وصلت إلى موقف الحافلة أنتظر قدومها، وأنا لا أزال أفكر في كلماته الأخيرة، فسمعت صوتا من خلفي يقول: «ألا تريدين على الأقل أن تتعرفي على اسمي يا سماء؟» أجفلني الصوت، فالتفت ورائي فرأيته هو بذاته مبتسما، فشعرت بخوف مفاجئ، ثم قلت: «كيف عرفت اسمي؟» فضحك وقال: «لا تخافي، لست عرافا، محفظتك كانت مفتوحة وفيها اسمك مخططا بشكل جميل.» قلت وقد تذكرت تلك الورقة: «آه، صحيح.» فقال: «اسمي خالد.» ومد يده مبتسما ليصافحني، لست أدري ما الذي جعلني في هذه اللحظة أتراجع خطوة إلى الوراء؛ فقد لمحت في ابتسامته شيئا أخافني، شيئا ما كان يمنعني من الاستمرار في هذه اللعبة الخطرة، لكن الخوف سيطر علي وشل حركتي فلم أنطق بحرف، ولم أفعل شيئا سوى التحديق في كفه الممدودة لمصافحتي. بعد لحظات وصلت الحافلة، نظرت إليها بفرح، فقد كانت وسيلة خلاصي، عندها فقط تمكنت من الحركة والكلام، انطلقت إلى الباب المفتوح وقلت: «علي أن أرحل.» وقفزت إلى الداخل وقلبي يخفق هلعا. جلست وأنا أتلفت خلفي خشية أن يلحق بي، تحركت الحافلة فرأيته من النافذة لا يزال واقفا وهو يبتسم بغرابة!
وصلت إلى البيت متأخرة، فتلقيت جام غضب أبي، منعت من الخروج مجددا، لم أقل شيئا، كان على حق، رميت بنفسي على السرير وشعرت أخيرا بالأمان، فتحت الفيسبوك وكتبت:
ثق بغريزتك؛ فقد تقرع ناقوس الخطر محذرة إياك في أية لحظة، لا تتجاهلها، قم بما تمليه عليك فقط.
7
في غرفته جلس وحيدا؛ فالليلة هي الأولى التي يتمكن فيها من الانفراد بنفسه ليطلق ما كان محتبسا في صدره لأشهر طويلة، وقبل فعل أي شيء أفرغ حقيبته مما فيها حتى وصل إلى الصندوق، فأخرجه بعناية وعاد ليجلس على الأرض مسندا ظهره على الخزانة. كانت مشاعر الرهبة والترقب تسيطر عليه وهو يرمق الصندوق وخفقات قلبه تتسارع على نحو مؤلم، أزاحه جانبا، ربما لم يحن الوقت بعد. وقف واتجه نحو النافذة، كانت تغطيها طبقة سميكة من الغبار المتراكم، لعل أحدا لم يفتحها منذ زمن، وهل أحد يفتح النوافذ هنا؟ لكن الغرفة تحتاج فعلا إلى هواء نظيف؛ فالرائحة هنا لا تطيقها رئتاه؛ مزيج من توابل غريبة، وغبار، وعفونة.
فتح النافذة ليجدد الهواء، وليرى كيف يبدو العالم الخارجي من غرفته الجديدة، تذكر المشهد الذي كان يراه من نافذة بيته في موطنه؛ أشجار الزيتون تزين الرصيف ذا اللونين الأصفر والأحمر أمام بيته، وكذلك رصيف الشارع المقابل الذي يقبع في آخره دكان عم حسن (السمان).
1
أخذ نفسا عميقا وأطل برأسه من النافذة، فرأى على بعد مترين أو ثلاثة على أبعد تقدير جدرانا عالية ونوافذ متراصة مغلقة تقابل نافذته، وهدير المكيفات يخترق الأجواء، وبالكاد كان يرى السماء، «سماء! ماذا ستفعل بعد غيابي؟» أخذ يفكر ووجهها الجميل يتراقص أمام عينيه. عاد وأغلق النافذة فقد بدأت حبات من العرق تغزو جبينه، أخذ نفسا عميقا من هواء المكيف البارد، حمدا لله؛ ففي مثل هذا الجو يعد التكييف من ضروريات الحياة.
عاد إلى صندوقه وتذكر وجوه عائلته وأصدقائه وهم يودعونه، كان الجميع يدعو له، تذكر كلمات والده جيدا: «انتبه إلى نفسك، ولا تسرف في أموالك؛ فما بعثناك إلى الغربة إلا لتفك نفسك من الخدمة، وترجع إلى بلدك وناسك، ومكانك في الشغل محفوظ حتى ترجع، الله معك يا ولدي.» كان الجميع يعتقد أنه سافر لهذا السبب، والله وحده يعلم الحقيقة المخبأة في صدره وفي هذا الصندوق الذي لا يزال مغلقا في يده، تسارع نبض قلبه مجددا، شيء ما كان يمنعه من فتحه، ربما الخوف من ألم مؤجل، أو لعله الخوف من الفراغ من ألم محبب، كان يريد أن يظل مسكونا فيها ومسكونة فيه حبا أو شوقا أو ألما، لا يهم.
فتحه أخيرا في لحظة واحدة، وتأمل ما فيه دهرا، وعادت إليه الذكريات صورا وأصوات وشذى وكلمات.
অজানা পৃষ্ঠা