بين نتائج بورن ونتائج هيزنبرج، فوضع مبدأ التكامل
complementarity ، وهو المبدأ القائل إن تفسير بورن لا يقدم إلينا إلا وجها واحدا للمشكلة، ومن الممكن أيضا أن ننظر إلى الموجات على أنها ذات حقيقية فيزيائية، وهو رأي لا يكون فيه للجزيئات وجود. ولا سبيل إلى التمييز بين هذين التفسيرين؛ لأن اللاتحدد
فاصلة؛ أي إنه يؤدي إلى استبعاد التجارب التي تبلغ من الدقة حدا يكفي لتحديد أي التفسيرين هو الصحيح وأيهما الباطل.
وهكذا تتخذ ثنائية التفسير صورتها النهائية؛ فالكشف الذي توصل إليه دي بروليي، والقائل إن الذرات جزيئات وموجات «معا»، ليس له ذلك المعنى المباشر القائل إن الموجات والجسيمات توجد في وقت واحد، بل إن له معنى غير مباشر هو أن نفس الواقع الفيزيائي يقبل تفسيرين ممكنين، كل منهما يماثل الآخر في صحته، وإن يكن من غير الممكن الجمع بين الاثنين في صورة واحدة. وهذا ما يعبر عنه المنطقي بقوله إن واو العطف هذه (بين الموجات والجزيئات) ليست في لغة الفيزياء، وإنما فيما بعد اللغة
metalanguage ؛ أي في لغة تتحدث عن لغة الفيزياء، أو بعبارة أخرى، فإن واو العطف هذه لا تنتمي إلى الفيزياء، وإنما إلى فلسفة الفيزياء، وهي لا تشير إلى موضوعات فيزيائية، وإنما إلى أوصاف ممكنة للموضوعات الفيزيائية؛ وبذلك تكون منتمية إلى عالم الفيلسوف.
هذه، في الواقع، هي النتيجة النهائية للخلاف بين أنصار الموجات وأنصار الجسيمات، وهو الخلاف الذي بدأ بين هويجنز ونيوتن، وبلغ قمته، بعد تطور استمر قرونا، في ميكانيكا الكوانتم عند دي بروليي، وشرودنجر، وبورن، وهيزنبرج، وبور. فالسؤال «ما المادة؟» لا يمكن الإجابة عنه بالتجارب الفيزيائية وحدها، وإنما يحتاج إلى تحليل فلسفي للفيزياء؛ ذلك لأن الإجابة عنه تتوقف على السؤال «ما المعرفة؟» ففي خلال القرن التاسع عشر استعيض عن التفكير الفلسفي الذي كان موجودا في مهد المذهب الذري بالتحليل التجريبي، ولكن البحث وصل آخر الأمر إلى مرحلة من التعقيد تقتضي العودة إلى البحث الفلسفي. ومع ذلك فإن فلسفة هذا البحث لا يمكن التوصل إليها بالتأمل النظري البحت، بل إن الفلسفة العلمية هي وحدها التي تستطيع معاونة الفيزيائي في هذا المجال. ولكي نفهم هذا التطور الأخير يتعين علينا أن نبحث في معنى القضايا المتعلقة بالعالم الفيزيائي.
إن المعرفة تبدأ بالملاحظة؛ فحواسنا تنبئنا بما يوجد خارج أجسامنا. غير أننا لا نكتفي بما نلاحظه، وإنما نود أن نعرف المزيد، ونبحث في الأشياء التي لا نلاحظها مباشرة . ونحن نبلغ هذا الهدف بعمليات فكرية، تربط بين الوقائع الملاحظة، وتقدم لها تفسيرا في ضوء الأشياء غير الملاحظة. وهذه الطريقة تتبع في الحياة اليومية مثلما تتبع في العلم؛ فهي تطبق عندما نستدل من وجود برك صغيرة في الطريق على أن السماء قد أمطرت قبل وقت قصير، أو عندما يستدل العالم الفيزيائي من انحراف الإبرة الممغنطة على أن هناك كيانا غير مرئي، يسمى بالكهرباء، في السلك، أو عندما يستدل الطبيب من أعراض المرض على أن هناك نوعا معينا من البكتريا يسري في دم المريض. فلا بد لنا من دراسة طبيعية هذا الاستدلال، إذا شئنا فهم معنى النظريات الفيزيائية.
إن الاستدلال قد يبدو أمرا هينا طالما أننا لا نفكر فيه، غير أن التحليل العميق له كفيل بأن يكشف عن تركيب شديد التعقيد؛ فأنت تقول إن بيتك يظل في مكانه دون تغيير أثناء بقائك في مكتبك، فكيف عرفت ذلك؟ إنك لا ترى بيتك عندما تكون في مكتبك، ولكنك ستجيب بأن من السهل التحقق من هذه القضية بالذهاب إلى البيت والتطلع إليه. وصحيح أنك سترى بيتك عندئذ، ولكن هل تؤدي هذه الملاحظة إلى تحقيق عبارتك؟ إن ما قلته هو أن بيتك هناك عندما كنت تراه، فكيف تستطيع أن تتأكد من أنه كان هناك عندما كنت غائبا؟
وإني لأدرك أنك، أيها القارئ، قد أخذت تشعر بالحنق، وتقول: عجبا لأمر هؤلاء الفلاسفة الذين يريدون الضحك على عقول الجميع! إن البيت إذا كان هناك في الصبح وبعد الظهر، فكيف لا يكون موجودا قبل الظهر؟ أيعتقد الفيلسوف أن هناك مقاولا استطاع أن يهدم البيت في دقيقة ويعيد بناءه في دقيقة أخرى؟ وفيم يفيد مثل هذا السؤال الذي لا معنى له؟
إن المشكلة هي أنه، ما لم يمكنك الاهتداء إلى إجابة عن هذا السؤال أفضل من تلك التي يأتي بها الفهم العادي للإنسان، فلن نتمكن من حل مشكلة ما إذا كان الضوء والمادة يتألفان من جزيئات أو موجات. وهذه هي النقطة التي توصل إليها الفيلسوف؛ فالفهم العادي قد يكون أداة مفيدة بالنسبة إلى مشكلات الحياة اليومية، ولكنه يصبح أداة غير كافية عندما يبلغ البحث العلمي مرحلة معينة من التعقيد. فالعلم يقتضي إعادة تفسير لمعرفة الحياة اليومية؛ لأن المعرفة تكون لها آخر الأمر طبيعة واحدة، سواء أكانت متعلقة بالأشياء العينية، أم بمركبات التفكير العلمي. وعلى ذلك فمن الضروري الاهتداء إلى إجابات أفضل من الأسئلة البسيطة للحياة اليومية، قبل أن نستطيع الإجابة عن الأسئلة العلمية.
অজানা পৃষ্ঠা