وكان وقع الخبر بطبيعة الحال على الفرنساويين شديد، والذي يقوله «ميو» في مذكراته يعبر عن شعور الفرنساويين؛ لأن «ميو» كما سبق أن ذكرنا، كان مع نابوليون في محاربة إبراهيم بك، وعلم بالخبر عند قدوم رسول كليبر بالقرب من الصالحية، وقد أكثر «ميو» من الندب والعويل قائلا: «يا رب كيف تنتهي هذه الحملة في مصر، وكيف نؤمل المساعدة وقد حيل بيننا وبين بلادنا! أنعيش في مصر بقية حياتنا، بعيدين عن أولادنا وآبائنا وأزواجنا وخليلاتنا ...؟ فقدنا كل هذا وأصبحنا في ديار مقفرة، وبين قوم لا نألفهم ولا يألفونا ... إلخ.» وقال بوريين: «بالرغم من تجلد نابوليون وتدرعه بالصبر ليبعث الطمأنينة في قلوب القواد والضباط والجنود ، فإنه كان كلما سار على انفراد معي يبدي الجزع، ويظهر الغيظ والحنق، قائلا: «إن حكومة الديركتوار مؤلفة من رجال سفلة أدنياء فهم يحسدونني ويبغضونني، وأحب ما يحبون أن أفنى أنا ومن معي في هذه البلاد، وفضلا عن كل هذا أفلا ترى أن جميع الجنود يتذمرون ولا يود واحد منهم الإقامة هنا»، وقال بوريين أيضا: «وعبثا كنت أهدئ خاطره وأعزيه بقول: حقيقة إن الخطب جلل، ولكنه كان يكون أشد وأنكى لو أن نلسون عثر بالحملة وهي قادمة لمصر وحطم عمارتنا وأغرقنا مع جنودنا، أو لو بقي نلسون في الإسكندرية أربعا وعشرين ساعة لكانت القاضية علينا، أما الآن فنحن حكام هذه البلاد، ولدينا الجنود والذخائر، والخيرات والأموال.» (2) سياسته بعد المعركة
كان نابوليون رجلا في مقتبل عمره ممتلئ الصدر بالآمال الكبار، حديد العزيمة، قوى الإرادة، فلذلك وطد همته على النظر إلى مركزه الجديد بعين الحكمة فجمع لديه نخبة قواده وأركان حربه وألقى عليهم خطابا حماسيا يحرك الأشجان؛ إذ قال لهم: «إن كانت الظروف قضت علينا أن نبقى هاهنا، وأن نقوم بأعمال عظيمة لنقم بها! وإن قضت علينا أن ننشئ مملكة واسعة فلننشئها! وإن كانت البحار التي ليست لنا فيها سيادة قد فصلت بيننا وبين وطننا فإنه لا توجد بحار تفصلنا عن إفريقيا وآسيا! وهانحن كثير والعدد والعدة، وإن لزمنا جنود أخرى فإننا نجند من هذه الديار وغيرها، وإن لزمتنا ذخائر فعلى شامبي وكونتيه
3
أن يقوما بصنعها لنا ... فلنكن عظاما ولنفعل العظائم.»
4
ثم أخذ يشرح لهم مركز القطر المصري، وموارده الطبيعية التي تحتاج إلى حسن تدبير ونظام كي يعود إلى ما كان عليه من الثروة في الأزمان الماضية، وإذا ساعدت تلك الموارد الطبيعية الصناعة الحديثة، والعلوم العصرية، أمكن أن توجد على شواطئ النيل دولة عظيمة الشأن، ثم ذكرهم بأن مركزهم في مصر حصين، تحده من الشرق الصحراء ومن الشمال البحر، وأن أول واجباتهم أن ينشطوا الجنود، وليذكروا دائما أن الصفات الكريمة في الإنسان إنما تظهر في أوقات الشدائد، وختم خطابه قائلا «يجب علينا أن نرفع رءوسنا، ونصعد على الموجة، ونهزأ بالعواصف والزعازع، فربما قد قدر لنا أن نغير صحيفة الشرق، وأن نضع أسماءنا بجانب أسماء أولئك الرجال العظام الذين خلد التاريخ أسماءهم.»
5
كان نابوليون في «الدور الأول» يريد أن يجعل مصر مستعمرة فرنساوية تتصل بفرنسا، وأما في هذا الدور - بعد أن حيل بينه وبين وطنه - فقد صمم على أن يجعلها دار إقامة، وقصبة ملك كان يحلم به في الشرق، كما هو ظاهر من كلماته التي ألقاها على ضباطه، ولذلك كانت خطته السياسية في هذه المدة، التوسع في استجلاب رضاء المصريين والتقرب منهم، والامتزاج بهم، فكأنما يقول: أما وقد قضي علينا بالبقاء مع هؤلاء القوم فلنجتهد في إدراك تصوراتهم وفهم معتقداتهم، والاشتراك معهم في أخلاقهم وعاداتهم، ولطالما قيل إن نابوليون أسلم أو ادعى الإسلام، وللمؤرخين مناقشات في هذا الصدد سنأتي على شيء منها بعد، والمؤكد في الأمر أن فكرة إسلام نابوليون ترجع إلى هذه الفترة.
يجوز لنا أن نتصور بحق أن نابوليون، وقد أدرك واعتقد أو تصور «لأنه لم يكن قط يحلم بأنه يستطيع العودة إلى فرنسا ويؤسس فيها ما أسسه من الملك والصولة والإمبراطورية العظيمة» أنه وقد حيل بينه وبين بلاده، فإنه سيبقى في هذا الديار ويقيم فيها سلطة تضارع سلطة المماليك، مثل السلطان حسن أو الغوري أو بيبرس أو صلاح الدين «ولم يكن الكثيرون من المماليك مسلمين أصلا» ... ولا يبعد أن نابوليون مع ما أوتي من سعة القريحة ومضاء العزيمة، وبعد الخيال، قد صور لنفسه وفي نفسه مملكة مصرية يملكها بونابرت، تتسلط على البحر الأحمر، وبلاد العرب والشام أيضا، ويتم له في مصر ما تم لمحمد علي، وهو أكفأ منه سياسة وأكثر علما، ومعه رجال من الدرجة الأولى في الكفاءة العلمية ... فلماذا لا تكون فكرة الإسلام قد توطدت في نفسه واعتمدها، وكان من الممكن - إذا لم يستطع مبارحة القطر المصري - أن يقوم بتنفيذها! وأي خيال يستطيع أن يصور لنا ماذا كان مستقبل مصر، لو أن نابوليون أسلم حقيقة، وصاغ مصر والشرق على درجة ما استطاع أن يفعل بعد في فرنسا!!
وكانت الصفحة الثانية من سياسته الداخلية تقضي عليه بأن يهيئ لضباطه وجنوده أسباب الراحة والاطمئنان ووسائل التسلية، ليخفف عنهم ألم الحنين إلى الوطن وليوطد عزيمتهم على البقاء في هذه الديار واتخاذها وطنا ثانيا.
অজানা পৃষ্ঠা