ولقد أحدث هذا الحزم في المعارك المعروفة بمعارك فرنسا ما كان يحدثه في أوائل عهده، فتعالت همة جنوده، وفعل في تلك المعارك بجيش صغير ما أدهش أوروبا كلها التي كانت متحالفة عليه.
على أن كثرة الأعداء وقلة إخلاص الرؤساء اضطره إلى التقهقر بعد أعمال لا يزال النقاد الحربيون يعدونها أسطع دليل على مواهبه العقلية السامية وعبقريته الحربية العظيمة، وعلى أثر هذا الفشل قرر أن يتنازل، وجمع قواده في فونتنبلو حيث جرى الوداع التاريخي الشهير قبل سفره إلى جزيرة ألب واعتزاله فيها، وقد رأى نابوليون الخيانة ممثلة في شخص المارشال مارمون الذي اتفق مع أعدائه، كما رأى الوقاحة ونكران الجميل ممثلين في جملة من قواده الذين غمرهم بنعمائه، فإن هؤلاء القواد الذين رفعهم نابوليون من الحضيض إلى أسمى المناصب لم ينبسوا بكلمة تدل على عطف أو أسف، بل قالوا له بلسان المارشال ماكدونالد الذي أنابوه عنهم في الكلام: «كفانا ما جرى ...» وقال له المارشال ناي: «يجب أن تكتب وصيتك فقد خسرت ثقة الجيش ...» ولما غضب نابوليون من هذا الكلام وقال له: «إن الجيش لا يأبى الطاعة في عقابك». أجابه ناي بوقاحة: «لو كان لك سلطان لما كنت أمامك الآن.»
وبعد أن مر المارشالية كلهم، استولى على نابوليون سخط شديد من تلك الإهانة وصاح قائلا: «إن هؤلاء الناس ليس لهم قلوب ... إن ما أظهره رفاقي في الجيش من حب الذات ونكران الجميل بلغ مني ما لم يبلغه سوء الطالع.» ثم تعاظم في نظره هذا الانحطاط الإنساني وكره الدنيا وما فيها، وأراد أن يسم نفسه، فأخذ برشامة مملوءة من السم كان يعلقها في رقبته منذ سنة 1808 حتى إذا وقع في أيدي أعدائه وعمدوا إلى تعذيبه أخذها وودع الدنيا، ولكن الطبيب ما لبث أن جاء مسرعا عند ظهور أعراض السم فأنقذه، ولما أفاق قال لكولنكور: «لم يشأ الله أن أموت! ... وليس فقدي للعرش بالسبب الذي جعل حياتي لا تطاق، فإن أعمالي الحربية تكفي لمجدي، أتدري أي شيء أصعب على النفس من سوء الطالع؟ أتدري أي شيء يفطر القلب؟ هو الانحطاط الإنساني ونكران الجميل إلى حد هائل ... هو الذي جعلني أكره الحياة وأنفر منها.» •••
ثم سافر نابوليون إلى جزيرة ألب بين مظاهر العداء التي قام بها العامة، وفي 3 مايو من تلك السنة أي سنة 1814 ارتقى إلى العرش لويس الثامن عشر البوربوني، وفي 4 يونيو أعلن دستوره، على أن ارتقاء هذا الملك على أيدي الأعداء الذين غزوا فرنسا، لم يلبث أن صار موضوع الكره والانقباض، ولا سيما أن المهاجرين عادوا مع الملك الجديد، وأخذوا يحاولون تقويض ما صرفت فرنسا في سبيله خمسا وعشرين سنة، وما قاتلت من أجله أوروبا كلها، وبلغت الوقاحة بجماعة منهم أن حطوا من شأن الانتصارات العظيمة التي كللت جبين فرنسا على يد نابوليون، وكأنما الدهر أبى إلا أن يعاقب أولئك القواد العظام على سوء سلوكهم مع نابوليون في أواخر عهده، فقرر الملك الجديد إبعادهم، وتعيين شبان ليس لهم إلا شرف المحتد بدلا منهم، وأشد ما أدمى عيون أولئك الأبطال أنهم أخذوا يرون «وسام الشجعان» يعطى يمينا وشمالا مع إنهم لم ينالوه إلا بعد ما استهدفوا ألف مرة للموت، وأشد من كل ما تقدم أن جماعة من الذين حاربوا تحت رايات الأعداء نالوا حسن الجزاء، وأن الحكومة الملكية الجديدة تنازلت للمتحالفين عن 58 موقعا حصينا و1200 مدفع و42 سفينة لا يقل ثمنها عن مليار ونصف، وما انقضى العام على الملك الجديد حتى ظهر الاستياء العام في مظهر شديد.
وفي تلك الأثناء كان نابوليون مستلما إدارة الجزيرة، فما مضت بضعة أشهر حتى ظهرت آثار الإصلاح في أبهى مظاهرها، وشعر أهل الجزيرة بأن يدا جديدة مصلحة أخذت تعمل وفكرا سديدا أخذ ينتج، فمن إصلاح الطرق إلى إصلاح التعليم إلى إنهاض التجارة والصناعة وغيرها حتى عمت تلك الروح جميع أنحاء الجزيرة.
وكان نابوليون في الوقت ذاته يستطلع طلع فرنسا، ويتنسم أخبارها من وراء البحر، فعلم أن سخط الأمة من الحكم الملكي الجديد أخذ يشتد ويتفاقم؛ لأن الحكومة عمدت إلى الإرهاب فنشرت الجواسيس في كل جهة وصوب لاكتشاف الذين أقاموا على حبهم للعهد البونابارتي، أو على كرههم للأعداء الذين دخلوا فرنسا وأجلسوا الملك البوربوني على العرش.
فلما رأى نابوليون تلك الحال قرر ترك الاعتزال، وفي 26 فبراير سنة 1815 أبحر من الجزيرة مع جملة من رجاله القدماء على المركب «أنكونستان» عائدا إلى فرنسا، وبينما كان مبحرا أبصرته البارجة زفير، فتقدمت نحوه للاستيضاح، ولما أبصرت راية جزيرة ألب سألت عن نابوليون فأجاب نابوليون نفسه: «إنه على ما يرام.»
وفي أول مارس سنة 1815 نزل نابوليون إلى الأرض الفرنسوية من جهة خليج دون جوان وأصدر إلى فرنسا منشورا قال فيه:
أيها الفرنسويون، إن ما تقرر بلا رضاكم لا يعد شرعيا، ويا أيها الجنود، أترضون أن تقيد نسورنا بأيدي الذين قضوا خمسة وعشرين عاما وهم يطوفون في أنحاء أوروبا؛ ليثيروا علينا الأعداء، والذين حاربوا الفرنسويين تحت الرايات الأجنبية؟ فهيا إذن إلى رئيسكم واجتمعوا تحت لوائه، فإن وجوده من وجودكم، وحقوقه ليست إلا من حقوق الأمة وحقوقكم، ومصلحته وشرفه ومجده ليست إلا مصلحتكم وشرفكم ومجدكم، إن النصر سيأتي على جناح السرعة، والنسر الإمبراطوري بألوانه الوطنية سيطير من قبة جرس إلى أخرى حتى يبلغ نوتردام.
ثم واصل نابوليون السير بعد هذا المنشور، فلم ير حائلا يحول دون تقدمه حتى صار على مقربة من مدينة جرينوبل، فوجد هناك ألايا من الجند أمرته الحكومة بأن يسد الطريق عليه، فما كان من بطل أوسترليتز إلا أن نزل عن جواده وتقدم نحو الجنود فاتحا صدره وقال لهم: «أبينكم من يريد قتل إمبراطوره؟» فحولت الجنود سلاحها وصاحت بصوت طبق عنان السماء: «ليحي الإمبراطور»، ثم أخرجت الشارات المثلثة الألوان التي كانت تخفيها في جيوبها وسارت مع نابوليون ، ولما وصل إلى جرينوبل أخذ أهلها يفتحون الأبواب بأيديهم، ثم تقدم نابوليون إلى ليون واستولى فيها على السلطة الفعلية، فلما طار الخبر إلى الملك انخلع قلبه رعبا ودعا إليه المارشال ناي وكلفه أن يذهب بقوة كافية لصد نابوليون، فوعد المارشال «بأن يأسر المغتصب» كما قالوا، ثم زحف بالجند إليه فما أبصره ونظر إلى قبعات حرسه التي ذكرته بألف نصر حتى اغرورقت عيناه بالدموع وتهافت بين ذراعي نابوليون فضمه إلى قلبه، وعاد الجيش الذي أرسله الملك البوربوني لأسر نابوليون حرسا فخما له، واضطر لويس الثامن عشر إلى الهرب خوفا على عنقه، وفي 20 مارس دخل نابوليون قصر التويلري بدون أن يطلق رصاصة واحدة على فرنسوي.
অজানা পৃষ্ঠা