صدحت الموسيقى معلنة إقلاع جهاز الكمبيوتر، جلس أمامه وراح يتفقد، كما يفعل كل صباح، سجلاته الخاصة بالاستعارة، ليعرف أسماء الزبائن الذين عليهم إعادة الكتب اليوم. ظهر أمامه اسمها وحيدا، تذكرها تماما فهي من ذلك النوع الذي يطلق عليه «زبونة مستدامة»، إنها لا تسبب المتاعب أبدا، ولا يمكنها أن تدفع كثيرا، لكنها بالتأكيد ستفيده على المدى البعيد ولن تذهب إلى غيره؛ فقد عرف بالضبط نوعية الكتب التي تفضلها، وفهم نفسيتها جيدا؛ فبخلاف بعض الصبايا الحسناوات اللاتي يتخذن من الكتب ذريعة لهن لرؤيته واستمالته بمحاولاتهن المكشوفة، فإن هذه مختلفة، إنها تأتي إلى المكتبة لسببين اثنين : إنها تقرأ حقا، لكنها بقدر ما تنجذب إلى الكتب فهي منجذبة إلى سحر عباراته الغامضة التي يعرف كيف يلقيها أمامها مع لمسة خفيفة من ابتسامة حلوة.
لم ينتظر طويلا؛ فقد اقترب موعد حضورها، إنها دقيقة جدا ومنظمة؛ فهي تعيد كل الكتب في موعدها المحدد، التاسعة والنصف صباحا، كما أن الكتب تعود وكأنها لم تمس، وهذا نادرا ما يحدث مع الزبائن الآخرين.
تسلم الكتب منها، شكرها بلباقته المعتادة، تصفح الكتب متظاهرا أنه يتفقدها، أخفى رأسه خلف شاشة الكمبيوتر، انتظر دقيقتين وهو يمثل تقليب نظره فيها، ثم نظر إليها أخيرا وقال وهو يعلم تماما من هي: «سما صايغ؟» أومأت رأسها بالإيجاب، أخذت تعصر يديها، وتنشغل بالنظر يمينا وشمالا، راقبها مستحليا ارتباكها، ضغط بضعة أزرار على الكمبيوتر، ماطل قدر ما يستطيع، فتح درج مكتبه، أخرج هويتها وأعادها إليها.
أخذتها وهي تشكره، التفتت تنظر إلى الكتب، خطت إلى الداخل بضع خطوات، لم يلاحقها كعادته مع الصبايا الأخريات، كلا إنها ليست من هذا النوع. انتظرها دقائق، فعادت بكتابين، قالت وهي تعرضهما له: «بأيهما تنصحني؟» رفع كتفيه مبتسما وقال: «لا يمكنني المزاودة على ذوقك الجميل في اختيار الكتب، ثم إن لكل قارئ عشقه الخاص.»
6
في صباح أحد الأيام كنت متحمسة جدا لألتقي جدو نور حتى أخبره بما حدث معي في الدرس الديني، وما توصلت إليه، لكنني تذكرت أنني لم أقرأ بعد الرواية التي أعارني إياها، استللتها من الدرج وأخذت أقرأ: «الخيميائي»، تذكرت أن جدو نور قال إنني سأحب هذه الرواية، وإن كاتبها برازيلي. أغمضت عيني وأخذت أتخيل كتابا يخرج من البرازيل ويطير عاليا ويعبر المحيطات والقارات ليصل إلي، ابتسمت وفتحت عيني وبدأت القراءة. كانت الرواية ساحرة بكل جزء منها، وكلما توغلت فيها أكثر ازداد تعلقي بها وشوقي إلى إنهائها على الرغم من أعمال المنزل واضطراري إلى تركها مرات كثيرة؛ فقد زارتنا عمتي وأولادها في ذلك اليوم، كنت أحضر لهم القهوة والكتاب بيدي، أريد أن أعرف ماذا حدث؟ وكيف؟ ولماذا؟ شدتني أجواء الرواية السحرية، وأسفار الشاب «سانتياغو » ومغامراته وخساراته، والعلامات، والأسطورة الشخصية، كان كل شيء يبدو لي رائعا مثاليا. كنت أحسد الشاب على حريته في حياته، على أسفاره ومغامراته، وأنه امتلك الشجاعة ليلاحق حلما رآه في النوم.
لم أتمكن يومها من الذهاب إلى جدو نور فعمتي لم تغادرنا حتى وقت متأخر. وأنا لم أكن أريد الذهاب إليه حتى أكمل الرواية التي لم يتسن لي إنهاء قراءتها حتى أوى الجميع إلى النوم. أعجبتني كثيرا، وأخذتني إلى عالم جديد رائع، ورغم إعجابي الشديد بها، فإنني في الوقت نفسه شعرت بالظلم وبالأسف على نفسي، ماذا لو أنني تمكنت من السفر يوما ما وحدي؟! لو كنت شابا لفعلت ما يحلو لي، كنت سأجوب العالم سعيا وراء حلمي، لكن أي حلم؟ ما هي «أسطورتي الشخصية»؟ فكرت كثيرا وعزمت على أن أسأل جدو نور غدا عندما أذهب إليه.
وحين حل مساء اليوم التالي، أخبرت أمي أنني سأزور جارنا، قالت: «كلا، لن تذهبي؛ فعمتك ستأتي اليوم.» أجبت باستياء: «مجددا؟ لكنها كانت عندنا البارحة.» قالت أمي مبتسمة: «نعم، وسيأتي ابن عمتك أيضا، تعرفينه، إنه هنا في إجازة من عمله وبعد أسبوع سيسافر، هو مستعجل جدا وجاهز تماما.» قطبت جبيني أحاول استيعاب ما قالت ثم سألتها: «مستعجل على ماذا؟ وجاهز لماذا؟» أمسكتني أمي من يدي وجلسنا، وقالت: «ألم تعرفي بعد يا حبيبتي لماذا زارتنا عمتك البارحة واليوم أيضا؟» ولما لم أجب أكملت: «ابن عمتك يعمل منذ أشهر في قطر، وأحواله من حسن إلى أحسن، وهو هنا الآن في إجازة ليتزوج واختارك أنت عروسا له، وهذه أفضل فرصة لذلك؛ فأخوك سعيد هنا أيضا، وفرحتنا ستكتمل ونحن معا.» صدمتني كلماتها وفاجأتني كثيرا، وأول ما خطر لي حين تذكرت سامر ابن عمتي نفوري منه، قلت لأمي: «ذلك المتعجرف البغيض؟» عضت أمي على شفتيها محاولة إسكاتي، وتلفتت حولها خوفا من أن يسمعني أبي. وقفت غاضبة وقلت: «ومن قال إني أريد الزواج؟» أمسكتني أمي من يدي وأرغمتني على الجلوس وتفحصتني بعينيها وقالت: «وهل هناك فتاة شابة جميلة مثلك لا تريد الزواج ؟ أتنوين أن تعيشي حياتك كلها من غير زوج وبيت وأولاد؟» أجبتها: «لم أقصد هذا، وإنما لا أفكر الآن بالموضوع، ثم إن سامرا بالتحديد لا يروق لي، بل على العكس أجده ثقيل الدم ومتعجرفا جدا.» أجابتني أمي: «إنه لطيف صدقيني، ثم إنك ستحبينه بعد الزواج، أؤكد لك ذلك.» قلت: «آه، نعم صحيح!» ثم وقفت قائلة: «أريدك أن تخبري عمتي أن تبحث لابنها عن عروس غيري.» وتوجهت إلى غرفتي وأخذت الأفكار تجتاح رأسي من كل جانب. تذكرت ذلك الشاب ذا الشعر الداكن الذي كان يعيرني الكتب، لم أكن قبل هذه اللحظة أفكر في الزواج منه، كنت أتشوق لرؤيته فحسب، كان يمثل لي الكمال والجمال والسعادة، لكنني الآن تمنيت لو أنه يأتي ليخطبني من أبي، حتى أذهب معه بعيدا عن الجميع، لكن كيف لهذا أن يحصل وقد مضى أكثر من عام على رحيله عن حارة بيتنا؟ كان الشعور بالقهر يخنقني ويخلف مرارة في حلقي، فعزمت بيني وبين نفسي أن أبحث عنه مهما كلف الأمر.
وما هي إلا دقائق حتى انفتح الباب ودخل أبي مسرعا وقرأت في عينيه الغضب، عدلت من جلستي، وأخفيت دمعتي، فقال: «صحيح ما سمعته؟ ما تريدين ابن عمتك يا بنت؟» لم أعرف بم أجيب؛ فقد كان موضوع الزواج يحرجني، وخاصة بحضور أبي. صمت برهة، كان صوته يترك صدى رهيبا في الغرفة. أخذت نفسا عميقا وقلت: «ليس عندي شك في محبتكم لي وتعرفون مصلحتي، لكن أبي، أيرضيك أن تجبرني على الزواج؟ وهل هذا عمل يرضي الله؟» تفاجأ أبي وظل صامتا لحظات، وكأنما هدأ قليلا فتركني وخرج وهو يتمتم، وبقيت وحدي أحاول أن أتنبأ بما سيحدث.
في المساء جاءت عمتي ومعها زوجها وابنها، وفي غرفة الضيوف جلسنا معا كلنا، أبي وأمي وسعيد ونادر وأنا، شاهدت على الطاولة باقة من الأزهار الجميلة. استرقت النظر إلى سامر، كان يرتدي بزة رسمية بربطة عنق حمراء، وكان يضرب على الأرض بكعب حذائه اللامع. كانت أمي تحدث عمتي، وأبي يحدث زوجها وابنها، وكنت أنا جالسة بجوار أمي ، لم أكن أسمع حديث الرجال فقد كانوا بعيدين عني قليلا. حاولت التركيز في حديث أمي وعمتي التي لم تتوقف عن الكلام، وكانت أمي تهز رأسها فحسب، سمعتها تتحدث بلا توقف عن الحياة في قطر، وعن الرفاهية في السيارات والقطارات والأسواق والمهرجانات، وعن الهدايا التي يجلبها لهم ابنها من هناك. شعرت بملل شديد، قمت إلى المطبخ فلحق بي سعيد، سألني: «ما بك؟ هل تشعرين بما أشعر به؟» قلت: «وبم تشعر؟» قال: «بالملل الشديد، من عمتك التي لا يهدأ لسانها، ومن ابنها المتحاذق، ومن أبيه الأحمق.» ضحكت من وصفه لهم، وسررت لوجوده إلى جانبي وإحساسه بي، وشعرت في داخلي بالامتنان الكبير له، حينها دخلت أمي وقالت: «القهوة، أسرعي بها.» شرعت بإعداد القهوة، وظل سعيد معي يدعمني وجوده، وحين حملت الصينية لأخرج، حملها عني وقال: «أنا سأقدمها لهم، وأنت عليك أن تكوني قوية وسأكون إلى جانبك، تأكدي من ذلك.» أخذت نفسا عميقا وشعرت بالراحة والقوة ومشيت خلفه ودخلنا الغرفة.
অজানা পৃষ্ঠা