كان الهدوء يلفنا، والتزم كل واحد منا بالصمت نؤازر به بعضنا، حينها فقط استرددت شيئا من رباطة جأشي، وهدأت الرعشة التي شلت حركتي، ورحت أتفحص المكان. كانت غرفة القبو المخصصة لبيت جدو نور، ربما خمسة أمتار في أربعة، في أعلاها شباك ضيق مغطى بقضبان حديدية يطل على الخارج، كانت باردة ورطبة قليلا، فيها سرير حديدي قديم، ومقاعد خشبية وطاولة، وصناديق من الكرتون، وعدة أدراج، ومكتبة صغيرة مملوءة بالكتب! «هنا أيضا!» قلت لنفسي، وبعض فرش الإسفنج ووسادات. كانت الأرضية مغطاة بحصر ملونة، وكان هناك رجل وزوجته وابنتاه اللتان توقفتا أخيرا عن البكاء، وامرأة في الخمسين من عمرها، وفتاة في عمري تقريبا مع أخيها. أسندت فاطمة على الوسادة، وقمت باتجاه جدو، أخبرته أني أريد العودة فلم يسمح لي، وأضاف: «قد نبات الليلة هنا.»
6
17 تموز، 2012م
التاريخ الذي قصم ظهورنا جميعا.
عجيب أمر هذا الإنسان، كل ما كان يجلب له مسرات الحياة يتحول في طرفة عين إلى منغصات لها ، إلى سكاكين حادة تحز ببطء ساخر أوتار قلوبنا المجهدة، فنتمنى ضربة قاصمة أو موتا رحيما لكنه لا يأتي، يظل يتفرج علينا متشفيا ربما، أو مستريحا من جولة صيد دسمة، مستجمعا قواه لقنص جديد. هنيئا للأموات، ويا حسرة على الأحياء!
السابع عشر من تموز، التاريخ الأسود الذي قلب حياتنا وحفر عميقا في قلب بيتنا الذي كان سعيدا، مزلزلا كل ركن وكل حجر وزاوية. كنت جالسة في الصالة أعمل بالكروشيه على حياكة مفرش لمكتبتي، وأمي كانت في اضطراب مبهم؛ فلا تلبث أن تجلس حتى تقوم وتنظر من الشباك، ثم تعود وتجلس، وكأن قلقا رحيما كان يجهزها للفاجعة، وفاطمة تلهو بعرائسها. وكالعادة تهادى إلى سمعنا دوي مدافع أو قذائف فلا فرق، أصوات صرنا نسمعها كل يوم ليلا أو نهارا، فندعو لمن سقطت فوق رأسه، ثم نكمل مشوار يومنا أو نغفو مجددا؛ فتكرار المصائب واختلاطها بتفاصيل حياتنا اليومية جعل من الفاجعة مثل نار التنور كلما حميت أكثر قست لها قلوبنا أكثر.
لكن أمي فزعت لذلك الصوت فزعا مختلفا، فراحت تتفقد قنوات الأخبار، لم أكن أجد مبررا لقلقها، ثم انقطع التيار الكهربائي، وأذن المغرب، وبعد أقل من ساعة أظلمت الشوارع إلا من وميض بعض السيارات المارة التي تلقي بشيء من أنوارها داخل البيت فيضاء للحظات ويغرق مجددا في العتمة. عندها طرق الباب طرقا خفيفا، حسبت أني واهمة، تكرر الطرق بصوت أعلى، ركضت أمي وكانت تصلي المغرب، مرتدية ثياب الصلاة قالت من خلف الباب: «من؟» رد الصوت: «خالة أم سعيد هذا أنا، رامي.» فتحت أمي طرف الباب مستجيبة لصوت صديق نادر الذي تعرفه جيدا، قمت واقتربت لأسمع بوضوح أكبر. أكمل رامي: «دخيلك يا خالة أنت أم مؤمنة، دخيلك احتسبي واصبري، والله سبحانه يجازيك الجنة.» كلمات قليلة يبدو أنه تدرب عليها مرارا قبل أن يقذفها في وجوهنا، لم أجد أمي في حالة كتلك الحالة، وضعت يدها على فمها مخفية شهقة مجروحة، وتهاوت على الأرض. أسندتها وصفقت الباب، وأجلستها على أقرب أريكة، جلبت لها الماء، ورحت أصيح من وراء الباب: «اذهب من هنا ولا تعد، هيا اذهب.» أشارت أمي إلي بيدها وتمتمت: افتحي له وأدخليه. - ماما! هذا واحد كذاب. - أدخليه.
ارتديت ثياب الصلاة وفتحت الباب، كان لا يزال واقفا وخلفه شبح رجل، دخل رامي وجثا على ركبتيه أمام أمي، وقال: «يا خالة، هو والله شهيد، ارفعي راسك، كان طاهرا ومصليا!» صحت فيه: «شهيد ماذا؟ أحذرك، هذا موضوع لا مزح فيه، اخرج من هنا حالا.» لكنه حتى لم يلتفت إلي، كان ينظر إلى أمي بثبات، فرفعت يدها، وحسبتها ستصفعه، لكنها حطت بها على كتفه برقة، ووجهها يحمل أغرب ملامح كان لي أن أراها على وجهها يوما؛ الخوف ممتزجا بحنان، وقالت: «كنت أعرف منذ زمن، لكن لم أكن أدري أن وقته قد حان بهذه السرعة، أحضروه إلى هنا!» حملقت في أمي وقد بدأ الذعر ينال مني، ضعفت ساقاي عن الوقوف فجلست محاولة استيعاب المصيبة التي سقطت على رءوسنا، قال رامي: «متأكدة يا خالة أنك قادرة على رؤيته؟» فوقفت أمي على الفور وقالت: «هيا، أدخلاه حالا.» ثم التفتت إلي وقالت بحزم: «اتصلي بوالدك، أخبريه أن يأتي، واذهبي إلى فاطمة ولا تخرجا حتى أسمح لكما، أسمعت؟ لا تخرجا حتى أسمح لكما.» وبالقوة المتبقية في ساقي سحبت نفسي لتنفيذ ما طلبت، ودخلت غرفة فاطمة أرتجف، وبالرغم من حر تموز، فقد أحسست بالبرد ينبع من قلبي، يصيبني بخدر مؤلم، ووخز في أطرافي، لففت الغطاء حولي وأخذت أتخيل ما يجري في الخارج، رجلان يحملان جثة! جثة من؟ جثة من؟ رباه! تساءلت فاطمة عما يجري، وهمت بالخروج فسحبتها، وقفلت الباب، وقبضت على المفتاح بكل قوة. حاولت أن أبكي، أن أصرخ لكن المشاعر جفت في حلقي، كانت فاطمة مذعورة وبدأت تتذمر. تذكرت أن علي مكالمة والدي، ماذا أقول له؟ كيف؟ ورغم كل اضطرابي شعرت أن علي أن أهدأ بأي طريقة فقد راح تذمر فاطمة يتحول إلى صراخ، وأنا علي أن أستدعي والدي، وأساند أمي.
في تلك اللحظة تذكرت زوجة خالي التي ماتت منذ عام تقريبا. أهكذا يكون الإحساس بالفقد؟ أي وحشة؟ وأي فراغ يسمم العقل والفكر، ويضرب ظلما منابع الدمع الرحيمة فلا نقدر على البكاء؟ اتصلت بوالدي وتحايلت عليه ليحضر، وهدأت من روع فاطمة وأعطيتها جهازي الكمبيوتر لتلعب، ورغم كل الخوف الذي كنت على يقين أنه ينتظرني حزمت أمري وخرجت، وليتني لم أفعل!
7
অজানা পৃষ্ঠা