الشغف، كان يحدثني بكثير من الشغف، رأيت في عينيه فخرا وولعا كبيرين، حدثني أنه كان يتردد إلى المتحف منذ طفولته مع عمه الذي كان يعمل محاسبا فيه. حكى لي عن المرات العديدة التي امتطى فيها ظهر تمثال الأسد، وعن الأماسي الصيفية التي قضاها يسبح في بركة المتحف مع أبناء عمه. حكى لي عن تماثيل الآلهة التي تسير ليلا وترعب الحراس، وخاصة تمثال الإله تيشوب. أراني تمثال ربة الينبوع والماء الذي ينبع من يديها، وحكى لي عن «المدامع» التي هي آنية زجاجية كان يحتفظ فيها الناس بدموعهم التي ذرفوها على موتاهم كنوع من الذكرى.
كان المتحف مليئا غنيا، لم أكن أتصور أنه بمثل هذا الغنى والجمال. رأيت تمثال الأسد العجيب الذي يوحي أنه واقف ويمشي في الوقت نفسه، ثم قادني إلى تمثال مضحك لرجل يعقد يديه على صدره في هيئة الصلاة، تحداني أن أشبك يدي كما يفعل، فلم أستطع. أراني قوالب لصنع الخبز، أخبرني كيف كانوا يصنعون رغيف الخبز مزينا برسومات لحيوانات وأشكال مختلفة. حدثني عن ميل الإنسان للجمال منذ القدم، وكيف أن هذا المكان يجمع خلاصة الأسلاف وحكاياتهم وأحلامهم وفنونهم أيضا، ربما ما كانوا يتخيلون في يوم من الأيام أن هذه الآنية مثلا التي يستخدمونها في حياتهم اليومية ستشكل لنا كنزا تراثيا، من يدري ماذا يفعل الزمن؟ حكى لي عن طاقة الإنسان الكبيرة في تطويع كل المواد المحيطة به مهما هانت أو قست لخدمة غاياته وحاجاته؛ الطين والحجر، الذهب والفضة، البرونز والبازلت، وغير ذلك كثير. كانت تحركاته كملك في قصره، وكلماته كعاشق عن معشوقه، ونظراته كفنان لعمله. كان يحكي بلا توقف عن ذكرياته في كل ركن وزاوية، أمام كل قطعة وحجر، كل واحد منها له في ذاكرته قصص وحكايا. حدثني أنه حين صار يافعا تمكن من الحصول على عمل في هذا المتحف مما زاد من تعلقه به ووقته الذي يقضيه فيه.
شعرت معه أنني في عالم منفصل تماما عن الواقع، خاصة أن المتحف خال تقريبا من الزوار. وحين انتهينا من القسم الأخير من المتحف وهو قسم الفن الحديث، قال: «تعالي سأريك شيئا.» مشيت خلفه طواعية، وهل أملك غير ذلك؟ نزلنا درجات السلم إلى الطابق الأول، فالطابق الأرضي، وأكملنا نزولا إلى القبو، وقد بدأنا ننغمس في البرودة والظلام درجة درجة. توقفت وقلت: إلى أين تأخذني؟ فلنصعد، لا أحب الأماكن المظلمة. - لا تخافي أنا معك، ثم إن الظلام هنا فقط، صدقيني، المستودعات في الأسفل مضاءة بالكامل من النوافذ، فالنهار في أوله. - هل يسمح لنا بالدخول إلى المستودعات؟
عندها أخرج مجموعة من المفاتيح ورفعها في وجهي وقال: هل نسيت أنني موظف هنا؟
تابعنا النزول والظلام يزداد ورائحة الرطوبة تتسلل إلى أنفي فعطست مرارا، وقد بدأ قلبي ينقبض، مشينا في ممر طويل، انعطفنا يسارا ثم يسارا مرة أخرى، توقفنا عند باب حديدي مقفل. أخرج المفاتيح وطلب مني تشغيل جوالي لأضيء له المكان قليلا، فتح الباب فأصدر أزيزا عاليا، سرى تيار هوائي بارد فارتعدت، ودارت ببالي أسوأ الاحتمالات، ماذا أفعل هنا؟ كيف أضع نفسي في موقف كهذا؟ ماذا لو آذاني؟ لن يسمعني أحد، هل أعرف عنه شيئا؟ عدت خطوتين إلى الوراء وقلت: «أنا صاعدة.» لم أنتظر رده، عدت أدراجي في الظلام، انعطفت يمينا، ويسارا ثم يمينا، سمعته يناديني، وقع خطواته تبتعد ثم تقترب مني، فأبتعد عنه مجددا، ولا أجد السلم، تبا، ما هذه المتاهة؟ قبل لحظات كان هنا، تعاظم الخوف في قلبي، شعرت برغبة في البكاء، وبألم في معدتي، أخرجت جهازي لأنير الطريق أمامي أكثر، لاحظت أن التغطية ضعيفة جدا، يا للكارثة! مشيت مرة أخرى بهدوء أكبر، وخطوات أوسع، أخذت أتلفت يمينا ويسارا، ولا يزال صوته يتردد في الممرات يناديني.
وفجأة تذكرت المكان، هناك يمينا السلم المؤدي إلى الأعلى، ركضت باتجاهه، وقلبي يطالب بالنجاة، ولشدة ارتباكي وانعدام حذري انعطفت سريعا فارتطمت بشيء ووقعت أرضا، وجاءني صوته: «سلامتك سما سلامتك، ما بك؟ ماذا حدث لك فجأة؟ لماذا هربت؟ تعالي أساعدك، هل تريدين الصعود؟ لم لم تقولي، الله يسامحك، كنت دللتك على الطريق.» كان في عينيه الكثير من القلق، يا إلهي! ماذا أصابني؟ الحنان في صوته، اللهفة في كلماته سكبت على قلبي برد الاطمئنان، وفي الوقت نفسه أشعلت فيه طوفانا من العجز، لم أدر بعدها لم أخذت أبكي، كم كبير من المشاعر تفجر دفعة واحدة، غطيت وجهي وبكيت وأنا لا أزال على الأرض. وحين هدأت رفعت رأسي فوجدته جالسا أيضا بعيدا عني قليلا وهو يبتسم. وقف وأخذ ينفض الغبار عن سرواله، وقال: «هيا إلى الأعلى، من هنا، هل نسيت كيف جئنا؟» ودلني على الطريق وأنا أمشي خلفه مستسلمة تماما، غمرني إحساس بالخجل.
وصلنا إلى الطابق الأرضي فقادني إلى الساحة الداخلية المكشوفة، أشار إلى كرسي حجري وقال: «اجلسي، سأعود بعد لحظات.» كان الهواء منعشا فعلا، أخذت نفسا عميقا واستعدت ما جرى. كان كل شيء يبدو جميلا وخياليا حتى أصابني الخوف فجأة. عاد بعد لحظات جالبا لي ماء، شربت وظل واقفا، قلت: لا أعرف كيف أشكرك، أو أعتذر، لا أدري. - العفو. - لم لا تجلس؟ - أخاف. - من أي شيء؟ - أن تبكي مجددا.
ضحكت وقلت: «إن لم تجلس أنت، فسأقف أنا.» حرك يديه ثم جلس في المقعد نفسه مبتعدا قدر إمكانه عني. وسكتنا، وطال صمتنا، كنت مليئة بالامتنان له والحرج منه في الوقت نفسه. قطعت الصمت بقولي: أعتذر منك مجددا، لا أدري ماذا أصابني هناك في الأسفل، ربما الظلام أو الوحشة، أو لا أعلم. شعرت فجأة أن علي أن أرى النور. - لذلك هربت مني؟ - لم أهرب منك (سامحني على كذبي!) قلت في نفسي. - لا بأس، كنت أود أن أريك شيئا من ذكريات طفولتي في المستودعات. - ما هو؟ - لا يهم.
واصطدمنا بجدار الصمت مجددا، شعرت بالخطأ الكبير الذي اقترفته، لقد جرحته في الصميم، وسلبت منه الثقة. قمت لأستعيد شيئا منها وقلت: هيا تعال ننزل الآن، لم يفت الأوان بعد. - لا أعتقد أنها فكرة جيدة. - لماذا؟ هيا لا تحمل الموضوع أكثر مما يحتمل. - صحيح، أنا أحمل الموضوع أكثر مما يحتمل. - كلا أبدا، لم أقصد هذا، أنت على حق، أنا فعلت ذلك، لكنني اعتذرت منك، دعنا لا نختم يومنا الرائع هذا بالزعل. - أنا لست زعلانا. - بل أنت كذلك، هيا قم، أرجوك، ماذا علي أن أفعل كي ترضى؟
لم يقل شيئا، مشى صامتا إلى الداخل وباتجاه القبو مجددا، ومرة أخرى غطسنا في الظلام والرطوبة، فتح الباب الحديدي نفسه، وانتشر النور. كانت المستودعات عبارة عن صالات تشغل مساحات كبيرة، لا شيء فيها تقريبا سوى بعض الكراكيب المحشورة في الزوايا. دخلنا حتى وقفنا وسط المستودع، قال لي: «أحببت أن أشاركك شيئا من ذاكرتي التي مضى عليها ربما عشرون عاما، هنا بيت أسراري؛ فلا يعرف هذا المكان إلا القليل من الموظفين الذين رحل أغلبهم؛ فلا أحد يحب النزول إلى هنا؛ فقد أشيع أن بعض الأرواح تتنقل ليلا.» ابتسمت وتلفت حولي متخيلة الأرواح، فأكمل: «أترين هذه العلامات السوداء على الجدران؟ إنها آثار أيضا، أليس هذا متحفا للآثار؟» عجبت لقوله فابتسمت وقلت: «ماذا تقصد؟ آثار ماذا؟» أجاب: «آثار لعبي بالكرة عندما كنت صغيرا، كنت آتي إلى هنا ألعب وحدي أو مع أبناء عمي، وخلف لعبنا هذه الآثار.» كانت الجدران مليئة بالبقع السوداء، ثم أشار بيده إلى الأعلى وقال: «أترين تلك البقعة السوداء قرب السقف؟ إنها رميتي التي تفوقت بها على أولاد عمي في تحد لمن يرمي الكرة أعلى لكن بشرط ألا تلامس السقف.»
অজানা পৃষ্ঠা