والواقع أن الغائية تناقض العلية؛ فإذا كان الماضي يتحكم في المستقبل، فإن المستقبل لا يتحكم في الماضي، أو على الأقل لا يتحكم فيه بالمعنى الذي استخدمنا به عبارة «يتحكم» في العبارة السابقة. وهناك معنى سكوني للفظ، يمكن أن يكون التحكم فيه متبادلا. مثال ذلك أن العدد «س» يتحكم في مربعه «س
2 »، والمربع «س
2 » يتحكم في جذره الموجب «س». غير أن العلية تحكم بالمعنى التوليدي؛ فالرياح تتحكم في شكل الشجرة الملتوي، لا العكس. صحيح أننا نستطيع أن نستدل من الشكل الملتوي للشجرة على الاتجاه الغالب للرياح، ولكننا إذا قلنا إن شكل الشجرة يتحكم بهذا المعنى في اتجاه الرياح، لكنا نستخدم لفظ «التحكم» بالمعنى السكوني، معنى التضايف المحض؛ ذلك لأن الشجرة الملتوية تدل على الرياح، ولكنها لا تنتجها، على حين أن الرياح تنتج الشكل الملتوي للشجرة. وليس من الضروري أن تفهم كلمة «ينتج» على أساس أنها لا تخضع للتحليل المنطقي؛ فقد أوضحت من قبل (في الفصل العاشر) أن من الممكن إيجاد صيغة منطقية لطابع العلية الذي تكون بمقتضاه ذات اتجاه واحد. فإذا شئنا أن يكون للتصور الذي نكونه عن مجرى الزمان أي معنى، فمن الواجب عندئذ أن توضع العلية في مقابل الغائية؛ إذ إن التحكم بالمعنى التوليدي لا يمكن أن يحدث إلا في اتجاه واحد فحسب. أما التفسير الذي تكون الحياة بمقتضاه مختلفة أساسا عن العمليات الفيزيائية، وتكون خاضعة للغاية لا للعلة، فإنه تفسير لا يتمشى مع فكرة اتجاه الزمان. وعلى العالم البيولوجي الذي يهيب بالفهم العادي للإنسان لكي يجد فيه مؤيدا لادعاءاته بوجود هذه الثنائية المزعومة، عليه أن يتذكر أنه يناقض الفهم العادي في ميدان آخر؛ إذ إنه يتخلى عن مفهوم الصيرورة.
ولو مضينا في التحليل أبعد من ذلك لوجدنا أن نصير فكرة الغائية لا يجد دفاعا مقنعا يتخلص به من هذا المأزق؛ فكلما كان الأمر متعلقا بسلوك غرضي، لم يكن ما يتحكم في السلوك هو الحادث المقبل، وإنما استباق الكائن الحي للحادث المقبل. فنحن نغرس البذرة لكي نزرع الشجرة، وما يتحكم في سلوكنا ليس هو الشجرة المقبلة، وإنما الصور التي نكونها في الحاضر لشجرة المستقبل، وهي الصور التي نستبق بها وجودها المقبل . ومما يثبت أن هذا هو التفسير المنطقي الصحيح، أن من الممكن تدمير النبتة النامية، بحيث لا تظهر شجرة في المستقبل؛ وعندئذ لا يقع الحادث المتوقع في المستقبل أبدا، على حين أن السلوك الحاضر، وهو غرس البذرة، يظل كما هو دون تغيير. ومن المحال أن يكون ما لا يحدث أبدا متحكما فيما يحدث الآن؛ فالتحكم التوليدي ينتقل من الماضي إلى المستقبل، لا العكس. أما الفعل الغرضي الملاحظ في السلوك البشري فيساء تفسيره إذا ما نظر إليه على أنه تحكم توليدي للمستقبل في الماضي؛ فلا يمكن أن يقبل الفهم العادي ولا العلم تحكما توليديا يتناقض مع العلية. وإذن فالموازاة بين الغائية والعلية نتيجة لسوء فهم منطقي.
فما الذي يتبقى من الغائية إذن؟ إذا شئنا أن تكون الغاية متمشية العلية، فلا يمكن أن يكون المستقبل هو الذي يتحكم في الحاضر، وإنما ينبغي أن يكون ذلك تحكما أو تحديدا على أساس خطة. على أن الخطة لا يمكن أن تحدث آثارا إلا بتوسط كائن عضوي ما، لديه القدرة على التفكير. ومع ذلك فإن غائية التنظيم العضوي تتجاوز بكثير نطاق النوع البشري العاقل؛ فليس في وسعنا القول إن الفأر يتبع خطة عندما يختزن غذاءه، كما أن أحدا لن يقبل القول بأن النبات ينفذ خطة تكاثر نوعه عندما ينثر بذوره على الأرض. ولا بد من إعداد صيغة دقيقة تتجنب التشبيهات الإنسانية؛ فأوجه نشاط الكائنات العضوية تمثل أنموذجا من النوع الذي ينبغي أن تتبعه هذه الكائنات لو كانت تسلك وفقا لخطة. أما الانتقال من هذه الحقيقة إلى القول بوجود خطة، تتحكم على نحو صوفي غامض في سلوك الكائنات العضوية، فيعني تفسير العالم العضوي بأكمله عن طريق تشبيه بالسلوك البشرى؛ أي إنه يعني وضع تشبيه محل التفسير. فالغائية نزعة تشبيهية، وتفسير وهمي، وهي تنتمي إلى الفلسفة التأملية، ولكن ليس لها مكان في الفلسفة العلمية.
فما هو التفسير الصائب إذن؟ سيظل من الصحيح أن نشاط الكائن العضوي يمثل نمطا يبدو كما لو كانت هناك خطة تتحكم فيه، فهل نسجل هذه الحقيقة على أنها مجرد اتفاق؛ أي على أنها نتاج للصدفة؟ إن ضمير العالم الإحصائي يثور على هذا الفهم؛ فاحتمال حدوث هذا الاتفاق يبلغ من الضآلة حدا لا نستطيع معه أن نقبل هذا التفسير. وهكذا يبدو أن الرغبة في الوصول إلى تفسير سببي قد وصلت إلى طريق مسدود، فكيف يمكن أن تتخذ العلية، على أي نحو، مظهر السلوك الغائي؟
إن من ينظر لأول مرة إلى الحصى الملقى على الشاطئ، قد يظن بالفعل أنه موضوع في مكانه هذا وفقا لخطة معينة؛ فالحصى الكبير يوجد بقرب البحر، ويغطي الماء بعضا منه، ويعقبه بعد قليل حصى أصغر، وتلي هذه طبقات الرمال، التي تبدأ أولا بالحبيبات الخشنة، وتتحول بعد ذلك إلى حبيبات الرمال الدقيقة التي تميز الأجزاء المتباعدة من الشاطئ. وهكذا يبدو كأن شخصا قد قام بتنظيف الشاطئ، واختار الحصى والرمال بعناية حسب الحجم، غير أننا نعلم أنه لا ضرورة لافتراض مثل هذا التفسير التشبيهي بالإنسان؛ فالماء ينقل الحصى ويلقي بالأخف منه مسافة أبعد في الشاطئ؛ وبذلك يوزع الحصى آليا حسب الحجم. صحيح أن الصدمات الفردية للأمواج تسير تبعا لأنموذج الصدفة غير المنتظم، ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بالمكان الذي ستستقر فيه حصاة معينة آخر الأمر، غير أن هناك عملية انتقال تحدث؛ فكلما حملت الموجة الواحدة حصاة كبيرة وأخرى صغيرة، استطاعت أن تحمل الصغيرة مسافة أبعد قليلا؛ فالصدفة مقترنة بالانتقاء تحدث النظام.
ولقد كان الكشف العظيم الذي توصل إليه تشارلس دارون
Charles Darwin
هو أن الغائية الظاهرية للكائنات العضوية الحية يمكن أن تفسر على نحو مشابه، عن طريق الجمع بين الصدفة وبين الانتقاء. وقد استبق مبدأ الانتقاء عن دارون في عصور سابقة، شأنه شأن معظم الأفكار الكبرى؛ فقد سبق أن وضع الفيلسوف اليوناني أنبادقليس
অজানা পৃষ্ঠা