الذي قدم القاهرة آتيا من رشيد بعد مدة من سقوط القاهرة في أيدي الفرنساويين، وروى كتاب الحملة الفرنسية أن الجنود الفرنسيين كانوا يجدون في ملابس كل واحد من المماليك الصرعى في ميدان القتال «واقعة إمبابة» ما لا يقل عن نحو مائتين أو مائتين وخمسين قطعة من الذهب، عدا ما تقدر به ملابس الواحد منهم وطيلسانه وسلاحه وسراج جواده، من المبالغ الطائلة.»
تجارة مصر قبل الحملة الفرنسية
لم يكن من الممكن مع حكومة لحكومة المماليك، أن تنمو التجارة، أو تتسع المعاملات الداخلية والخارجية، وقد سبق لنا أن شرحنا، في هذه المقدمة أن مصر لم تعد بعد طريق التجارة الشرقية من موانئ آسيا إلى أوروبا، بعد أن اكتشف طريق الرجاء الصالح، ولو كانت على ضفاف النيل حكومة عادلة، لفضل التجار إرسال متاجرهم عن طريق البحر الأحمر، ونقلها من السويس إلى الإسكندرية بدلا من تعرضها لأخطار البحار العظمى حول إفريقية، وواسع المحيط الأطلانطيقي، «وسنزيد هذه النقطة إيضاحا عند الكلام على تجارة الهند» ... ولو أن الحكومة العثمانية، بعد فتح مصر، فكرت في صالح نمو التجارة، وقدرت خسارة مستعمرتها الجديدة، من اكتشاف طريق الرجاء الصالح، خصوصا وقد حاربت بأساطيلها البرتغال الذين كانوا يهددون تجارة مصر، كما سبق لنا بيانه، نقول لو أن الحكومة العثمانية فكرت في هذا الأمر، وأعادت حفر خليج أمير المؤمنين «الذي احتفره عمرو بن العاص بأمر الخليفة عمر بن الخطاب لنقل المئونة إلى الحجاز، والذي أمر بردمه ، في سنة 134 هجرية، الخليفة المنصور أبو جعفر ثاني الخلفاء العباسيين لكي يمنع وصول الإمداد إلى العلويين الذين طالبوا بالخلافة في المدينة المنورة»، لسهلت للتجارة النقل بحرا من الهند إلى أوروبا، عن طريق مصر ولكنهم لم يفعلوا هذا، ولم يتمكنوا من نشر سيادتهم البحرية في المياه الهندية، وزد على ذلك أن مظالم المماليك وتعديهم على التجار الأوروبيين الذين كانوا يأتون لشراء حاصلات مصر، وما يصل إليها من المماليك الشرقية الآسيوية بطريق القوافل، كانت من أكبر الضربات على التجارة المصرية، ولقد انحط مقام الإسكندرية حتى لم يبق فيها من السكان إلا ثمانية آلاف
6
وزاد الطين بلة فيها أن الحكومة العثمانية احتكرت لنفسها الجزء القديم من الميناء، وهو الجزء الذي يصلح لرسو السفن، فكانت السفن الأجنبية القادمة بالمتاجرة وللشراء مضطرة أن ترسو خارج الميناء الجديدة معرضة للزوابع والزعازع، ورأى مؤرخو الإفرنج «في سنة 1766» أنه بينما كان علي بك الكبير يحارب الدولة هبت ريح عاتية أغرقت اثنين وأربعين سفينة كانت راسية في ميناء إسكندرية، ولم تكن الإسكندرية متصلة بالنيل بقناة تنقل لها الماء الحلو، وكانت هناك قناة مرسومة في الخرائط الفرنسية وهي الترعة المسماة بالمحمودية، نسبة إلى السلطان محمود، ولكن ما كانت توصل المياه إلا في زمن الفيضان فقط، فكان اعتماد سكانها على مياه الأمطار يحفظونها في الصهاريج. •••
وحاول جماعة من تجار الإنكليز تسيير القوافل بين السويس والقاهرة لنقل المتاجر الهندية إلى عاصمة القطر، ثم نقلها بواسطة النيل، إلى دمياط أو رشيد، ولكن مظالم المماليك، وتعدي العربان على القوافل، أوقف تلك المشروعات التي كانت تساعد على نمو التجارة المصرية، وليست هذه الأقوال لكتاب أوروبيين حتى يتهموا بالتعصب لقومهم، فإن الشيخ عبد الرحمن الجبرتي يقول في ترجمة مراد بك «فأحدث المترجم ديوانا خاصا بثغر رشيد على الغلال التي تحمل إلى بلاد الإفرنج وسموه ديوان البدعة، وإذن ببيع الغلال لمن يحملها إلى بلاد الإفرنج وغيرها، وجعل على كل إردب دينارا خلاف البراني «يعني الرشوة والمغارم»، والتزم بذلك رجل من أعوانه الموصوفين بالجور وسكن برشيد، وبقيت له بها وجاهة، وكلمة نافذة، فجمع من ذلك أموالا وإيرادا عظيما، وكانت هذه البدعة السيئة من أعظم أسباب قوة الفرنسيس وطمعهم في الإقليم المصري، بعدما أضيف إلى ذلك من أخذ أموالهم ونهب تجارتهم وبضاعتهم، من غير ثمن، واقتدى به أمراؤه «أمراء مراد بك» وتناظروا في ذلك وفعل كل منهم ما وصلت إليه همته واستخرجته فطنته.» وقال عنه أيضا: «واختص بالسيد محمد كريم السكندري ورفع شأنه بين أقرانه فمهد له الأمور بالثغر وأجرى أحكامه به، وفتح له باب المصادرات والغرامات ودله على مخبئات الأمور، وأخذ أموال التجار من المسلمين وأجناس الإفرنج، حتى تجسمت العداوة بين المصريين والفرنسيين ... إلخ.» وقال في ترجمة السيد محمد كريم المذكور: «وقلده مراد بك أمر الديوان والجمارك بالثغر فزاد في المكوسات، ومصادرات التجار، خصوصا الإفرنج.»
ومن رأي «جودت باشا» في تاريخه أن الذي دعا الفرنسيين للحملة على مصر هو ما أتاه المعلم نقولا النصراني الذي جعله حسن باشا قبودان رئيسا للقلونجية «البحارة» في الترسانة التي شادها هذا بالجيزة لإنشاء السفن، فإنه بعد أن اشتد نفوذه وعظم شأنه، أكثر من التعدي على سفن الإسلام والإفرنج معا.
7
وكانت نتيجة ذلك كله أن مصر تدهورت إلى هوة الخراب الاقتصادي الذي تجرعت منه الأمرين، وقاسى منه أهلها الجوع والعراء والمظالم، نحو ثلاثة قرون من الزمان حتى اضمحل شأنها، وفقدت منزلتها التي كانت لها في العالم القديم والحديث، وحتى هجرها أهلها، وهي البلاد التي لا يحب أهلها هجرها، ولا غرابة أن تتضاءل مصر في ثلاثمائة عام حتى تعود خيالا، لما كانت عليه من قبل، وحتى ينقص عدد سكانها من نحو 15 مليونا إلى نحو مليونين ونصف.
ولكن بالرغم عن كل هذا فإنه بقيت لمصر تجارة ترد إليها بالقوافل من اليمن وبلاد الحبشة وسوريا شرقا، وطرابلس وتونس والجزائر والصحراء غربا، فكان يرد من اليمن، البن وبهارات الهند والأقمشة الهندية الجميلة، ويرد من الحبشة الصمغ والعاج والريش، ومن دمشق الأقمشة الحريرية المشهورة ومن بلاد الغرب والصحراء الصوف والجلود، والتمر وما أشبهه ذلك، وكانت التجارة الأوروبية بين الإسكندرية ورشيد ودمياط وموانئ أوروبا متواصلة الأخذ والعطاء فكانت يرد السفن من فرنسا بالأقمشة والمعادن والخردوات والمصنوعات، وتعود حاملة للأقمشة القطنية والبن اليمني والريش والعاج والصمغ والقمح والأرز.
অজানা পৃষ্ঠা