ونحن لا نجادل في أن الأمور التي عددها المعلم نقولا قد آلمت المسلمين وقرحتهم في مشاعرهم، ولكنها لم تكن هي السبب الأصلي في الثورة؛ لأن منشور الجزار ومكاتيب المماليك لم تصل القاهرة إلا بعد الثورة بنحو أسبوعين، كما هو وارد في الجبرتي، وما نظن الجزار في عكا قد طبع منه المئات والألوف، بل غاية ما كتب منه بضع نسخ وقعت في أيدي الفرنساويين فأبادوها، حتى إن الجبرتي نفسه لم يحصل على نسخة منها، وكذلك المعلم نقولا نفسه بدليل خلو كتابيهما منه، ثم إن المصريين كانوا قد ألفوا خروج النسوة العاهرات مكشوفات الوجوه مع الفرنساويين، والكثير من أولئك النسوة كن من السراري والجواري البيض والحبشان اللاتي وجدهن الفرنساويون في دور المماليك، وأولئك النسوة لا دين لهن ولا عرض وليسوا مصريات، وما كان المصريون يعدونهن من الحرائر إلا إذا اعتقن وتزوجن بعقد نكاح، وهذا الجبرتي، وهو من أقدم البيوتات العريقة في الحسب والنسب، ومن أهل التقوى والشدة في الدين، يذكر خروج أولئك النسوة مع الفرنساويين بغير تغيظ ولا انتقاد، كقوله عند سفر الفرنساويين للشام «وكان معهم عدة مواهي ومحفات للنسوة الجواري البيض والسود والحبوش اللاتي أخذوها من بيوت الأمراء وتزيا أكثرهن بزي نسائهم الإفرنجيات.» وكتب الجبرتي عن حضور القومندان الفرنسي لخط الشهد الحسيني وجلوسه في القهاوي مع الأهالي فقال: «ويحضر معهم ذلك الضابط ومعه زوجته وهي من أولاد البلد المخلوعين.» «كذا»، وغير خاف أن أولئك النسوة الرقيقات، من الأرمنيات والروميات والجركسيات، كن حلا لمن يبتاعهن من النصارى واليهود، وكان أغنياء الأقباط يتخذون منهن السراري كعادة المسلمين في ذلك الزمن، فما كان خروجهن مع الفرنساويين داعيا للثورة، وإن كان فيه من تغيير القلوب، واستنكار كشف وجوههن، بعد أن كن نسوة للمماليك وغيرهم، ما فيه ثم إن شرب الجنود الفرنسية للخمر وبيعه لهم بواسطة نصارى الشوام أو الأورام لا ينغص عيش المسلمين ويدفعهم إلى الثورة، ومن الغريب أن المعلم نقولا الترك يعدد كل هاتيك الأسباب وينسى السبب المباشرة للثورة كما اعترف به الفرنساويون وشهد به المعاصرون.
وقد كتب الشيخ عبد الله الشرقاوي في رسالته «تحفة الناظرين» قال: «فلما قامت عليهم أهل مصر بسبب طلبهم تقريد غرامة «كذا» على البيوت، قتلوا منهم ما يقرب من الألف، وهتكوا بعض الأعراض في مصر وقتلوا من علماء مصر نحو ثلاثة عشر عالما، ودخلوا بخيولهم الجامع الأزهر.» فالشيخ الشرقاوى، كبير علماء المسلمين في ذلك الزمن، قد كان أولى من المعلم نقولا الترك بأن يذكر أن خروج النساء حاسرات الوجوه، وبيع الخمور، وهدم المآزن والمساجد، كل ذلك كان سببا للثورة، بدلا من تخصيصه السبب بذكر الضرائب على البيوت.
والخلاصة أن الباحث المدقق والمؤرخ المنصف يحكم لأول وهلة أن السبب الأصلي في تلك الثورة هو مشروع هاتيك الضرائب الفادحة، ولا نزاع مطلقا في أنه متى وجد السبب، ودبت عقارب العدوان، وغلت مراجل القلوب، تكونت الأسباب الأخرى المرشحة للسبب الأول فتعطيه صفة تطير حولها قلوب العامة والغوغاء، ومن قبل فيعرض منهم حياته للموت الزؤام تحت مخدر المؤثرات الدينية، والعوامل الملية، والنعرات والقومية ... فالتعصب الديني الذي ينسبه الكتاب المسيحيون من أمثال نقولا الترك ومن جاراه من المؤلفين الحديثين، كالشيخ الدحداح ومن على شاكلته، لم يكن هو سبب الثورة بحال من الأحوال، وإن تكن الثورة قد لبست ثوب الدين في شكل من أشكالها، فما ذلك إلا لمقتضيات الظروف التي لا بد منها، والتي تصحب هياج العامة في كل زمان ومكان.
وليست هذه أول مرة ثار أهالي القاهرة «أو كانوا على أبواب الثورة » بسبب الضرائب والمغارم فقد حدث في سنة 1202؛ أي: قبل هذا التاريخ بإحدى عشر عاما أن إسماعيل بك فرض ضريبة على سكان القاهرة فذهب رؤساء الحرف والطوائف إلى الشيخ العروسي، شيخ الجامع الأزهر، كما ذهب القوم في هذه المرة إلى دار القاضي، وركب الشيخ العروسي معهم وقبل إسماعيل بك شفاعته خوف الفتنة، وإن يكن قد جمع ما أراد بعد بطرق أخرى.
19
هوامش
الفصل الثاني عشر
ثورة القاهرة
ذكرنا في الجزء الأخير من الفصل السابق العوامل التي كونت أسباب ثورة أهالي القاهرة التي حدثت في يوم الأحد 21 جمادى الأولى سنة 1213 21 أكتوبر سنة 1798، وقد اطلعنا على نص التقرير الذي بعث به نابوليون لحكومة الديركتوار في باريس عن هذه الثورة، وهذا التقرير مؤرخ في 27 أكتوبر ومحفوظ في مكاتبات نابوليون بنمرة 3538، فلم نر فيها أثرا لذكر السبب الذي حمل الأهالي على الثورة والهياج، وكل ما فيه بيان للخطة الحربية التي اتخذها لإخماد تلك الثورة، وكنت أود أن أنقل عن الجبرتي وصفه لهذه الثورة الداخلية، كعادتي في الاعتماد عليه في المواقف الأهلية التي تصور للقارئ الذكي حالة الشعب المصري العقلية والنفسية في ذلك الزمن، ولكن مولانا الجبرتي خرج عن أسلوبه الطبيعي البسيط الذي يدون الحقائق عارية عن ثوب الخيالات، واختار لوصف تلك الثورة الفريدة في بابها، بل ربما كانت الأولى والأخيرة من نوعها؛ لأنها قد كانت في الحقيقة ثورة أهلية ضد مظلمة عمومية، وأما الثورة الثانية في زمن كليبر، فقد كانت حربا بين جنود الترك والمماليك الذين دخلوا القاهرة بعد انهزام جيش الصدر الأعظم في المطرية وبين الجنود الفرنساوية، نقول: إن الشيخ الجبرتي اختار لوصف هذه الثورة أسلوب المقامات السجعية، ليظهر كفاءته الكتابية في ذلك الأسلوب الذي كان يعجب به أهل زمانه إعجابا كبيرا، ومع ذلك فلا بد لنا من الاعتراف بأن اعتمادنا واعتماد كل مؤرخ في وصف هذه الثورة من وجهة النظر المصرية عليه دون سواه؛ لأنه «شاهد عيان» وإن يكن - كما يخيل لي - قد أنشأ هذه المقامة التاريخية بعد مضى الحوادث بزمن طويل؛ لأنه لو دونه في وقتها لكان أسلوبه فيها بسيطا دقيقا كعادته.
انقضى المجلس العمومي، أو الجمعية العمومية على اصطلاح زماننا، يوم السبت بعد تقرير تلك الضرائب الجديدة الفادحة فكثر لغط الناس وتناجوا فيما بينهم، واندس فيهم من ذوي الأغراض وآلات الفساد من أوغر صدورهم، ومن هؤلاء بعض آلات الإنكليز وجواسيسهم، كما يذهب إليه كتاب الفرنساويين،
অজানা পৃষ্ঠা