ليس الحب حظا أو قطعة حلوى، لكي تعرف الحب عليك أن تحيا، ولكي تحيا عليك أن تحب.
الحياة شلال متدفق، وجود صخرة في وجه الشلال لا يعني توقفه أبدا.
3
في الأيام والأسابيع التالية تجنبت الحديث مع والدي عن جدو نور، مع أن قلبي كان يذوب شوقا لمعرفة المزيد. كنت أعلم أن الوقت لم يحن بعد، وأنني لو طلبت الذهاب فسأقابل بالرفض. كانت الأيام تسير كعادتها، أصحو من النوم لأساعد أمي في تنظيف البيت التنظيف النصف سنوي وهو ما نسميه «تعزيل». كنا ننظف كل شيء وأي شيء، الوسائد والشراشف والأثاث والجدران والأسقف والأبواب والأرضيات والنوافذ. كنا لا نتوقف إلا لتناول الطعام، وحين يكون أبي وإخوتي في البيت بالطبع، كان لا يحل الليل إلا وأنا في قمة الإنهاك، فأنام سريعا. كانت أمي تحثني على العمل بقولها: «الشغل «يجوهر» الصبية.» تعني أن أعمال المنزل تجعلني جوهرة! حسنا، لم لا؟ أما عني فكنت أعمل لسببين آخرين؛ إذ ما من أحد سيساعد أمي أولا، وثانيا لأنني قرأت أن أعمال المنزل أفضل رياضة، وكنت أحب أن أظل رشيقة وجميلة!
في أحد الأيام دخل أبي صامتا على غير عادته ورمى بظرف أبيض على الطاولة، تناولته أمي وفتحته، قطبت جبينها وناولتني إياه. قرأت وإذا به دعوة لحضور حفل زفاف ابن عمتي سامر غدا، يا إلهي! بهذه السرعة؟ علقت أمي: «أرأيت أي حظ أفلته من يديك، هل قرأت في أي صالة؟ ومع عشاء أيضا، سعيدة الآن؟ فلنر إلى أين ستأخذك أفكارك.» لم أعلق بشيء سوى أن قلت: «هنيئا لهما.» في الحقيقة أحب حضور الأعراس، أحب الموسيقى الصاخبة وأن أحدا لا يمكنه سماع أحد، وأن أرقص حد الإعياء، سألتني أمي: «وهل ستذهبين؟» أجبتها على الفور: «ولم لا؟ بالتأكيد سأذهب.»
في مساء اليوم التالي جهزت نفسي، وضعت القليل من مساحيق التجميل؛ فلم تكن أمي لتسمح لي بالمبالغة فيها. لبست حذائي ذا الكعب العالي ورافقت أمي إلى الصالة «الفخمة»، دخلنا فوجدنا القاعة شبه خالية، أين الحضور؟ لقد قارب الوقت منتصف الليل ولم تأت النسوة. هذا أفضل؛ فهو يتيح لنا الجلوس في أفضل مكان لنرى كل شيء؛ المسرح حيث يجلس العروسان، وقوالب الكعك المزينة، والساحة حيث ترقص النساء. جلست مع أمي وتحدثنا وبالكاد أسمعها وتسمعني، ومع مرور الوقت علت الأصوات أكثر فأكثر، وتوالى حضور النسوة، ولم تمتلئ الصالة حتى الواحدة صباحا؛ إذ كلما تأخرت أكثر يعني أنك أرقى و«أكابر» أكثر! لا يهم، أخذت أراقب النسوة والفتيات اللاتي يدخلن الصالة، كانت الواحدة منهن تمشي أسرع من السلحفاة بقليل، ولا تلتفت يمينا ولا شمالا، ولا حتى ترى موقع قدميها، تتبختر في مشيتها وهي تعلم أن كل الجالسات ينظرن إليها، إلى فستانها، وتسريحة شعرها، وحذائها البراق، تجلس وتنتظر أي فرصة لتتحدث عن فستانها من أين ابتاعته وكم دفعت ثمنا له، وعن الصالون الراقي الذي عملت فيه شعرها وزينت وجهها، وعن حذائها الغالي الثمن، وهي بالطبع تصرخ وتلصق فمها في أذن صاحبتها حتى تتمكن الأخرى من سماعها. كنت أراقب وأضحك في داخلي، لا سيما وهي تقف وتدور حول نفسها ليراها الجميع جيدا، وتظل جالسة تراقب حلبة الرقص بفارغ الصبر، تنتظر من تشدها من يدها وتدعوها للرقص، فتتظاهر بالتمنع والخجل، ثم تقوم أخيرا فترقص وترقص ولا تعود للجلوس إلا والعرق يتصبب منها!
هكذا كان حال معظم النسوة إن لم يكن كلهن، أما أنا فلم أكن أنتظر أن أدعى إلى الرقص، أقوم وحدي، وأتوسط الحلبة وأرقص مع من أعرف ومن لا أعرف. كان الرقص يسعدني كثيرا، خاصة أن الموسيقى كانت صاخبة جدا، فلا تترك لي مجالا لأفكر في أي شيء سوى في الدخول في الإيقاع. كنت أبتسم لكل واحدة ألقاها وأرقص معها لنشكل ثنائيا فنتبادل الأدوار والانحناءات، وحين أسمع أغنية لا أحبها أستغل الفرصة لأعود إلى أمي وأرتاح قليلا. كانت أمي فخورة بي، هكذا تريدني؛ فالرقص برأيها يجلب الخاطبات فيسرع حظي و«ينطلق نصيبي».
وبينما كنت جالسة أراقب الحضور شاهدت عمتي تتحدث مع مجموعة من النسوة وكن يحدقن في، وكانت هي تشير إلي بحاجبيها. عرفت على الفور أنني محور حديثهن، وأنني في نظرهن الغبية التي رفضت ابنها الساحر. عندها أمسكت بيد ابنة عمي التي تكبرني بعامين والتي كانت حزينة لأن عمتي لم تتقدم لخطبتها بحجة أنها كبيرة عليه. سحبتها من يدها وتوسطنا حلبة الرقص وأخذنا نرقص بجنون، وحاولت الاقتراب أكثر فأكثر من عمتي، فأخذت ترقص بوجه عبوس، وأنا وابنة عمي ضحكنا ورقصنا حتى الإعياء.
ثم حلت الساعة المرتقبة من الجميع، دخول العروسين، خفتت الأضواء ودخل العروسان بخطى بطيئة، وموسيقى هادئة فيما أخذت النسوة تتهامسن. أخذني الفضول لأعرف عن أي شيء، فتقدمت وجلست بجوار إحداهن، ولم أبذل كثير جهد لأسمع؛ فقد كانت ترفع صوتها بكل ما أوتيت من قوة، قالت: «واه! العريس أجمل بكثير من العروس، ما وجدوا أجمل منها؟ ثم انظري إليها إنها أطول منه، كما أن فستانها من موضة العام الماضي، وكذلك تسريحة شعرها، ألا تخجل من نفسها؟ أم أن العريس بخل عليها ولم يأخذها إلى صالون محترم؟ سمعت أنه من الأثرياء؛ فهو كما تعلمين يشتغل في قطر ويأخذ راتبه بالدولار.» أجابت جارتها: «انظري، انظري إليه إنه كالمخبول يمشي ولا يزيح نظره عنها، واضح أنها ستحكمه، مسكينة أمه، إنه نسيها من اللحظة هذه، وهي تصفق وتضحك كالبلهاء.» وتمايلتا من فرط الضحك. هنا وصل العروسان إلى المنصة، فوقفت أشاهدهما، وأخذت المصورة تأخذ لهما الصور بوضعيات مختلفة، وكانت عمتي كلما أرادت أن تقف بينهما أزاحتها المصورة، فتعود إلى الوراء، ثم تتقدم، والمصورة تزيحها مجددا، والعروس تتمايل على عريسها، والعرق يتصبب منهما. شعرت بالملل وبألم في قدمي من الوقوف، فعدت وجلست على أحد الكراسي، فسمعت اثنتين من النسوة العجائز تتحدثان، ودار بينهما هذا الحوار: العروس جميلة جدا، ومسكينة جدا أيضا؛ فجمالها كله سيذهب مع هذا العريس القصير الدميم. إنها أجمل منه بكثير، وكذلك فستانها وشعرها وزينتها جميلة ورائعة. لست أدري كيف فرط بها أهلها وهي لا تزال في السادسة عشرة؟ - حبيبتي، كل شيء يحل بالمال، انظري إنه الآن يلبسها عقود الذهب واللؤلؤ، يظهر أنه كريم ومن عائلة كريمة، لكن لم تبدو أمه غاضبة وتبتسم رغما عنها؟ - ما سمعت ما حدث؟ - ماذا؟ - حقا لا تعرفين؟ كل الناس يتحدثون في هذه السيرة، يقولون في يوم حفلة الخطبة لما دخلت العروس إلى الغرفة صافحت حماتها فقط ولم تقبل يدها. - حقا؟ يا للعار! ما تعرف الأصول؟ أم أن أهلها لم يعلموها؟ لا عجب في ذلك فهي من عائلة وضيعة.
وأمنت صديقتها على كلامها، وتابعتا مشاهدة العروسين.
অজানা পৃষ্ঠা