمحرق. ***
ما تناولت القلم لأسطر هذا الفصل من فصول حافظ نجيب حتى أسفت على أن يكون هذا المحتال الظريف، مستودع ذلك الذكاء النادر؛ لأنه لم يستخدمه إلا في أعمال لم تعد بفائدة ما سواء عليه أو على الهيئة الاجتماعية، مع أنه لو كان صحافيا لنفع بمعارفه الاجتماع، وكان خير معين لرجال البوليس على كشف المخبآت وإظهار ما في الزوايا من الخبايا والأسرار.
ولهذا لا عجب إذا اعتقدت أن الذكاء قسمان؛ قسم وهو الذي يصاحب الأدباء وأهل الشرف يدعى ذكاء عن عدل واستحقاق، وقسم وهو الذي يظهر على نوابغ المحتالين يدعى مكرا؛ لأن الذكي الحق لا يعمد إلا إيذاء عباد الله واستحلال المحرم، في حين أنه قادر على أن ينتفع من الطرق المشروعة عدلا أكثر مما ينتفع من سبل النصب والاحتيال. •••
اختلى حافظ ذات يوم إلى نفسه بعد أن غادر تفتيش سعادة خليل بك إبراهيم فحزن حزنا شديدا على ما وصل إليه من سوء الحال، فكر في المستقبل فرآه أسود من الغراب، فتمشى قلبه في صدره لشد ما أخذه من الحزن وتساوره من الهم، فصفق بيديه صفقة الأواه وندم على ما فات من أيامه وأعماله ندامة الكسعي في سالف الأزمان.
وبعد أن أطال التفكير وبرح به الشقاء أياما، لم يجد أمامه من وسيلة للخلاص غير التنسك في أحد الأديرة التي لا تنصرف إليها أفكار رجال البوليس؛ لأنهم لا يتصورون أن حافظ نجيب يدعي النصرانية ويقيم بين أظهر القسيسين والرهبان.
ولما صحت عزيمته على ذلك ذهب إلى دير وادي النطرون، ولما سئل عن الداعي الذي حمله على مغادرة العالم والانقطاع لعبادة الله قال:
إنني أحد أبناء ذوات مدينة أسيوط، توفي والدي قبل أن أبلغ سن الحلم، فأرسلتني والدتي إلى مدينة طولوز حيث مكثت فيها ثلاثة عشر عاما أتلقى العلم العالي والحقوق.
ولما انتقلت والدتي إلى رحمة الله عدت إلى بلادي وأخذت أجاهد في معترك هذه الحياة، فكان حظي منها وافرا، فعشت عيشة الرخاء واليسار، وكان لي شقيقة وحيدة وابنة عم يتيمة جعلتهما موضع آمالي، فكانتا لي نعم العزاء في أيام الكدر والشقاء، وكنت أحب ابنة عمي حبا مبرحا كما كانت هي تهواني أيضا، فتعاهدنا على الحب الدائم وإقرانه بالزواج، ولكنني قبل أن أفوز بهذه الأمنية اللذيذة رميت على حين غرة بمصاب بدد آمالي وصرم حبل آمالي، وتركني في أشقى حالات النكد والهوان بعد أن عشت مع عزيزتي تسعة أعوام كاملة آصالها مواسم وأسحارها بواسم، أما ذلك المصاب الذي دهمني فهو موت أختي وخطيبتي فجأة اختناقا بالغاز.
وبيان ذلك أن المنزل الذي كنا نقيم فيه معا ينار بالغاز الممتد بأنابيب إلى المنازل والحوانيت، وقد صادف ذات يوم أنهما دخلتا إلى مخدعهما ونامتا دون أن يلتفتا إلى أن الغاز يتصاعد من المصباح، وإن كان غير مضاء، فأوصدتا الباب والنوافذ وغرقتا في بحار النوم، ولكن عدم وجود منفذ يخرج منه الغاز دعا إلى اختناقهما قبل أن يدخل عليهما أحد يمكنهما من النجاة، ودون أن يتمكنا من الاستنجاد بأحد من العالمين.
وفي صباح اليوم الثاني أبطأتا في الخروج من مخدعيهما، وقد جرت عادتي ألا أخرج إلى عملي قبل أن أتناول معهما طعام الصباح، فأسرعت إلى غرفتهما وطرقت بابها مرارا على غير جدوى، وعند ذاك أخذني الخوف والقلق من كل جانب، فدفعت الباب بكل قواي فانفتح، ويا لهول ذلك المشهد الأليم الذي رأته عيناي بعد ذلك! فقد شاهدت أختي وابنة عمي قتيلتين لا حراك فيهما، وشعرت للحال بضيق الصدر من رائحة الغاز، فأدركت سبب الموت واستخرطت في البكاء والعويل، ولكن ماذا يفيد البكاء وقد حل القضاء المحتوم وذبلت تانك الزهرتان اليانعتان، وعما قريب أودعهما الوداع الأخير؟ ثم بلغ مني الحزن حدا كرهت معه الحياة الدنيا، فتركت أعمالي وأودعت ما أملك من المال أحد البنوك، وجئت إلى هذا الدير لأكون أحد رهبانه منقطعا لعبادة الله، والصلاة عن نفسي تينك العزيزتين رحمهما الله.
ثم أجهش للبكاء.
فما سمع رئيس الدير هذه الحكاية المؤثرة حتى أخذته الشفقة على حافظ، فرحب به وألبسه المسوح، فغدا راهبا قبطيا اسمه الراهب غبريال إبراهيم.
وقد أقام حافظ في ذلك الدير بضعة شهور وشيمته الورع والزهد، وعمله الصلاة صباح مساء، فأجله كل من كان في ذلك الدير من رهبان وقسيسين، وقد أعانه على الظهور بمظهر المسيحي المتمكن من دينه أنه ربي في مدرسة الفرير الكبرى بالعاصمة، وتلقى فيها التعليم المسيحي أسوة سواه، فلم يرتب في نصرانيته أحد.
وكأن حافظ قد ملت نفسه الجهاد فاستسلم إلى القضاء، وعول على قضاء أيامه بعيدا عن حركة هذا العالم في ذلك الدير النائي.
ولكن ما فطر حافظ عليه من الميل إلى إتيان كل حيلة نادرة وأمر غريب لم يمكنه من البقاء على تلك الحال طويلا، فغادر ذلك الدير إلى دير أنبا بيشوي؛ لأنه لم يجد في وادي النطرون ما تطمح إليه نفسه من الآمال.
ومما لا يحتاج إلى بيان أنه قوبل في دير أنبا بيشوي بإكرام وإعزاز لا سيما بعد أن حسنت الشهادة في حقه من رئيس دير وادي النطرون، فعمد عند دخوله إلى اكتساب ثقة أسقف الدير ورئيسه وسائر من فيه من أهل الدين والدنيا، فلم يعسر ذلك على نابه قدير كحافظ نجيب.
وقد حدث عند ذاك أن المنية استأثرت بالمرحوم النابغة مصطفى باشا كامل صاحب اللواء ورئيس الحزب الوطني، فما علم حافظ بانتقاله إلى رحمة الله تعالى حتى أثار النبأ المفجع شجونه وحرك يراعه بعد أن مضت عليه سنة أو يزيد وهو ساكت هادئ، فنظم المرثية الآتية وبعث بها إلى جريدة الوطن فنشرتها في العدد الذي صدر يوم 17 فبراير سنة 1908 بالنص الآتي:
دموع الأدباء على فقيد الوطنية: دمعة راهب من داخل الدير
تحطمت الآمال وانحسم الأمر
فكل الرزايا دون خطبك يا مصر
ومن كارثات الدهر هل بت مثلما
تبيتين ثكلى لا عزاء ولا صبر
وهل أوحشت في موت فرعون مصره
وحلت بواديك المخاوف والذعر
وهل مر ماء النيل من هول حادث
كما مر مرتاعا وفي مائه المر
ومن قبل هذا هل شهدت مناحة
يضيق لها التاريخ والنظم والنثر
فأي فؤاد لا يذوب لما جرى
وأي جلود لا يفتته القهر
فيا عين جودي بالمدامع والدما
ويا حزن لا تبرح وموعدك الحشر
فما كل خطب ينتسى سوء وقعه
ولا كل ذكر حظه الطي والنشر
وما خلف الثاوي بديلا له ولا
تجود به الأزمان هيهات والدهر
وفي القبر هل ترضى المقام وعهدنا
بأنك يا محبوب موضعك الصدر
ومن للملا من بعد صوتك صائح
يصيح فتهتز المغارب والقطر
ومن يرتجى للشعب بعدك قائد
وأنى له منك العزيمة والفكر
وأي خطيب بعد موتك مصطفى
إذا قرع الأسماع ينتثر الدر
وأي يراع بعد ذياك إن جرى
أثار جبان القلب وانتعش الحر
وأي زعيم للسياسة بعده
وقد ضاع منها الرأس وانقصم الظهر
وهل للصحافة بعد فقدك عامل
يخلد ذكراها كما خلد الذكر
قضيت فأبكيت العداة وحسدا
وشاركنا في حزننا الجلمد الصخر
وسالت مع العبرات نفس عزيزة
وليس إلى السلوى سبيل ولا وعر
فلا تهدأ الأحزان ما دمت صامتا
وما دام ذاك البدر يحجبه القبر
الفقير الراهب
غبريال إبراهيم
بدير الأنبا بيشوي
وما ذاع أمر هذا الرثاء حتى أعجب به إخواننا الأقباط أيما إعجاب، وسروا لوجود كاتب ناظم في عداد الرهبان، فأخذوا يتساءلون عن هذا الراهب الجديد الذي ظهر على حين غرة وأخذوا يبنون على وجوده داخل الأديرة القبطية الآمال الحلوة، مؤملين أن يكون باعثا لكثيرين سواه على الاقتداء به، فينتقل الرهبان إلى حالة جديدة ويغدو بينهم عدد كبير من أهل العلم والحصافة والذكاء.
وقد حرك هذا الاهتمام حضرة الفاضل جندي بك إبراهيم صاحب جريدة الوطن بصفة كونه أحد زعماء الحركة الفكرية بين الأقباط ومدير جريدة هي لسان حالهم من قديم إلى أن يبعث بكتاب إلى حضرة رئيس الدير، فجاءه منه الكتاب الآتي نصه:
عزتلو الفاضل جندي بك إبراهيم باركه الله
نهديكم وافر التحية وأذكى السلام مع صالح الدعوات، وبعد؛ فقد ورد لنا خطابكم وردا على سؤالكم بخصوص صاحب قصيدة الرثاء فإنه حقيقة موجود بالدير رئاستنا، ويمكنكم الحكم على مقدرته في اللغة العربية والنظم من قصيدته الثانية المرسلة مع هذا، وتقبل احترام وتحية المخلص، وسلام الرب ليكون معكم.
رئيس دير الأنبا بيشوي
ووصلت مع هذا الكتاب مرثية ثانية من الراهب غبريال إبراهيم أو حافظ نجيب وهذا نصها:
أنة مكلوم
بعادك يا رب اللواء أساءنا
وزعزع طودا راسخا وجليلا
ولم تر عين الشمس قبلا نظيره
ولا ترتجي الأزمان عنه بديلا
يد الموت هلا كنت عنه قصيرة
وأبقيت فينا حازما ونبيلا
يد الدهر لم تعرف سبيلا لخذله
فكيف وجدت للعظيم سبيلا
ألم يجزع الموت العشية بعده
وهلا بكته الحادثات طويلا
وقد جف ماء النيل حزنا وما جرى
ولكن جرى دمع المحاجر نيلا
وقد أظلم الكون الذي كان نيرا
ولم يغن ضوء الشمس عنه فتيلا
فهل ضمه القبر الذي صار موطنا
وما وسعته الأرض قبل نزيلا
عجيب لصرف الدهر فيه وإنني
مرارا شهدت الدهر آب ذليلا
وكم مرة عاد الزمان بجيشه
حسيرا ورد الطرف عنه كليلا
فلا تنزعي مصر الحداد فإنما
على مثله يبقى الحداد طويلا
وحجي إلى قبر الفقيد ورددي
ثناه فقد ذاع الثناء جميلا
وفي كل عام عيدي يوم وضعه
وضجي ونوحي يوم مات عليلا
وإن قام تمثال يشير لمجده
فقد شاده الثاوي الكريم أثيلا
فيا مصر إن لم ترجعي شخص مصطفى
كما كان عاد الجسم منك نحيلا
ويا عين إن لم تبصري شخص مصطفى
كما كان خلت النور فيك ضئيلا
ويا عصر عباس إذا اليوم لم يعد
خطيبك قلت الخطب صار وبيلا
ويا حزبه شق القلوب لفقده
قليل وإنا لا نريد قليلا
ويا حزب إن لم تحمل اليوم حمله
وهيهات أصبحت الغداة هزيلا
غبريال إبراهيم
الراهب بدير الأنبا بيشوي
وما أقام حافظ في ذلك الدير قليلا حتى عمل على اكتساب ثقة نيافة أسقفه الفاضل الورع، فغدا بدهائه موضع ثقته ممتازا على غيره من الرهبان في معاملته كما امتاز عليهم بعلومه ودهائه.
ومما أتاه من الأعمال المبرورة في ذلك الدير ليذاع فضله بين الرهبان ويعتقدوا والأسقف بصلاحه وتقاه أنه أظهر لنيافة الأسقف افتقار الرهبان إلى العلم الصحيح؛ لأن غالبهم إن لم تقل كلهم لم يأخذوا من العلوم إلا قشورا لا تغني ولا تفيد، واقترح عليه إنشاء مدرسة خاصة لهم يعلمون فيها اللغة العربية واللغة القبطية وبعض اللغات الأوروبية ليكونوا على بينة من أمور دينهم ودنياهم.
ونظرا لما فطر عليه نيافة أسقف دير أنبا بيشوي من حسن النوايا وحب الخير للرهبان أجمعين، أحل اقتراح الراغب غبريال إبراهيم أو حافظ نجيب محلا كبيرا وأثنى على فكره الصائب وعمله على ما فيه خير إخوانه من العابدين والزاهدين، ثم طلب إلى حافظ أن يشرع في تأسيس هذه المدرسة فعلا وإحضار المعلمين اللازمين مع ما تحتاج إليه من الكتب والأدوات، فشمر عن ساعد الجد إنفاذا لرغبة نيافة المطران، وذرا للرماد في العيون، حتى لا يسيء أحد فيه الظن ولا ينصرف فكر إخوانه إلا إلى أنه من خيرة التقاة الصالحين.
وقد تبرع حافظ بإلقاء الدروس اللازمة في هذه المدرسة بلا مقابل إفادة لإخوانه، وأخذ يلقي عليهم مبادئ اللغة الفرنسوية وفلسفة الدين المسيحي، ولو قيل هذا عن رجل غير حافظ نجيب لما صدقه إنسان لاستبعد صحته كل واحد من القارئين، ولكن حافظا أبو المعجزات ورب كل غريبة وعجيبة، ولهذا أظهر اقتدارا مدهشا في تعليم الرهبان قواعد الدين المسيحي السامية ولا بدع، فهو متمكن من هذا الدين؛ لأنه ربيب طغمة الفرير الذين يدرسون التعليم المسيحي جميع التلاميذ على السواء.
بل إن حافظا برز على المسيحيين بين إخوانه الطلبة؛ لأنه منذ صغره شب على الدهاء والمكر، فكان يحتال على بعض الفرير المدرسين بأنه مغرم في الدين المسيحي، وأنه عازم على اعتناقه مظهرا رغبا كبيرا في التبحر فيه والتضلع منه، فكان أساتذته يحسنون معاملته ويهدونه من حين إلى آخر عدة هدايا نفيسة ترغيبا له في إنفاذ وعده، فكان حافظ يأخذ تلك الهدايا شاكرا لسانه ضاحكا في قلبه من صفاء سريرة المدرسين من أولئك الإخوة الطيبين.
ومما زاد الفرير تعلقا به ما رأوه من ذكائه ونباهته، وما كان يقول لهم من أنه ابن غني كبير يملك الألوف من الجنيهات، ولا وارث له سواه، فهو إذا ما اندمج في سلكهم آل كل ذلك الإرث العظيم إلى طغمتهم غنيمة باردة ولا مراء.
وقد استعان حافظ أيضا على تلقين الرهبان التعليم المسيحي بالكتب الفرنساوية الكثيرة التي وضعها الجزويت والفرير لإفادة الطالبين، فظن الرهبان أجمعون أن حافظا من كبار علماء اللاهوت وأنه في النصرانية من الأساتذة المبرزين.
ومن ذلك الحين غدا حافظ أو الراهب غبريال موضوع إجلال وإكرام الرهبان أجمعين، ولقد تمكن بعد ذلك من الاحتيال على ساكني ذلك الدير النائي، وأخذ مبلغ عظيم بحيلة نادرة لا محل لذكرها الآن؛ لأنها ستكون فاتحة الجزء القادم مع تلك الحيلة الغريبة التي أتاها على نيافة أسقف دير المحرق مما سيدعو إلى دهش جميع القارئين.
وقبل أن ينتقل الراهب غبريال إبراهيم من دير الأنبا بيشوي إلى الدير المحرق، حدثت بينه وبين أحد وعاظ الأقباط مناظرة أدبية نأتي على بعضها دليلا على اقتدار حافظ نجيب في عالم الأدب، وإظهارا لبراعته في صناعة التحبير.
ذلك أن حضرة الأديب حبيب أفندي شنودة واعظ أقباط أسيوط راعه أن يكون داخل الأديرة القبطية راهبا أديبا مثل الراهب غبريال ولا يعمل على خدمة طائفته، وظن أنه طامح إلى رتبة أسقف، فبدد له هذا الأمل لأسباب واضحة كلها في الرسالة الآتية التي كتبها ذلك الواعظ الأديب إلى بطل كتابنا حافظ أفندي نجيب في 24 فبراير سنة 1908 على صفحات الوطن، قال:
من الواعظ إلى الراهب
عزتلو الفاضل صاحب الوطن
اسمح لي أن أسطر على صفحات جريدتك الحرة هذه الكلمات التي أحرجت صدري وجعلتني في موضع الحائر المندهش، فقد قرأت القصيدتين الشعريتين اللتين جادت بهما قريحة راهب الدير في رثاء فقيد الوطن مصطفى باشا كامل، فأخذني العجب من كل جانب وقلت في نفسي إذا كان هذا الراهب الشاعر من سكان الأديرة حقيقة، فما الذي أثار فيه ثائر الوجد والحزن وهو في داخل «صومعته» بعيدا عن مشاغل هذا الكون، عاملا آناء الليل وأطراف النهار على التعبد والسجود، لا يلهيه عن ذلك لاه، ولا يشغله شاغل، وهو يعلم - حفظه الله وأبقاه - أن أهل العالم أحق من سواهم بأن يبكوا بعضهم بعضا ويرثوا بعضهم بعضا، وأما هو فقد زهد في العالم واحتقر الحياة الزائلة وفضل أن يكون قريبا من الملأ الأعلى بأصوامه وتهجداته وعبادته، ثم إذا كان هذا الراهب قادرا على النظم بمثل ما رأيت وكان رقيق العواطف لهذه الدرجة، فلماذا لا يصرف ذكاءه وشاعريته إلى رثاء أمته القبطية التي يرى حالها أمامه مما تنفطر له المرائر: يرى معابد مهجورة، ومدارس قاصرة، ومجالس نائمة، وجمعيات خاملة، وأفرادا مفككة عصبيتهم، منحلة رابطتهم، يرى قسوسا ورعاة جهلاء لا علم في رءوسهم ولا حرارة في قلوبهم لرعاية القطيع المسلم إليهم، ويرى رؤساء مشتغلين بهموم هذا العالم وأباطيله، شغوفين بأمواله وزخارفه، ويرى أمورا أكثر مما ذكرت تستحق البكاء ويخلق بها الندب والرثاء. فلماذا لا يوقف هذه الموهبة الشعرية على نظم المراثي المحزنة التي تؤثر على القلوب لعله يعيد إلينا عهد أرميا، ومراثي أورشليم، فيلين لنا هذه الأفئدة القاسية التي قدت من الصخور؟
على أني لا أتمالك نفسي من الشك في وجود راهب بالأديرة كهذا الشاعر، ولو أني قد صدقت الوطن وما نشره من جواب رئيس الدير؛ لأني أعتقد أن أديرتنا كانت في الزمان القديم مدارس حافلة بالعلم والعلماء، وأما الآن فأضحت مدارس لتعليم الطباخة والخبازة والزراعة والأعمال الشاقة الخشنة التي لا يستطيع راهب متعلم أن يحتملها، بل إذا وجد راهب ذكي وقصد أن ينتفع بالدرس والمطالعة في الكتب النفيسة المذخرة في مكاتب الدير، وهي الآن طعام للعث والجرذان، لم يلق غير الامتهان والاحتقار من إخوانه الرهبان، وربما من رئيس الدير فيعيرونه بأنه طامح للأسقفية ويقضون على مواهبه شر قضاء - اللهم إلا إذا كان راهبنا الشاعر قد تعلم في المدارس العالية قبل دخوله إلى الدير، وفي هذه الحالة فإني أوجه إليه أشد كلمات العذل والتأنيب على رضائه بالبقاء في وسط منحط ليس فيه أقل واسطة لتشجيع ذي المواهب والمعارف الدينية والدنيوية، فهو عبارة عن قبر تدفن فيه صفات الذكاء الفطري والجد والعزيمة، وتنبت على جوانبه حشائش الخمول والجمود وقساوة الطباع وفظاظة الأخلاق، مع أن كثيرين من الرهبان هجروا الأديرة لسوء حالتهم، وهم الآن يطوفون البلاد ويجوسون خلال الديار فارين من وجه ذلك العيش الخشن والمعاملة القاسية، وبعضهم ترك الدير ساعيا وراء جمع المال، حتى إذا قضى منه وطره طلق البتولية وعاد رجلا علمانيا.
فاسمع يا أيها الراهب الكريم نصيحتي، واعلم بأنك إذا كنت بدخولك إلى الدير تطمح إلى رتبة أسقفية، لا تنال مرادك؛ لأن رؤساءنا يشق عليهم أن يروا في هذه الوظائف رجلا مهذبا متنورا مثلك لئلا يكون سلاحا ضدهم، ولذلك هم لا يرقون إليها إلا البارعين في التمليق والمداهنة ولو كانوا من الجهلاء - وإذا كنت تريد أن توسع مداركك وتهذب نفسك، فالدير لا يبلغك أمنيتك ولا يقضي حاجتك ولا يشفي أوامك ولا يبرد ظمأك - وإذا كنت تريد الشهرة وجميل الذكر فلا تبك على الذين استراحوا من عناء الحياة؛ لأنك من القائلين بالبقاء، بل تعال وابك حال أمتك وانظم أبياتك الشعرية في معنى تأخرها وانحطاطها لعلك تستطيع أن تنهض عزائمها وتبث فيها روح الحماسة والغيرة والشوق إلى الإصلاح العملي، فتقوم طالبة إياه وأنت أمامها تنشد الأشعار وتشدد القوى.
وأما إذا كنت أيها الراهب خيالا أو أرواحا جئت من عالم الأرواح لتسأل عن سلامة إخوتك في هذه الأديرة التي ينعق فيها بوم الجهل والعماية، فاذهب من حيث جئت وبلغ الذين أرسلوك بأننا في حال تستحق النوح والرثاء، وسلام عليك من.
حبيب شنودة
واعظ أقباط أسيوط
وما اطلع حافظ على هذه الرسالة حتى هزته عوامل الطرب؛ لأنها غدت من أكبر الأسباب التي تمهد له الظهور وهو كل ما يشتهيه من هذه الحياة الدنيا، وما كانت أعماله كلها إلا عن رغبة منه في الاشتهار بين العالمين بالاقتدار الغريب والذكاء النادر.
ولذلك عمد إلى قلمه وهو أطوع إليه من ظله، ورد على ذلك الواعظ ردا جميلا نثبته هنا بنصه قال:
من الراهب إلى الواعظ
تعسا لي أنا الضعيف الشقي، فررت من الحياة العالمية وأوصابها، وابتعدت عن ضوضاء الكون ومشاغله، وانزويت في هذه البرية النائية لكيلا تشوش علي جلبة القوم، ولا تلهيني ملاهي العالم وزخارفه. تركت كل شيء واحتقرت كل ما يظنه الغير لذة، وعفت كل ما يزعمونه مجدا وترفا، واقتنعت بهذا السكون المخيم على كل ما حوالي وهذا القفر الخالي إلا مما يدل على مجد الرب وقدرته العظيمة. فهل هدأ خاطري وسكن اضطراب قلبي وارتاح ضميري، وانقطعت عن الافتكار في العالم ومشاغله؟ هل صرت جديرا بهذا الاسم أحمله وبهذا الطقس يكون شعاري؟ هل أنا راهب بكل معاني الكلمة لا يبكتني ضميري على ذلة وتتعفف نفسي عن الخطية؟
الإنسان إنسان ما دام على الأرض ضعيف بطبيعته خاضع لأحكام البشر وإن اعتزلهم، معرض للسقوط في كل لحظة من حياته غير معصوم من الزلل، وله في كل يوم تجارب ودروس جديدة لا تنتهي إلا في ساعته الأخيرة.
هذا ما ناجيت به نفسي بعد أن اطلعت على رسالتك أيها الأخ الواعظ، ولست أدري كم كان أسفي لتلك الهفوة التي عرضتني لتقولات العالم وأحوجتني للخوض مع البعض في أخذ ورد. فانعم بك يا سيدي من واعظ كريم، فقد ألفت نظري إلى مركزي ورددتني عن سبيل لا يليق بمثلي، وسددت في وجهي بابا لو ولجت منه خرجت عن سواء السبيل. فتأكد أن العظة من هذه الوجهة كانت بالغة وحلت من نفسي مكانا ساميا وفي عزمي أن لا أعود فأطيع شعوري مرة ثانية، ولا أضعف لهذه العواطف التي تدفعني لمثل ما عيرت به.
وصدق إنني حاسبت نفسي قبل إرسال هذه الأبيات، فرأيت لها قصدا يحمد، فأقدمت غير هياب ولم يدر في خلدي أن هذه الدمعة تبقى ولا تضيع بين مثيلاتها. فعذري أن الفادح عظيم جزعت له الأمة المصرية عن بكرة أبيها، اللهم إلا من كان مجردا عن الشعور والإحساس وكان قاصرا عن إدراك فضل الرجل على أمته. وقد سرني ما رأيته من مشاركة الطائفة إخوانهم في الحزن على زعيم الحركة الوطنية، ومحيي الشعور والوجدان في هذه النشأة الجديدة المباركة. وتراني وطنيا أرفع صوتي مع أبناء طائفتي ندبا على هذا البطل، وأذرف لفقده الدمع السخين الدامي، فمن شأن أن يكون له هذه المنزلة في القلوب والمحبة في كل الأفئدة والتبجيل والإكرام عند مواطنيه، فليحذ حذوه وليتبع طريقه وخطته الشريفة. وكان غرضي من النشر أن أظهر عواطفنا لإخواننا في الوطن والمصالح، وتأثرنا لهذا الخطاب، وأبرهن لهم على اشتراكنا معهم في السراء والضراء، وهذا مما يقوي بيننا عرى الألفة التآخي.
وقد لاحظت علي يا سيدي أنني ابتعدت عن العالم ولم تعد لي علاقة به، فلم بكيت مع الباكين ولم رثيت مع الراثين، والجواب على ذلك سهل تراه إذا قلبت طرفك في أنحاء وادي النيل، ولم تجد أخا للفقيد في قوة الإرادة أو مثيلا في مضاء العزيمة والتفاني في خدمة بلاده منزها عن كل غرض. ولو وقع بصرك على من يحلف الثاوي ويحمل حمله الثقيل أكتب لي فأمسح دمعتي وأقصف قلمي وأخفت صوتي وأعود إلى سكوني الأول، ناعم البال وأختفي إلى الأبد. وأملي عظيم في رحمة الرب فهو لا يعاقبني ويسامحني في هذه اللحظات التي قضيتها في رثاء الصحافي الكريم.
وقد رأيتك تعجب وتسائل نفسك لم لا أصرف فكري إلى ندب ورثاء الأمة القبطية وهي في حال يشمت ولا يسر وأنها، إلخ، فاعلم يا رعاك الله أن الطائفة حية بمشيئة الرب خالدة إلى اليوم الأخير، ولا أظن أن الرب يسمح بموت من أتى لخلاصهم ووهبهم الحياة الأبدية.
وفي الناس من يقول إن هذه الحياة ظاهرة، وأن الطائفة وضعت قدمها على أول درج الحياة الراقية وابتدأت تسير على أثر الأمم الحية، وقد أصبح بعون الله بين أبنائها كثيرون ممن تعلموا ونبغوا وظهروا في مصاف الفحول والمقتدرين، لا تنقصهم إلا إرادة كإرادة مصطفى كامل، ويعوزهم عزمه وثباته وتفانيه في خدمة أمته، فترى الطائفة منهم خيرة رجال لعمل رقيها ولم شعثها وتقوية رابطتها.
وفينا من يقول إن الحياة كامنة غير ظاهرة، تحتاج لمن يبعثها وينشط بها من مكمنها، فقد طال عليها القدم، ولو عرف هؤلاء أن من أبناء الطائفة حضرة الواعظ البليغ وأمثاله لغيروا معتقدهم وعرفوا بخطاهم واتفقوا مع أصحاب الرأي الأول، على أن الطائفة حية تنمو وترقى بقدر ما تسمح به سنة الطبيعة والظروف السياسية الحالية، ولا تفتقر إلى الثبات والمحبة والإخلاص والتعاضد والتكاتف في هذا المعترك الحيوي. لا يعوزها إلا أمثال حضرة الفاضل ويراع كيراعه فيؤثر على القلوب الصخرية التي قال عنها. يؤثر على الحائدين فيردهم إلى أحضان الكنيسة أمهم الشفيقة الحنونة، يؤثر على الزائغين والمتكبرين فيهديهم سواء السبيل، يؤثر على كل أفراد الطائفة وعلى الأخص من سمت مراكزهم في الهيئة الاجتماعية فنسوا واجبهم نحو الله، يؤثر على الجميع فتمتلي بهم المعابد ويراها آهلة معمورة فلا يعود يذكرها آسفا حزينا.
ومتى سادت المحبة وأخلصت القلوب تزول كل أسباب الشقاق الذي يجزئ القوى فتضعف وتتلاشى. تزول كل أسباب التنافس وتتفاهم الرؤساء والأعضاء فترى الأمة كما تحب وتشاء. وجولة من قلمك أيها الواعظ المجيد وعظة من عظاتك البليغة، بل صيحة من صيحاتك تبعث في هذه الجمعيات روح الحياة العاملة وتوقظها من سباتها وتنشط بها من خمولها.
لا تيأس يا سيدي ولا تكتئب ولا تضعف نشاط نفسك بهذه التصورات، ولا تنظر للطائفة بمنظرك المصغر ولا من جهتها المعلولة، وابعث الأمل إلى الأفئدة والقلوب لتنتعش وتبتهج فتتقوى وتشتد، فبغير الأمل لا عيش ولا حياة.
سيدي الواعظ، لست أدري كيف طاوعتك نفسك ولم يعصك اليراع عند ذكر ما ذكرت بخصوص القسس والرعاة، هل فاتك وأنت المتعلم المهذب أن مقام الكهنوت جليل لا يرمى بمثل هذه المطاعن، ولو صحت وهو أرفع من أن يكون قلمي الضعيف محاميا عنه فاسمح لي أن أقتصر هنا على هذه الكلمة وأن أذكرك فقط بأن الرعاة ترعى الخراف الوديعة لا الذئاب الجارحة. وأما الرؤساء الذين نعتهم بما شئت فإنهم أقدر مني على تبرير أنفسهم، ولا أخالك إلا تضرب على وتر دق عليه كثيرون قبلك فباتت النغمة غير مقبولة، والعاقل الحكيم من لا يندفع لذم من ذمه غيره إلا إذا خبر الحال بنفسه.
وأما الدير ومشقة البقاء به والعيش فيه، فأراك غير عادل في التشنيع في أخلاق سكانه متحامل على من به، وربما خبرت نفرا منهم فشمت الجميع مثله. وإنك تتوهم أن قضاء الحوائج الضرورية للإنسان من خبز وإصلاح طعام وما أشبه مما يحط من شأن الرهبنة أو يجعلها شاقة خشنة لا تحتمل، أو يتعاظم عليها المتعلم المهذب وإن كان متنغما مترفها. فهل غاب عنك أن المرء في حاجة للطعام في كل بقعة من بقاع الأرض، فإن لم يجد من يقوم بتهيئته قضاء لنفسه. والراهب لم يقم بالدير ليتنعم ويخدم بل ليتواضع وينقشف ويترك كل أباطيل المجد الباطل والعظمة والكبرياء، فأتوسل إليك أن لا تصور الوسط الذي أعيش فيه بمثل ما صورته وأملته عليك مخيلتك وجسمه الخيال، فإن ما تراه قبرا تدفن فيه المواهب العقلية يراه مثلي ملجأ يفر إليه من شرور العالم، ويهرب إليه من ذلك الوسط المملوء بالمفاسد والمنكرات.
هذا المكان الذي تخاله يقضي على الذكاء الفطري والجد والعزيمة هو المكان الذي يتجرد فيه العقل من كل فكرة شيطانية خبيثة، ويتفرغ لإدراك الحقائق الغامضة وأسرار الكون الغريبة، هذا المكان الذي تظن أن حظ من يدخله الخمول والجمود هو المكان الذي يرد إليه الظمآن ويستقي ماء حياء من شربه لا يعطش إلى الأبد. والمرء إن كان ذا عزيمة ثابتة وإرادة قوية لا يحتاج للتشجيع الذي تفوه عنه، فهو ثابت بطبعه قوي بإرادته، ومحبة الرب والخوف منه تزيد الثبات ثباتا والقوة قوى.
ولا تظن أن الذين هجروا الأديرة وساروا يتطفلون على العباد ويعيشون عالة على الغير يلتقطون فتات الموائد، ويريقون ماء الوجه تطلعا وسؤالا، لا تظن أنهم عباد ولا تحسبهم رهبانا حقيقيين، فإنما هم إخوة الشيطان لم يطيقوا مع المؤمنين المجاهدين المتعبدين ثباتا ولا صبرا، فاندحروا وباءوا بالذل إلى حيث تراهم مرذولين محتقرين عليهم مسحة الخزي وغضب من الله عظيم. واللوم على الشعب الذي لا يرقى لهم وينزلهم بينه منزلا رحبا.
وانزع من فكرك «يا من توصيني» أنني أطمح للانخراط في مصاف المطارنة أو الأساقفة أو في أي صف من صفوف الكهنة والقمامصة، وأؤكد لك بل أعاهدك على أنني أرفض ذلك بتاتا ما حييت، وهذا وعد مني ولست أمين، وأما الشهرة والذكر الجميل فإنني تركتهما لمن يبتغيهما من الطامحين إلى الباطل، ولم يعد لي مطمح في البائد الزائل، ولا أرجو من الرب إلا أن يقويني ويثبتني على محبته وفي طاعته.
ولو كنت أنا الواعظ لاستعملت كل ما آتاني الله من المواهب لإحياء الأمل في القلوب ونزع أسباب الخلاف والنفور من بين أبناء الطائفة، لو كنت أنا الواعظ لأرشدت الأتقياء من المعلمين الأذكياء إلى طريق الدير وحببت إليهم الرهبنة فلا يعود لطاعن وجه للطعن على معلومات القسس والرعاة، لو كنت أنا الواعظ لما أضعت وقتا ثمينا في تثبيط عزائم ضعيف مثلي، ولكنت أكتب إليك أشجعك وأنشطك وأقوي عزمك، لو كنت أنا الواعظ لناجيت النفوس وحركت الضمائر لمعرفة الرب معرفة حقيقية، لو كنت أنا الواعظ لذكرت الشعب بجلل مقام الكهنوت ورفعته وأزلت من بين الفريقين سوء التفاهم، وقويت بينهما رابطة المحبة والسلام، ولكن ما كل ما يتخيله العقل يتحقق، فأنت أنت الواعظ، وأنا الفقير.
غبريال إبراهيم بدير الأنبا بيشوي
لا يسع المطلع على هذه المقالة الشائقة إلا الإعجاب ببلاغة الكاتب وقوة حججه، فقد ناضل خصمه نضالا محوره الأدب ولحمته الحكمة والسداد، فأقنعه وأقنع جميع القارئين، وهي خطة مثلى في المناظرة نرجو أن يتعلمها الصحافيون من حافظ نجيب.
ثم إنك إذا أمعنت النظر في مرامي المقالة المشار إليها، والمعاني التي وردت فيها، والطريقة التي كتبت بها، لا يسعك إلا القول بأن كاتبها مسيحي من صميم المسيحية، وراهب شب على حب دين المسيح ودخل إلى الدير زاهدا عن رغب منه في عبادة الله ونيل رضاه ليس إلا.
ولهذا لا بدع إذا اهتم له أدباء الأقباط وتضاربت بشأنه الظنون، لا سيما بعد أن خرج من معابد الله إلى معترك هذه الحياة ثانية، حتى اضطر أن ينشر على الأمة القبطية البيان الآتي تهدئة للخواطر وإزالة لكل الشكوك والشبهات قال:
اعتقد الجميع ورسخ في الذهن قصور الرهبان العلمي وضعف مداركهم، وثبت لدى الملأ استحالة العيش بينهم لتنافر أذواقهم وخشونة طباعهم، فغير عجيب أن يدهش مثلكم من وجود متعلم بين ظهرانيهم أو يلجأ إلى الدير غير معدم أو ذو طمع، ولا غرابة إذا أسأتم الظن فيمن ترك الحياة وملذاتها وزخارفها وانخرط في زمرة هي على زعمكم مسوقة بالفاقة والعوز إلى الاستكانة وراء الأسوار، فاقتنعوا من اللباس بما يطرح عن سواهم واكتفوا لسد أودهم بالكفاف، وإشباع بطونهم بفضلات ترمى إليهم بتأفف وضجر، ولا عجب إذ رأيتم عسيرا بل محالا إمكان العيش في وسط قاحل مجدب أو بين ضوار تأنست أو أقوام توحشت، حياتهم طعام فنوم، فنوم فطعام؛ لأن أناسا هذا شأنهم لا يألفون من كان على غير شاكلتهم وينفرون ممن آمنهم من ذوي الميزة والإدراك. فمن استكان وصبر ولو على مضض كان لعلة أو لسر أضمره، أقول لا عجب إذا أسأتم الظن وعددتم ترهبه نادرة في القرن العشرين.
إن رأي الطائفة بأسرها وصاحب الوطن على الأخص مشهور وذائع عن أمر الأديرة والرهبان، بل ليس في القطر من ينكر تأخر الإكليروس القبطي أدبيا وعلميا، وطالما ارتفعت الصيحات وتعدد الرثاء والندب على حال مصيره إلى أتعس مما نرى إذا لم توجد نهضة حقيقية من رجال الدين وأبناء الطائفة لترقية وتحسين هذه الطغمة، وقد تشبع أسقف الدير المحرق بهذا الفكر وعمل بلا جلبة ولا صياح على تربية وتعليم نشئه الحديث، فانخرط في سلك رهبنته عشرات يركن إليهم بعد حين، ولم يبغ نيافته شهرة ولا مجدا بل رمى لأسمى الغايات وأشرف المقاصد بلا جلبة ولا غوغاء.
ففي هذا الدير يمكن العيش بهدو واستثمار الفكر بالعمل والدرس بين أفراد، وإن لم يحصلوا كثيرا فهم أرقى الآباء وأكثرهم وداعة، فغير عسير على مثلي العيش معهم وقضاء بغيته أيام الحياة بين ظهرانيهم مستفيدا أو مفيدا، إلا أن الحياة لا تخلو من الأوصاب والشقاء لم يترك مكانا دون أن يطرقه ويزعج ساكنيه.
ولو لم أطلع على ما كتب الوطن أمس بشأني لما كتبت إليكم يا سيدي؛ إذ لم يكن بودي أن أخط شيئا تنشره صحيفة فيتحرك ساكن قوم تذهب أقلامهم كل مذهب، أغراضهم متباينة ومصالحهم متضاربة، فتأخذني الصيحات من كل فج وتحل علي اللعنات من رجال الدين وهم يسوءهم أن يرتفع صوت بصيحة حق أو يظهر امرؤ قضوا عليه بالصمت والجمود، ولكن ما ذيل الوطن عبارته به دفعني للكتابة فأنا مسوق مرغم.
كتب الوطن ما وصل إليه عن شخص محرفا أو محورا فوهم وأوهم، ونقب وظن، ولو تروى صاحبه فطلب مقابلتي قبل أن يكتب ما عن له لأحسن، ولكنه متحفز وثاب يهب للصغيرة والكبيرة، شغوف بجلاء الغوامض، فليسمح لي أن أذكره بأن كل خبر لا يستقى من مصدر محقق كان إذا أذيع أكثر ضررا من كتمانه، وربما آذى امرأ يود له الخير والفلاح. وليسامحني الفاضل إن رأى في كلماتي ما يمس رقيق عواطفه أو يجرح صدره، فإنني لم أقرأ رسالته إلا بعد أن تركت الرهبنة وتركت الدير، ولو كان حقيقة نقب كما ادعى واستسقى الأخبار من مصادرها لكان في علمه أنني حضرت إلى القاهرة من نحو شهر، وطلبت إلى نيافة أسقف الدير المحرق أن يجردني من شعار الرهبنة بعد أن كتبت إليه من أشهر رسائل بريدية وبرقية أكرر فيها نفس الطلب، ليس في وسعي أن أصرح بسبب ترك الدير حرصا على سمعته ومراعاة لعواطف نيافة الأسقف الذي لا أذكر له إلا كل حسنة.
قرأت كلمات الوطن أمس ليلا بعد أن حضرت بأمر نيافته فرابني الأمر، وتبادر لذهني أن اليد التي أرغمتني على ترك الدير والترهب هي التي تحرك اليوم الوطن مستترة عنه أو متحدة معه، ولكن ليهنأ بال الجميع فقد أخليت لهم المكان حيث لم أجد فيه الهدو المنشود وراحة الضمير والفكر التي ابتغيتها، والأرض واسعة الفضاء لا تضيق بمثلي، وأبواب العمل مفتوحة في وجه المجد.
وحذرا من تخبط الأفكار لاستنادها على المنقول، أرى من اللزوميات أن أجمل ما تهم معرفته عني مؤجلا زيارة الوطن لأيام ريثما يهدأ فكري وأرتب أعمالي وأثبت مركزي.
أنا شاب في بدء الحلقة الرابعة، تيتمت من والدي في صبوتي، درست كل أيامي بتولوز ولبثت بها ثلاثة عشر عاما، خرجت بعدها فنقبت عن رزقي وكفاف فتاتين كانتا أملي في الحياة ورجائي منها، وغالبت الشقاء تسعة أعوام كنت فيها ميسورا، وادخرت من كسبي ما يعين على المضض ويدفع الفاقة ويقضي الحاجة. واختطف الموت عزيزتي فشق الخطب وسئمت العيش، فالتجأت إلى الدير فلم أجد ما أنشده من الهدو والسكينة.
وخلق الحسد ووجد التنافس، فأزعجتني الدسائس وأحاقت بي إهانات توالت، فطلبت إلى نيافة الأسقف السماح لي بترك الدير فماطل وسوف ووعد وأمهل وخمن وفصح ووعظ، ولكن سواه غمز ولمز ودس وحرك الفتن، فتركت باختياري وسطا عيشه نكد ونعيمه شقاء وهدؤه جلبة، وحضرت أمس ليلا طوعا لأمر نيافة الأسقف وأنا أجله وأحترمه، ورأيت كلمة الوطن فعزوتها لغرض مهم، وفضلت الانزواء في داري عن مقابلة ربما تلجئني لما لا أحب، وكتبت للوطن الأغر أطمنه وأهدي روعه وأسكن جأشه، ولي معه كلمات ومقابلات ورسائل ربما كانت للصالح العام إن كان حقيقة ينشده، وأرجو منه أن يفسح لكلماتي مكانا في وطنه كما أفسحت لنفسي فنزعت رداء الرق والعبودية، وتركت واسع الأكمام لألبس زيي الإفرنكي غير حامل اسمي في البريد.
فيلوثاؤس
ولو شئت أن أورد في هذا الجزء كل ما حصل لحافظ في الأديرة القبطية، أو بالحري كل ما أتاه هذا المحتال القدير من الحيل المدهشة والأعمال الغريبة لاضطررت إلى جزء آخر غير هذا على الأقل، ولذلك أقف بالقلم إلى عند هذا الحد واعدا حضرات القراء الكرام بتفصيل تلاعبه المدهش مع حضرات نيافة الأنبا باخوميوس أسقف الدير المحرق والقس إيذيروس رئيس ذلك الدير وكاتبه المعلم إبراهيم وسائر رجال دير أنبا أنطونيوس ورؤسائه العظماء وغيرهم مما يضيق عن ذكرهم هذا المقام.
وسيكون لهذه الحكايات وقع غريب وتأثير عجيب على القارئين لا سيما لمناسبة ما حدث أخيرا من فرار نفر رهبان دير المحرق، مما ذاع وشاع وعرف به القاصي والداني من جمهور القارئين .
ومن غريب النوادر أنه كان لحافظ نجيب في فرار أولئك الرهبان اليد الطولى كما أثبتت ذلك جريدة الوطن الغراء في عددها الصادر يوم السبت 20 نوفمبر سنة 1909.
أما تفصيل تداخل حافظ في أمر أولئك الرهبان وكيفية وصوله إليهم، فما سيأتي عليه الكلام في الجزء القادم إن شاء الله.
من نوادر حافظ نجيب
يرى القارئ الكريم أنني لم أدخر وسعا في جعل هذا الجزء أحسن تسلية له في ساعات الفراغ، ولم أضن في سبيل إخراجه على أحسن ما يكون من جمال الطبع المشهور عن مطبعة المعارف.
ويلوح لكل مطالع من أول وهلة أنني لم أتعمد في كتابة هذا الجزء التهويل الذي لا يقبله عقل اللبيب الحصيف، ولم أنهج نهج الروائيين الغربيين الذين يجعلون الحبة قبة، والحمل جملا؛ لأنني تحاشيت الشرح الضافي الذي لا طائل تحته ولا فائدة منه لمعاشر القارئين، ورغبت عنه في إيراد الحقائق منزهة عن كل تزويق وتنميق، وهذا ما يريده القراء أجمعون ولا ريب.
وسأسعى في إصدار الجزء الثالث في القريب العاجل مزينا بعدة رسوم تمثل أبطال النوادر التي سترد فيه، راجيا من ذلك كله رضى القراء الكرام وتشجيعهم إياي على المثابرة في هذا السبيل عسى أن أكون سببا في إقبال سواي من الكتاب عليه، فيكثر بيننا جمهور الروائيين الشرقيين، ونعمد إلى إصلاح عاداتنا وتهذيب نفوسنا وإظهار معائبنا بروايات شرقية عربية خالية من رطانة العجمة وعادات الغربيين.
وإنني لأرجو من كل قارئ أن يوافيني بما يعلمه عن حافظ نجيب مما يكون قد خفي علي، وله الخيار في نشر اسمه أو إغفاله أو الإشارة إليه برمز من الرموز؛ لأنه قد وصل إلي أن كثيرين من الذوات والعيون والمستخدمين قد غشهم حافظ وأوهمهم أنه من كبار الأغنياء وعظماء المصريين تارة والسوريين طورا، مما لا يستبعد حصوله من نابغة في الاحتيال قدير كحافظ نجيب.
كتاب مفتوح إلى الصديق القديم حافظ أفندي نجيب المدرس بمدرسة الاتحاد الإسرائيلي سابقا
أيها الصديق القديم
اسمح لي أن ألقبك بالصديق القديم وإن لم تخلق جدتك الأيام؛ لأنك اليوم غير ما كنت عليه أمس، فقد عرفتك شابا وديعا يخجل لأقل كلمة كالعذراء الطهور، ويسعى سعي الأنبياء في خدمة الأدب ولا سيما فن التمثيل الجليل، ويبر بوعده حافظا عهود أصدقائه خادما لجميع عارفيه ومريديه، ذكيا لا يستخدم ذكاءه إلا فيما يعود بالخير العام ولو على طائفة من الأدباء المفكرين.
أما اليوم فقد تضاربت بشأنك الأقوال واختلفت الاعتقادات والمذاهب. «فمن قائل أو أمثاله قليل» إنك أحسنت في كل ما نسب إليك؛ لأنك عرفت كيف تنتقم من القدر الذي أساء إليك مع ما حصلته من العلم وما أوتيته من الحصافة والذكاء بالضحك من بعض البخلاء المقترين من الأغنياء المتنسكين لعبادة الأصفر الرنان، والبعض الآخر يقول: حبذا لو صرف حافظ نجيب ذكاءه ونشاطه إلى الأعمال الشريفة السامية، فهو لو فعل ذلك لأفاد واستفاد.
ويقول فريق ثالث: إن حافظا لم يأت ما أتاه من الأعمال المدهشة والنوادر العجيبة إلا عن رغب منه في إظهار ما فيه من المزايا النادرة، وطلبا لإصلاح البوليس السري الذي لا يزال حتى الساعة يبحث عنك وكأنه يبحث عن الغول أو العنقاء.
أما أنا فأقول: إن الخليق بك وأنت على هذه الحال أن تكفر عن كل ما أتيت بتسليم نفسك للبوليس، حتى إذا ما قضيت مدة سجنك عدت إلى عالم الجهاد خلقا جديدا، وخدمت العباد والبلاد بذكائك وإقدامك، بل إن في وسعك وأنت أنت الذي حير الألباب وأدهش المفكرين في اقتداره على الاختفاء عن أعين رجال البوليس أن تقضي السنوات اللازمة لسقوط حق رفع الدعوى عليك، ثم تعود إلى عالم الاجتماع ملكا طاهرا لا غاية له إلا خدمة بني الإنسان، بل إن في مكنتك أن تخدم الاجتماع وأنت طريد فتراسل الصحف بما يعن لك من الخواطر التي أملاها عليك الاختبار، فيكون لمقالاتك أعظم تأثير وأبلغ استحسان، وإنني لأنتظر منك أن تفعل ذلك، مقدما في الختام خالص تعازي للبوليس السري الذي عجز عن اللحاق بك وأدرك أن مثلك لا يشق له غبار.
هداك الله ووهبك من لدنه رشدا وغفرانا بمنه وكرمه.
جورج طنوس
অজানা পৃষ্ঠা