على أن كلمتي «تجذب» و«تشد» اللتين استخدمناهما في المثال الأخير كلمتان محفوفتان بالخطر؛ فهما تنطويان على تشبيه بتجارب نفسية معينة؛ ذلك لأن الأشياء التي نرغب فيها، كالطعام أو السيارات الحديثة الطراز، تجذبنا، فنتجه إلى تصور جذب الأرض للأجسام كما لو كان إرضاء لرغبة معينة، من جانب الأرض على الأقل، غير أن مثل هذا التفسير إنما هو من قبيل ما يسميه المنطقي ب «التشبيه بالإنسان
anthropomorphism »؛ أي نسبة صفات بشرية إلى الموضوعات الطبيعية. ومن الواضح أن التوازي بين الحوادث الطبيعية والاهتمامات البشرية لا يقدم أي تفسير، فعندما نقول إن قانون الجاذبية عند نيوتن يفسر سقوط الأجسام، فإننا نعني أن حركة الأجسام نحو الأرض تندرج ضمن قانون عام تتحرك بمقتضاه كل الأجسام بعضها نحو البعض، وكلمة «الجاذبية» كما استخدمها نيوتن لا تعني أكثر من حركة الأجسام هذه بعضها نحو البعض؛ أي إن القوة التفسيرية لقانون نيوتن لا تستمد إلا من عموميته، لا من تشبيهه السطحي بالتجارب النفسية؛ وإذن فالتفسير تعميم.
وقد يتم التوصل إلى التفسير أحيانا عن طريق افتراض واقعة لم تلاحظ أو لا يمكن ملاحظتها. مثال ذلك أن نباح الكلب يمكن تفسيره بافتراض أن شخصا غريبا يقترب من البيت، ووجود الحفريات البحرية في الجبال يمكن تفسيره بافتراض أن الأرض كانت في وقت من الأوقات في مستوى أكثر هبوطا، وكان المحيط يغطيها، غير أن الواقعة غير الملاحظة لا تكون تفسيرية إلا لأنها تبين أن الواقعة الملاحظة مظهر لقانون عام، هي أن الكلاب تنبح عند اقتراب شخص غريب، أو أن الحيوانات البحرية لا تعيش في اليابس؛ وعلى ذلك فالقوانين العامة يمكن أن تستخدم في الاستدلالات التي تكشف وقائع جديدة، ويصبح التفسير أداة لتكملة عالم التجربة المباشرة بموضوعات وحوادث مستخلصة بالاستدلال.
فلا عجب إذن إن أدى التفسير الناجح لكثير من الظواهر الطبيعية إلى تكوين ميل إلى زيادة التعميم في الذهن البشري؛ ذلك لأن الوقائع الملاحظة، على كثرتها، لم تكن ترضي رغبتنا في المعرفة، وإنما كان السعي إلى المعرفة يتجاوز نطاق الملاحظة ويحتاج إلى تعميم. ومع ذلك فإن الأمر الواقع المؤسف هو أن الناس يميلون إلى تقديم إجابات حتى عندما تعوزهم وسائل الاهتداء إلى إجابات صحيحة؛ فالتفسير العلمي يقتضي ملاحظة واسعة النطاق، وتفكيرا نقديا فاحصا، وكلما كان التعميم الذي نسعى إليه أعظم، كانت كمية المادة الملاحظة التي يحتاج إليها أكبر، وكان التفكير النقدي الذي يقتضيه أدق. أما في الحالات التي كان التفسير العلمي يخفق فيها نظرا إلى قصور المعرفة المتوافرة في ذلك الوقت عن تقديم التعميم الصحيح، فقد كان الخيال يحل محله، ويقدم نوعا من التفسير يشبع النزوع إلى العمومية عن طريق إرضائه بمشابهات ساذجة؛ وعندئذ كان يشيع الخلط بين التشبيهات السطحية، ولا سيما التشبيهات بالتجارب البشرية، وبين التعميمات، وكانت الأولى تؤخذ على إنها تعميمات، وهكذا تتم تهدئة الرغبة في الوصول إلى العمومية، عن طريق تفسيرات وهمية؛ وعلى هذا الأساس نبتت الفلسفة.
مثل هذا الأصل لا يبدو مشرفا، غير أنني لست بسبيل كتابة خطاب توصية وتقريظ للفلسفة، وإنما أود أن أفسر وجودها وطبيعتها. ومن الحقائق التي ينبغي الاعتراف بها أن ما في الفلسفة من نواحي الضعف والقوة معا، يمكن تفسيره عن طريق إرجاعها إلى مثل هذا الأصل المتواضع.
فلأضرب مثلا لما أعنيه بالتفسير الوهمي. إن الرغبة في فهم العالم الفيزيائي قد أدت في كل العصور إلى إثارة السؤال عن كيفية بدء العالم، وفي أساطير الشعوب جميعا تفسيرات بدائية لأصل الكون، وأشهر قصة للخلق، وهي تلك التي أنتجتها الروح العبرانية الخيالية، متضمنة في العهد القديم، وهي ترجع إلى حوالي القرن التاسع ق.م، وهي تفسر العالم على أساس أنه من خلق «ياهوا». هذا التفسير من النوع الساذج الذي يرضي ذهنا بدائيا، أو ذهنا شبيها بأذهان الأطفال؛ إذ يستعين بتشبيهات بشرية؛ فكما يصنع البشر بيوتا وأدوات وحدائق، فكذلك صنع «ياهوا» العالم. وهكذا فإن السؤال عن منشأ العالم المادي، وهو من أهم الأسئلة وأكثرها أهمية، يجاب عليه عن طريق التشبيه بتجارب من البيئة اليومية. ولقد لاحظ الكثيرون، عن حق، أن هذا النوع من الصور لا يشكل تفسيرا، وأنها لو صحت لزادت من صعوبة حل مشكلة التفسير، فقصة الخلق تفسير وهمي.
ومع ذلك، فما أعظم القوة الإيحائية الكامنة فيها! لقد قدم بنو إسرائيل إلى العالم، وهم لا يزالون في مرحلة بدائية، قصة تبلغ من الحيوية حدا جعلها تخلب ألباب القراء جميعا حتى يومنا هذا؛ فخيالنا يفتتن بالصورة الوقور لإله قديم تحركت روحه فوق صفحة المياه، وأوجد العالم كله بقليل من الأوامر، كذلك فإن هذه القصة القديمة الرائعة ترضي رغباتنا العميقة الكامنة في أن يكون لنا أب قوي، غير أن إرضاء الرغبات النفسية ليس تفسيرا. والواقع أن الفلسفة ظلت على الدوام تتعرض لخطر الخلط بين المنطق والشعر، وبين التفسير العقلي والخيال، وبين العمومية والتشبيه. وكم من المذاهب الفلسفية يشبه العهد القديم في كونه عملا شعريا رائعا، يزخر بالصورة التي تثير خيالنا، ولكنه يفتقر إلى القدرة على الإيضاح، وهي القدرة المنبعثة من التفسير العلمي.
وهناك بعض التفسيرات اليونانية لأصل الكون، تختلف عن قصة أصل العالم عند بني إسرائيل في كونها تفترض تطورا، لا خلقا. وهي في هذه الناحية أقرب إلى الطابع العلمي، غير أنها لا تقدم تفسيرا علميا بالمعنى الحديث؛ لأنها بدورها مبنية على تعميمات بدائية من التجربة اليومية؛ فقد كان أنكسمندر الذي عاش حوالي عام 600ق.م يعتقد أن العالم قد تطور من جوهر لا محدود، أطلق عليه اسم «الأبيرون
apeiron »؛ ففي البدء انفصل الحار عن البارد، الذي أصبح هو الأرض أو التراب، ثم أحاطت النار الحارة بالأرض الباردة، فغلفتها حلقات من الهواء أسطوانية الشكل، وما زالت النار على هذا الوضع، فهي ترى من خلال ثقوب الاسطوانات، التي تبدو لنا في صورة الشمس والقمر والنجوم. أما الكائنات الحية فقد تطورت من الرطوبة المحيطة بالأرض، وبدأت بأشكال دنيا، بل إن البشر أنفسهم بدءوا أسماكا. وهكذا فإن الفيلسوف الذي قدم إلينا هذه الصورة الخيالية لأصل العالم قد نظر إلى التشبيه على أنه تفسير، ومع ذلك فإن تفسيره الوهمي ليس عقيما كل العقم، وإذا استخدمت مرشدا لمزيد من الملاحظة والتحليل، فقد تؤدي بمضي الوقت إلى تفسيرات أفضل. مثال ذلك أن أشكال أنكسمندر الأسطوانية الشبيهة بالعجلات إنما هي محاولات لتفسير المسارات الدائرية للنجوم.
إن هناك نوعين من التعميم الزائف، يمكن تقسيمها إلى ضربين من الخطأ، أحدهما لا يجلب ضررا، والآخر ضار. أما أخطاء النوع الأول، التي نصادفها في كثير من الأحيان لدى فلاسفة ذوي أذهان تجريبية، فمن السهل تصحيحها وتقويمها في ضوء المزيد من التجربة؛ وأما أخطاء النوع الثاني، التي تتألف من تشبيهات وتفسيرات وهمية، فتؤدي إلى المجادلات اللفظية الفارغة، وإلى النزعة القطعية الخطيرة. ويبدو أن هذا النوع من التعميمات يسود أعمال الفلاسفة التأمليين.
অজানা পৃষ্ঠা