ومن الواجب أن نميز بدقة بين مبدأ السببية في صورة انحرافات عن النمط السوي
anomalies ، وبين الامتداد الذي يعبر عنه الانتقال من القوانين السببية إلى القوانين الاحتمالية؛ ذلك لأن خضوع الحوادث الذرية لقوانين احتمالية، لا لقوانين سببية، يبدو نتيجة ضررها هين نسبيا إذا ما قورنت بالانحرافات السببية التي تحدثنا عنها الآن. فهذه الانحرافات تتعلق بمبدأ التأثير بالاتصال المباشر، وهو المبدأ الذي يعبر عن خاصية معروفة من خصائص الانتقال السببي، هي أن السبب ينبغي أن ينتشر باستمرار خلال المكان حتى يصل إلى النقطة التي يحدث فيها نتيجة معينة. فإذا ما بدأت قاطرة في التحرك، فإن عربات القطار لا تعقبها مباشرة، وإنما على فترات؛ إذ إن جذب القاطرة ينبغي أن ينتقل من عربة إلى عربة حتى يصل إلى الأخيرة في نهاية الأمر. وعندما يضاء نور كشاف، فإنه لا يضيء الموضوعات التي يوجه إليها فورا، وإنما ينبغي أن ينتقل الضوء في المكان الواقع بينه وبينها، ولو لم تكن سرعته هائلة للاحظنا الوقت اللازم لانتشار الإضاءة. فالسبب لا يؤثر في النتائج البعيدة فورا، وإنما ينتشر من نقطة إلى نقطة حتى يؤثر في الموضوع بالاتصال المباشر. هذه الحقيقة البسيطة تعد من أوضح سمات جميع الحالات المعروفة للانتقال السببي، ولا يمكن أن يتخلى الفيزيائي بسهولة عن الاعتقاد بأن هذه الخاصية تمثل عاملا لا يمكن الاستغناء عنه في التأثير السببي المتبادل، بل إن الانتقال إلى القوانين الاحتمالية لا يلزم عنه التخلي عن هذه الخاصية بالضرورة. فمن الممكن تكوين القوانين الاحتمالية على نحو ينتقل معه الاحتمال من نقطة إلى نقطة، فيسفر عن سلسلة احتمالية تماثل التأثير السببي بالاتصال المباشر؛ ولذا فإن اضطرارنا، نتيجة لتحليل الموضوعات غير القابلة للملاحظة في فيزياء الكوانتم، إلى التخلي عن مبدأ التأثير بالاتصال المباشر، وإلى القول بمبدأ الانحراف السببي، هو ضربة توجه إلى فكرة السببية، أقوى بكثير من الانتقال إلى القوانين الاحتمالية؛ ذلك لأن انهيار السببية على هذا النحو يجعل من المستحيل التحدث عن موضوعات غير ملاحظة في العالم الأصغر، بنفس المعنى الذي نتحدث به عن أمثال هذه الموضوعات في العالم الأكبر.
وهكذا نصل إلى فارق في النوع بين عالم الأشياء الكبيرة وعالم الأشياء الصغيرة؛ فكلا العالمين مبني على أساس الموضوعات الملاحظة بإضافة الموضوعات غير الملاحظة، غير أن هذه التكملة للظواهر الملاحظة لا تنطوي، في عالم الأشياء الكبيرة، على صعوبات؛ إذ إن الموضوعات غير الملاحظة تسير على نفس أنموذج الموضوعات الملاحظة. أما في عالم الأشياء الصغيرة، فلا يمكن تصور تكملة معقولة للموضوعات الملاحظة؛ ذلك لأن الموضوعات غير الملاحظة، سواء أدخلناها بوصفها جزيئات أم موجات، تسلك بطريقة غير معقولة، وتخرق قوانين السببية المقررة. وليس ثمة نظام سوي لتفسير هذه الموضوعات غير القابلة للملاحظة، كما أننا لا نستطيع الكلام عنها بنفس المعنى الذي نتكلم به عنها في عالم الحياة اليومية. ففي استطاعتنا أن ننظر إلى المركبات الأولية للمادة على أنها جزيئات أو موجات، وكلا التفسيرين يلائم الملاحظات بنفس القدر من الدقة أو من الافتقار إلى الدقة.
هذه، إذن، هي نهاية القصة؛ فقد تحول النزاع بين أنصار التفسير الموجي وأنصار التفسير الجسيمي إلى ازدواج في التفسير؛ ذلك لأن مسألة كون المادة موجات أو جزيئات، هي مسألة تتعلق بموضوعات غير قابلة للملاحظة، وتتميز هذه الموضوعات في عالم الأبعاد الذرية، على خلاف نظائرها في العالم المعتاد، بأن من المستحيل تحديدها بطريقة موحدة بواسطة افتراض نظام سوي؛ إذ لا يوجد نظام كهذا.
ولا بد أن نعد أنفسنا محظوظين؛ لأن عدم التحدد هذا يقتصر على الموضوعات الصغيرة. فهو يختفي بالنسبة إلى الموضوعات الكبيرة؛ لأن اللاتحدد الذي يقول به هيزنبرج بالنسبة إلى الحجم الصغير للكوانتم عند بلانك، لا يكون ملحوظا في الموضوعات الكبيرة، بل إن من الممكن تجاهل اللاتحدد بالنسبة إلى الذرة ككل؛ لأنها كبيرة إلى حد ما، ونستطيع أن نعامل الذرات على أنها جسيمات، متجاهلين المفاهيم التموجية. أما التركيب الداخلي للذرة، الذي تقوم فيه الجزيئات الأخف، كالإلكترونات، بدور رئيسي، فهو وحده الذي يقتضي ثنائية التفسير كما تقول بها ميكانيكا الكوانتم.
ولكي نفهم ما تعنيه الثنائية، فلنتخيل عالما تسري فيه مثل هذه الثنائية على الأجسام الكبيرة، ولنفرض أن عيارات بندقية سريعة الطلقات تمر من خلال نوافذ غرفة، ثم نجد فيما بعد أن الرصاصات قد استقرت في جدران الغرفة، بحيث يبدو لنا من الأمور التي لا يتطرق إليها الشك أن الطلقات تتألف من رصاصات، كذلك نفترض أن مرور الطلقات عبر النوافذ يسير تبعا لقوانين الموجات التي تمر خلال الشقوق. ففي توزيع الرصاصات على الجدران، تكون الرصاصات أنموذجا من الشرائط مشابها لأنموذج التداخل؛ أي إننا عندما نفتح نافذة أخرى، مثلا، يصبح عدد الرصاصات التي تصطدم بمكان معين من الجدار أقل لا أكثر؛ لأن الموجات تتدخل عند هذه النقطة. فإذا كان من المستحيل ملاحظة الرصاصة وهي تمر بمسارها مباشرة، فإننا نستطيع عندئذ أن نفسر الطلقات على أنها تتألف من موجات أو جسيمات، ويكون كلا التفسيرين صحيحا، وإن يكن كل منهما يستتبع نتائج معينة غير معقولة.
على أن انعدام المعقولية في مثل هذا العالم سيظل على الدوام قائما بالنسبة إلى النتائج وحدها، لا بالنسبة إلى ما يلاحظ؛ فالملاحظات المنفردة لن تكون مختلفة عما نراه في عالمنا، وإنما يؤدي مجموعها إلى نتائج تتناقض مع أسس مبدأ السببية. ومن حسن حظنا أن عالمنا المؤلف من أحجار وأشجار وبيوت وبنادق ليس من هذا النوع، بل إنه ليس من الأمور المستحبة أن يعيش المرء في بيئة كهذه، تخدعنا فيها الأشياء من وراء ظهورنا، بينما تسلك سلوكا معقولا ما دمنا ننظر إليها. غير أننا لا نستطيع أن نستنتج أن عالم الأشياء الصغيرة ينبغي أن يكون له نفس التركيب البسيط الذي يتصف به عالم الأشياء الكبيرة؛ فالأبعاد الذرية لا تخضع لتحديد موحد بالنسبة إلى ما فيها من موضوعات غير ملاحظة، وعلينا أن نتعلم أن من الممكن وصف هذه الموضوعات بلغات متعددة، وأنه لا سبيل إلى القول بأن إحدى هذه اللغات هي وحدها الصحيحة.
هذه الصفة المميزة لحوادث ميكانيكا الكوانتم هي التي تنطوي في رأيي على المعنى الأعمق لمبدأ التكامل عند «بور»؛ فهو عندما يسمي وصف الموجة الجزيء وصفا تكامليا، يعني أنه بالنسبة إلى المسائل التي يكون أحد هذين الوصفين تفسيرا كافيا لها، لا يكون الآخر تفسيرا كافيا، والعكس بالعكس. مثال ذلك، إننا إذا كنا بصدد ملاحظات عدادات جيجر، التي تكشف لنا عن صدمات فردية موضعية، فإنا نستخدم التفسير الجزئي. وينبغي أن يلاحظ أن لفظ «التكامل» لا يفسر، أو يزيل، الصعوبات المنطقية التي تنطوي عليها لغة ميكانيكا الكوانتم، وإنما هو مجرد تسمية لها فحسب؛ فمن الحقائق الأساسية أنه لا يوجد نظام سوي لتفسير الموضوعات غير الملاحظة في ميكانيكا الكوانتم، وأن علينا أن نستخدم لغات مختلفة عندما نرغب في تجنب الانحرافات السببية بالنسبة إلى الحوادث المختلفة؛ ذلك هو المضمون التجريبي لمبدأ التكامل. ومن الواجب أن نؤكد أن هذا الموقف المنطقي ليس له نظير في عالمنا الفعلي الكبير؛ لذلك أعتقد أنه ليس مما يؤدي إلى إيضاح مشكلة ميكانيكا الكوانتم أن يشير المرء إلى «تكاملات» مثل الحب والعدل، والحرية والحتمية، وما إلى ذلك، وإنما أوثر في هذه الحالة التحدث عن «استقطابات»، بحيث يدل تغيير الاسم في هذه الحالة على أن لهذه العلاقات المنتمية إلى عالمنا الكبير المعتاد تركيبها يختلف كل الاختلاف عن التكامل في ميكانيكا الكوانتم. فليست لها علاقة بالتوسع في اللغة حين تمتد من الموضوعات الملاحظة إلى الموضوعات غير الملاحظة؛ وبالتالي فلا شأن لها بمشكلة الواقع الفيزيائي.
على أن هناك طريقة مختلفة لمعالجة المشكلة، استعين فيها بمراجعة المنطق؛ فبدلا من القول بثنائية لغوية، أو تكامل لغوي، وضعت لغة من نوع أشمل، يبلغ تركيبها المنطقي من الاتساع حدا يتيح الملاءمة بينها وبين الخواص المميزة للعالم الأصغر كما تقول به ميكانيكا الكوانتم؛ ذلك لأن لغتنا المعتادة مبنية على منطق ثنائي القيم؛ أي على منطق قيمتي الحقيقة «الصدق» و«الكذب»، ولكن من الممكن تكوين منطق ثلاثي القيمة، فيه قيمة متوسطة هي اللاتحدد، وفي هذا المنطق تكون القضايا إما صادقة، وإما كاذبة، وإما لا محددة، وبواسطة مثل هذا المنطق يمكن كتابة ميكانيكا الكوانتم بنوع من اللغة المحايدة، التي لا تتحدث عن الموجات أو الجزيئات، بل تتحدث عن الاتفاقات؛ أي الصدمات، وتترك مسألة ما يحدث في الطريق بين الصدمات أمرا غير محدد. مثل هذا المنطق يبدو أنه هو الصورة النهائية لفيزياء الكوانتم، بالمعنى البشري لهذا التعبير.
لقد كان الطريق طويلا من ذرات ديمقريطس إلى ثنائية الموجات والجسيمات. وقد تبين أن جوهر الكون - بالمعنى الذي يستخدمه العالم الفيزيائي، لا بالمعنى المجازي عند الفيلسوف الذي وحد بينه وبين العقل - ذو طبيعة مشكوك فيها إلى حد ما، إذا ما قورن بالجزيئات الصلبة التي ظل الفيلسوف والعالم يؤمنان بها قرابة ألفي عام. واتضح أن مفهوم الجوهر الجسمي، المشابه للجوهر الملموس كما يظهر في الأجسام التي نتعامل معها في بيئتنا اليومية، هو فكرة مقحمة من مجال التجربة الحسية. وتبين أن ما بدا شرطا عقليا في فلسفة المذهب العقلي - مثلما فعل «كانت» حين وصف تصور الجوهر بأنه تركيبي قبلي - هو نتاج لتعود أو تكيف مع البيئة. وإن التجارب التي تتيحها الظواهر الذرية لتحتم التخلي عن فكرة الجوهر الجسمي، وتقتضي إعادة النظر في طريقة الوصف التي نصور بها الواقع الفيزيائي. وباختفاء الجوهر الجسمي يختفي طابع اللغة المرتكز على قيمتين، بل يتضح أن أسس المنطق إنما هي نتاج للتكيف مع البيئة البسيطة التي ولد فيها البشر. والحق أن الفلسفة التأملية ذاتها لم تكشف أبدا عن قدرة على التخيل مماثلة لذلك العمق الذي أبدته الفلسفة العلمية مسترشدة بالتجارب العلمية والتحليلات الرياضية؛ فطريق الحقيقة مرصوف بتلك الأخطاء التي ارتكبتها فلسفة كانت أضيق من أن تتصور تنوع التجارب الممكنة.
অজানা পৃষ্ঠা