نهارات صيفية طويلة وحارة، ما الذي يمكن عمله؟ ابتعت إبرا بمقاسات مختلفة وكرات من الخيوط الصوفية والقطنية المتعددة الألوان، بدأت بتعلم أول الغرز. كان كل شيء يبدو مستحيلا بالنسبة إلي؛ مسك الإبرة والخيط، إدخال الخيط وإخراجه من الفتحة التالية. فكرت كثيرا في الاستسلام، وفعلا تركت الموضوع لمدة طويلة، لكن لست أدري كيف كان يأتي إلي ويصطدم بشغفي، فأتجاهله مجددا، لكنه يعود ليتحداني ويواجهني، فاستسلمت إلى خيوطي وإبرتي. وبعد كثير من الجهد بدأت بإتقان الغرز الأولى، ثم انتقلت إلى عمل نسيج متكامل، عملت مربعا من غرزتين فقط، حقيقة لم أصدق يوما أنني سأنجز شيئا ما بشغل الإبرة (الكروشيه)، كان ذلك يمنحني شعورا رائعا. بدأت بالغرز الأولى، وشيئا فشيئا أخذ يظهر الشكل وتتضح ملامحه، وكأنني أزخرف لوحة من المنمنمات، وأخذت الأشكال تتبدى؛ مثلثات ودوائر ومربعات. وما كان يفاجئني حقا هو أنه في أثناء عملي لغرز معينة تتشكل زخارف جديدة لم أحسب حسابها، وتظل تكبر وتنمو، ويظل الجمال يولد الجمال حتى لو لم أحسب له حسابا.
أنهيت المربع، وأخذت أتأمله بحب أمومي، وبفخر كبير، كيف ابتدأ هذا العمل المنجز والكامل بغرزة واحدة بسيطة لتأخذ مكانها الصحيح وتتكرر مرارا وتكرارا ليتكون هذا العمل الرائع! لكن كل شيء بحسبة معينة وميزان دقيق؛ إذ كان علي أن أعمل بعدد معين، فإذا أخطأت في الحسبة ظهرت نتائج مختلفة في نهاية العمل.
أخذت أفكر في هذا المربع الذي بين يدي، شعرت بشبه كبير بيني وبين إحدى غرزه، فما النفس إلا غرزة بسيطة في نسيج هذا الكون الهائل، تشكل معه لوحة متناسقة متناغمة جميلة، صحيح أنها غرزة صغيرة واحدة، لكن جمال الكون كله مختصر فيها، وما جماله إلا انعكاس وتكرار لجمالها لأن يد المصمم التي صممتها واحدة. فتحت الفيسبوك وكتبت في صفحتي:
احذر أن تخرج عن نظام اللوحة العظيمة، إن ذلك لن يؤثر على وجودك فحسب، بل على جمال اللوحة كلها، فإذا نظر إليها الناظر فسيميز على الفور أنك وحدك مصدر القبح والنفور.
3 - ما قصة جارتك الصغيرة؟ - من تقصد؟ - تلك الفتاة التي صادفتها عندك. - آها، تقصد سما؟ سما صايغ؟ - نعم، إذا كان هذا هو اسمها. - يا رجل، ما لك ولها؟ - لا شيء، مجرد فضول. - قلت فضول؟ - لماذا تنظر إلي هذه النظرة؟ (يضحك.) - اسكت وإلا خرجت من فوري . - لماذا الغضب يا صاحبي؟ - أنا لست غاضبا. - أعتقد أنك قررت تركي وحيدا في عالم العزوبية الرائع. - ماذا تعني؟ - أنت تعلم تماما ما أعنيه، من الواضح أن البنت أعجبتك. - هراء. - إنها متميزة، وجميلة، وذكية. - ... - هيا هيا لا تنكر، أنا صديقك يا رجل ولست أمك. - أنت تهذي، ثم إنها صغيرة جدا. - وأنت معجب بها جدا.
4
النوم مثل الحب، عليك ألا تتكلف البحث عنه؛ إذ كلما بالغت في الحصول عليه، أوغل هو في الهرب منك؛ لأن له موعدا يأتيك طواعية، فإذا تسلل إليك فلا تقاوم، عليك أن تستسلم وحسب، فإن قاومت فقد لا يعود أبدا. كنت أتقلب في فراشي مستجدية النوم لكنه تدلل طويلا، كلمات صديقتي لا تزال تتردد في أذني: «لماذا لم تأت يا هبلة! كل أهل حلب كانوا في المطار. كان الزحام شديدا وكأنه يوم المحشر، ومع ذلك تمكنت من الاقتراب منه. لقد صافحته، هل تصدقين؟ تلامست يدانا! كم كان ذلك رائعا! تعالي اليوم وستشمين رائحة عطره على يدي.» تضحك طويلا، وأنا أغص بقلبي كثيرا.
مضى على كلماتها هذه شهران أو ثلاثة ربما، لكنني لم أتمكن بعد من نسيانها على الرغم من كل الأحداث الحزينة التي عشناها، أين هو الآن؟ لقد غادر البلد بكل تأكيد؛ فمن سيبقى فيها سوى أمثالنا من الناس العاديين؟ وبينما أنا في سريري إذا بالمصباح يضيء معلنا عودة التيار الكهربائي، يا للمفاجأة! الساعة الثانية صباحا! فزعت من سريري، وركضت خارج الغرفة، كانت أمي قد استيقظت، رحت أقفز وأصفق بيدي: «جاءت الكهربا، جاءت الكهربا.» هتفت أمي: «ماذا سنفعل أولا؟ ا... امم ... ماذا سنفعل؟ الغسيل؟ كي الملابس؟ لا لا، كنس الغرف؟ الشواحن، بسرعة سما ضعي كل الشواحن في الكهرباء.» هرعت لتنفيذ ذلك ووضعت جهازي الكمبيوتر أيضا في الشحن فقد فرغت بطاريته منذ أكثر من عشرة أيام. لقد أصابتنا عودة التيار الكهربائي بلوثة من فرح وجنون. نظرت إلى النافذة كانت كل شبابيك جيراننا مضاءة أيضا، وتعلو أصوات المكانس الكهربائية منها. قمت بتكنيس الغرف بدوري، بينما كانت أمي تضع ثيابنا في الغسالة الكهربائية لأول مرة بعد شهرين من غسلها لكل شيء بيديها. مرت ساعة ونصف والتيار لا يزال يشرفنا بحضوره، جلست أمي لترتاح قليلا وذهنها يعمل: «ماذا نفعل؟» قلت لها متعبة: «ننام أمي، ننام، هذا ما سنفعل، أرجوك.» ثم قامت باتجاهي وقالت: «قومي انقعي البرغل، سندير الكبة!» «ماما! كبة في الفجر؟» صحت بذهول، لم تجبني واتجهت إلى المطبخ. العجيب أن أصوات «ماكينات الكبة» بدأت تتهادى إلى سمعي من بعض الجيران! ضحكت في سري، واتجهت إلى المطبخ. استنفار جماعي، هذا ما أصاب حينا على الأقل في هذه الساعة المتأخرة من الليل التي أحالتها الكهرباء نهارا.
وجدت أمي جالسة على الكرسي تبكي بحرقة، وأبي واجم بجوارها، عرفت السبب على الفور، لقد تذكرا نادرا فهو وحده من كان يجلب لنا «ماكينة الكبة» من فوق الخزانة من غير أن يستعين بشي. حاولت التخفيف عنهما وسحبت كرسيا، صعدت على الفور وأنزلتها قائلة: «هيا، هيا، فلنباشر، فمن يعلم متى تنقطع الكهرباء؟» لكنها هذه المرة كانت كريمة معنا؛ إذ بقيت أربع ساعات متواصلة، أنهينا في أثنائها عمل «دراويش الكبة» والكبة بالصينية، ولم ننته إلا وضوء النهار يملأ البيت، عندها فقط نمت ك «القتيل» كما يقولون.
كنت محظوظة في اليوم التالي بتصفح الإنترنت من جهازي المشحون جيدا، فتحت صفحة رندة وكنت قد تركتها زمنا. كانت منشوراتها في الغالب صورا لبعض المعالم الأثرية والزخارف الإسلامية المعمارية في تركيا. أما كتاباتها فهي في الأغلب تحمل طابعا صوفيا إلهيا، ذكرتني بكتابات طاغور الذي قرأته منذ عام تقريبا، وكانت قد قبلت صداقتي فأرسلت إليها رسالة خاصة أبدي فيها إعجابي بكتاباتها، ورغبتي في التواصل معها. أرسلت الرسالة فإذا بمربع ينبثق من أسفل الشاشة معلنا وصول رسالة جديدة، من صديق جديد، لقد كانت من سليمان «الملك»!
অজানা পৃষ্ঠা