كان أبو أنس ينظر إليه متفحصا ثيابه، ثم قال: «اليوم عيد، ولا أعتقد يا ابني أنك ستذهب بهذه الملابس، قم معي.» ثم اتجه إلى هاتف أخضر كان موضوعا على المكتب وأدار قرص الأرقام، وتحدث: آلو مرحبا. - ... - الحمد لله. - ... - نعم تقريبا، اسمعي، أنا قادم إلى البيت ومعي ضيف، سخني الحمام وحضري لقمة. - ... - بعدين بعدين، مع السلامة.
نظر إليه سليمان مستفسرا، فأومأ له أبو أنس بالتزام الهدوء، فاستجاب سليمان وساعده في إغلاق درابية المحل، وتمشيا معا في الشارع المظلم عدة دقائق حتى صعدا بناية عتيقة إلى الطابق الثاني. طرق أبو أنس باب الشقة اليمنى، ولم ينتظر بل أخرج مفتاحه وفتح الباب «يا الله، يا الله، خذوا طريق.»
2
وأشار إلى سليمان بالدخول إلى الغرفة على اليسار، وقال: «تفضل يا ابني ارتح قليلا، وسأعود إليك.» دخل سليمان إلى الغرفة، كانت غرفة باردة مفروشة بالسجاد المزخرف ويلتمع دهان جدرانها ذو اللون السكري تحت ضوء الثريا الضخمة ذات الشموع والكريستال. كان أثاث الغرفة من الخشب الذهبي اللون المحفور باليد، والمنجد بالمخمل الأحمر القاتم، وفي وسط الغرفة انتصبت طاولة ذات سطح مرمري أبيض، يتوسطها مفرش سكري اللون وتحفة زجاجية ونفاضتان من الكريستال. دار سليمان حول الغرفة، أزاح ستارة النافذة، فارتد إلى الوراء قليلا، لقد رأى انعكاس صورته على الزجاج العاكس، فراح يمرر يده على وجهه، على التغضنات التي علت جبهته، على شعره الآخذ في التساقط، تأمل ثيابه الرثة، وعظمتي صدره البارزتين، والعرق الأزرق الناتئ في يسار رقبته، ثم راح يمرر يده على ذقنه التي استطال شعرها قليلا، بدا شكله أشبه بمدمني الكحول، لقد كان أبو أنس محقا! راح يتأمل هاتين العينين البنيتين، لهما اللون نفسه والأهداب نفسها لكنهما غريبتان عنه، متى كانت آخر مرة رأيت فيها نفسي في مرآة؟ من أنا؟ ما عدت أعرفني! وهذا الشيب، منذ متى بدأ يشتعل في رأسي؟ كان سارحا في صورته حين فتح عليه الباب أبو أنس حاملا معه ثيابا ومنشفة، ابتسم وهو يراه يحدق في شباك مغلق، ثم قال: «تفضل يا ابني، الحمام جاهز، أتمنى أن تناسبك، هذه من ملابس ابني.» أسدل سليمان الستارة وقال: «لا تؤاخذني، مضى لي أعوام ما رأيت وجهي في مرآة!»
10
أخبرتني أمي في صباح أحد الأيام أننا سنذهب إلى أحد الجوامع للاحتفال ببعض الفتيات اللاتي أتممن حفظ القرآن أو أجزاء منه، وستكون «آنستنا» هناك. وصلنا متأخرات فاضطررنا للجلوس في آخر الصفوف. كانت النسوة جالسات على الأرض، ما عدا بعضهن اللاتي جلسن على الكراسي، ميزت «الآنسة» من بينهن فقد كانت تجلس في المنتصف.
بدأت الفتيات بتلاوة القرآن، ثم أخذن بإنشاد الأناشيد، ورقصت الفتيات الصغيرات بحجابهن، ثم حان موعد التكريم، فوقفت «الآنسات» وبدأن بتكريم الحافظات وسط هتافات النسوة وتصفيقهن. كانت الواحدة منهن تستلم شهادتها وجائزتها وتسلم على «الآنسات» وحين تصل إلى «آنستنا» فإنها تنحني لتقبل يدها، مرة ومرتين وثلاثا. كلهن فعلن ذلك حتى إن إحداهن حين وصلت إلى «الآنسة» ارتمت عند قدميها لتقبلهما! فأوقفنها النسوة فعادت لترمي بنفسها مجددا، فسالت أعين النسوة بالدموع، ونكزتني أمي وقالت متأثرة: «أرأيت كم نحن محظوظات ببركة هذه الآنسة؟ انظري إلى محبة كل النسوة والفتيات لها، لو أنك استمعت لي فحفظت القرآن لكنت اليوم من بينهن ولرآك الجميع.» حملقت في أمي وقلت لها: «هل أنت جادة حقا؟ وهل الهدف من حفظ القرآن أن تتباهي بي أمام النسوة؟» والتفت قبل أن تجيب، وخرجت من الجامع إلى الساحة الخارجية.
شعرت بالغضب يخنقني، وبالغربة عنهن، وصرت أتحدث بصوت عال من فرط غضبي: «نعم، صحيح، إن علي أن أحفظ القرآن لأرضي غرور أمي، وعلي أن أقبل يدي الآنسة وقدميها أيضا، وإلا فلن تحل بركتها علي ...» وعندها انتبهت إلى سيدة كانت تجلس في ظل إحدى الأشجار فشعرت بالحرج وسكت على الفور، والتفت معطية ظهري لها. بعد لحظات شعرت بيد باردة على كتفي وصوت يقول: «لم أنت غاضبة يا سماء؟» التفت فوجدتها، الفتاة النحيلة التي كانت تحضر الدروس معي، تفاجأت من وجودها وتذكرت أنني لا أعرف اسمها، لكن رؤيتها أعادت إلي الهدوء قليلا، قلت: «ماذا تفعلين هنا؟ لم لست في الحفل؟» ضحكت بسخرية وقالت: «وهل لمثلي حضور هذه الاحتفالات؟» استغربت من ردها وسألتها: «ماذا تقصدين؟» قالت: «لقد أصبحت منبوذة منذ ذلك اليوم الذي افتضحت فيه أمام الجميع، لم تعد أمي تعاملني كما كانت؛ فلم أعد بالمستوى الذي يليق بها وبصديقاتها ومجتمعها الديني؛ فأنا خاطئة! كنت شديدة الأسف لما حصل، فبذلت جهدي، وأتممت حفظ القرآن وأحاديث الأربعين النووية منذ أسبوع، كنت أجهز نفسي للتكريم اليوم لكن لم يحدث هذا.» فقلت لها: «قد تكون الآنسة لا تدري بذلك، قومي معي لنخبرها.» وقفت على الفور وأمسكتها من يدها، فسحبتها وقالت: «بلى، أخبرتها بذلك بنفسي، لكن كما تعلمين فإن خطيئتي وصمة عار لا تمحى أبدا. لقد تجاهلتني تماما، ولهذا أنا هنا؛ إذ لم يعد لي مكان هناك.» كانت ترتجف بردا أو ألما وقد أصابتني كلماتها بالعجز فلم أدر ما أقول. عدت وجلست بجوارها وأحطتها من كتفها وبقينا تحت شجرة الكينا الكبيرة التي كانت سخية معنا بظلها. كنا هادئتين نتأمل انعكاس ظلال أوراق الشجرة على الأرض التي تحركها نسمات أيلول. بقينا صامتتين وأصوات الاحتفال في الداخل تتنامى إلى مسامعنا وكأنها من عالم غريب، شعرت بشيء من الحنين وبكثير من السكينة والفرح الرفيع. كان ثمة نور أحسسته بقربي منها، وكنت سعيدة بذلك حد الاكتفاء. لم يكن بي رغبة بالحديث، كأنني ولجت إلى روحها وفهمت كل شيء. كنت أمسك بيدها وكانت باردة، وكنت دافئة. كنت على استعداد لأن أمضي العمر وأنا بجوارها، تمنيت أن يستمر هذا إلى الأبد. كانت دمعة حلوة تستعد لتهطل من عيني وإذا بي أسمع صوت أمي فأعادني إلى وعيي بالزمان والمكان: «سماء، سماء، أنت هنا، بالله عليك ماذا تفعلين عندك؟ بحثت عنك في كل مكان، لقد فاتك الكثير، تعالي.» واقتربت مني أكثر فوقفت على الفور مخفية صاحبتي عنها خلفي، فجذبتني أمي من يدي ومشينا ثم التفتت إلى الوراء وتمتمت: «ماذا تفعلين معها؟»
في تلك الليلة كتبت في الفيسبوك:
هناك الكثير من التجارب التي لا يمكن تفسيرها إلا بالحب الخالص.
অজানা পৃষ্ঠা