ولقد قال الوزير حقا إذ قال في خطبته: إنهم بذلك إنما يرمون أمتهم بأشنع التهم، وأنكر الشنائع؛ إذ ينسبون إليها أنها تقتاد سهلة ذلولا في يد من يسوقها، وأنها لا تجتمع إلا على طغام كالنعام، يتبعون أول ناعق، وأنها تستسلم استسلام الأعمى حتى فيما يعود على الأمة بالضر والذلة.
أولئك هم الذين يودون أن يتراءوا للأمة قادة مخلصين، ويبدوا مصلحين صادقين، وتتجلى الغيرة المتقدة من نواحيهم، وتظهر الحمية الملتهبة من جوانبهم، على حين يسيئون إليها ، ويستخفون منها، ويضللون فيها الرأي، وينكرون وضح الشمس، ولكن الأمة لم تعد طفلة تغريها بالنوم مناغاة أولئك المراضع، والأمة التي نهضت للثورة، وثارت للحياة الصحيحة المنتعشة القوية، وصاحت فيها النسوة يطالبن بمقاعد لهن في مجلس الإنابة، لا يقع عندها الخداع، ولا تستمع لأحداث الخيانة المرتدية أثواب الصدق، والغيرة، والوفاء. •••
ولو أن صاحب الترجمة كان يخشى شنشنة هؤلاء الثرثارة، ويخاف خصومة أولئك الخصوم، ويضطرب من تألب هؤلاء المستنفرة، ويرعد من عداوة الأفاكين، وأهل القلوب المرضى لكان أولى به أن يصانعهم، وكان أخلق به أن يلاينهم، وينزل على أحكامهم، ويهرب من خصومتهم، ويسعى جهده في سبيل سكوتهم، ولو أنه طلب ذلك، ووضع هذا المقصد نصب عينه لطاوعه ما أراد، وضمهم إليه، وساقهم إلى جواره، ولكن أبى إلا أن يكون فردا، ويعمل فردا، ويدأب منقطعا إلى نفسه، خاليا إلى عزلته، فإن انتصر له قوم أدركوا أن الحق في جانبه؛ فنعمت النصرة، وإن هزمه قوم، وخذله فريق، فما كان ليخشى خذلانهم؛ لأنه يعلم من نفسه أكثر مما يعلمون، وهو خليق بأن يصطبر لهم، ويتمهل عليهم، ويرتقب رجعتهم إلى الحق؛ لأن الحق عائد بأهل الضلة إليه، وإن بعدت المسافة، وتراخت الشقة، ولكنه - كما قلت - لا يخشى من جانب أولئك الخصوم شيئا؛ لأنه يعيش أبدا على ضميره، ويتلقى وحي الحق من وجدانه، ولقد قال في خطبته: «إني أيها السادة لا أكره المعارضة، بل إن عزت علي تلك المعارضة فإنني أعمل على خلقها، ذلك جلال العبقرية السياسية التي تستقبل خصومها مرحبة بهم، مؤهلة بخصومتهم، فرحة بتألبهم، واجتماعهم عليها، وتضافرهم على سمعتها، عالمة أن كل ضربة لا تقتلها تفيدها، كما قال نيتشه في بعض تواليفه، وما رأينا قبل هذا وزيرا مصريا صرح بكلمة مستبسلة كهذه، ولا شهدنا رجلا خطيرا وقف هكذا مناديا الناس إلى مخاصمته، صائحا على أعدائه أن يقبلوا على حواره ومناقشته مهيبا بهم أن يحشدوا كل ما أوتوا من قوة لمكافحته؛ لأنه لا يستطيع أن يقنع الناس جميعا بنقاء وجدانه، وصفاء نفسه، وطهر ما يخرج من يده .
ولو أنه عمل عملا صالحا، ورأى الناس حوله سكوتا، لا تتحرك شفاههم بكلمة نقد، ولا تجري أقلامهم بمعارضة، أو رد لتلتلج في خاطره أن الناس لم يفهموا عمله على حقيقته، ولم يدركوا وجه الخير منه، فلا يفتأ يستثير القوم إلى إبداء آرائهم، والمصارحة بخواطرهم حتى تهدأ نفسه على عمله، ويتلقى من الناس التشجيع على المتابعة، والتعضيد للتقدم، والمؤازرة على النهوض والسعي، وأنه لأفرح بالنقد منه بالمديح، وأروح خاطرا بالمعارضة منه بالمؤازرة؛ لأن المديح لا يكاد يصل إليه؛ لأنه في شغل عنه، ولأن الثناء عليه لا ينال منه غير التجهم، ولا يصيب منه الرضى؛ لأنه يعلم مقدار ما في هذا الثناء من خديعة، ويدرك أن التمدح لا يزيده شيئا، ولا يكمل منه نقصا، ولا يخلع عليه فضلا طريفا، ولا يزداد به ثقة بنفسه، وثباتا على عقيدته، ولكن النقد يظفر منه بالابتسام، ويثير في نفسه السرور، ويشع في نواحي روحه، ويفتح شهيته للعمل؛ لأنه يدرك من نفسه أنه لم يتخذ على الحق عهدا أن يؤاتيه في كل يوم، ولم يكتب بينه وبين القدر وثيقة وعقدا مبرما أن لا يسير إلا على هواه، ولا يأتمر إلا بأمره، بل هو يعمل متوخيا الخير جهده، متحريا الحق بكل قوته، فإن لم يصبه فعلى الناس أن يصيبوه معه، ويعينوه على الظفر به، ولا يتوفر له ذلك إلا بنقد الناقدين، ومعارضة المعارضين المخلصين، وهذا هو الذي بعثه على أن يقول كلمته تلك؛ لأنه لا يدعي لنفسه السيادة على الأذهان، والسيطرة على الضمائر، وهو ليس بالوطني الأوحد، والقوم من خلفه كذبة خونة منافقون، ونحن لم نر هذا الوزير يوما جانحا إلى الاستبداد بأمته، وإملاء رأيه عليها، وإكراهها على أمر لا ترغب فيه، ولا تشاء المضي في سننه.
ونحن لسنا منه حيال دكتاتورية مطلقة عنيدة الرأي، شديدة الوطأة، حديدية اليد، وإلا لما جلس في مكانه أكثر من يوم أو من شهر، ولما ثبت في مجلسه، وتمكن من منصبه، ووجد الأمة الحقيقية التي لا تنجلي في صحيفة، أو صحيفتين ، وفي أنهار ورقة يومية أو ورقتين، بل الأمة التي تجلس في الطريق، وتعيش في الشارع، وتسكن القصور، والأكواخ، والدور، والعشش، ساكنة مطمئنة إلى عمله، صابرة مستأنية؛ حتى يتحقق كل مطلب من مطالبها، وتنفذ كل أمنية من أمانيها، وإذا قال قائل من خصوم الوزارة: إن هذا السكوت من جانب الأمة عن عجز، وصبرها عن ضعف واستسلام، وسخط مشلول، مفلوج الحركة، فنحن نقول لأولئك: إن الأمة التي لا تستطيع أن تزيح رجلا عن مكانه، وتعجز عن أن تحمل وزيرا إلى بيته من فوق مجلسه، لا تستحق الحياة، ولا تستأهل أن تطالب بالحرية فتنالها، ولكنا نعلم من أمر هذه الأمة، ومن مزاجها، ونفسيتها ما شهدناه من تلك الثورة الرهيبة التي وقعت منذ أعوام، وعمت القطر من أقصاه إلى أقصاه، والأمة التي وقفت أمام المدافع، وحملت ضحاياها إلى المقابر تحت صيب من القذائف، وسقط أبناؤها وشبابها جرحى وقتلى، والابتسامات على شفاههم، والكلمة الحلوة «لتحي الأمة» تتحير على ألسنتهم، لا يمكن أن تكون كاذبة على نفسها، مخدوعة في أمرها، صابرة على ما لا تحب، مكرهة على ما لا تريد، وإنما هي أدركت أن الوزير لم يأثم في حقها حتى تأثم هي في حقه، وتتجنى عليه، وتتململ من حكومته، ولم يقل لها لقد رفعت عنك الحماية، ثم رأت الحماية لا تزال باقية، ولم يعلنها بأن سيادة الإنكليز قد راحت سيادة مصر على مصر، ثم شهدت أن ذلك كان جملة من الأكاذيب، لا نصيب لها من الحق، ويوم تظن أن في كل ما فعل الوزير ظلا ضعيفا من الباطل، تروح ثائرة متمردة غاضبة، ويوم تغضب الأمة يغضب الوزير من نفسه؛ فيحمل محفظة أوراقه الخاصة إلى منزله، ويتخلى عن عمله، ويندمج في صفوف الشعب، ويدخل في غمار الجماهير، ويدع المكان لغيره، ولو أراد القدر بهذه الأمة سوءا لكان ذلك، ولوقع ما نقول، ويومذاك يرتفع إلى رئاسة الوزارة رجل قزم أعرج الإرادة، دميم الرأي، ويومذاك نشهد ما سيكون بعد الذي كان، ونرى الأمة معولة ناشجة نشيج الأطفال؛ إذ أسقط في يدها، وأسلمت مقادتها إلى أيد ضعيفة راعشة؛ لأنه إذا كان في هذه الأمة رجل يستطيع أن يمشي بها في محرجة أمرها هذا، ويمسك بيدها فيأخذها إلى حيث تريد، وينطلق بها إلى ما تبغي؛ فذلكم هذا الوزير الذي تترجم له الآن، فهو أقدر رجل تولى الرئاسة في وسط هذه الزوبعة الهوجاء، وهو أمتن أهل هذا البلد شخصية، وأدهاهم رأيا، وهو جبار الذهن، عظيم الروح، لا يتطامن، ولا يخفض رأسه، ولا يبيع الناس ضميره ليشتري به حقا ضئيلا من حقوق هذا الشعب، ولا يستطيع الإنكليز أن يستلينوا قناته، ويجمعوا خدائعهم لاختلاب فؤاده، ويكسبوه من ناحية ليخسر هو أمته من الأخرى، ويأتوه بالباطل ليدلي به إلى وطنه في صورة الحق، ويوعدوه بالنذر ليعد هو بالأماني، ويقولوا له: افعل كما تؤمر به، أو دع مكانك؛ فيغلب مكانه على مكانته في أمته؛ لأنه كما قال في خطابته شخص زائل، وإنسان سيحتضر، وعمر سينفد، وما تنفد الأمة، وما تفنى، وحقيق به أن يفني عمره في خلود وطنه قبل أن ينطلق عن هذه العاجلة، فاني الذكر، خلق الاسم، سيئ الأحدوثة.
وقد رأينا فريقا ضئيل العدد، يحاولون أن يقنعوه بترك عمله، والتخلي لهم عن منصبه؛ ليضربوا القرعة فيما بينهم على من يتولاها منهم بعده، وليقتسموا بينهم أسلابها، وأبهة روائها، وليجعلوا رئاسة الوزارة مأوى للضعفاء، وملاذا للملهوفين، ونزلا للطاعمين الكاسين، ولتكون أشبه شيء بالتكايا للمقعدين المعوزين؛ ولو أن رئيس هذه الوزارة رضي لنفسه أن يكون بجانب ذلك رئيس مطعم، أو صاحب فندق لاستطاع أن يجيء بهم إلى صفه، ويستهويهم إلى جانبه؛ إذ ينزل على مطالبهم، ويعطيهم كفاف رغائبهم، ويجلسهم في دور الحكومة، ويوظف عليهم الوظائف، وينثر عليهم البدر، ولكن الأمر ليس مساومة، وليست شؤون الأمة تجارة نافقة؛ فيربح أولئك، والأمة بهم خاسرة.
ولقد قال الوزير - كما قدمنا - أنه يريد أن يخلق المعارضة إذا لم يجد أثرها، وكان يرتقب أن يرى معارضين يمسكون بطرف من الحق، ويشادونه فيه، ويتجاذبونه بينه وبينهم، وكان يتوقع أن يجد أمامه خصوما أبرياء من الأنانية ، ومجادلين بالحسنى، غير خارجين على سلطان أنفسهم، وأمناء في السياسة إذا الأمانة وجبت، وأوفياء في العقيدة؛ لأن الوفاء أول لازمة هذه النهضة، وكان أحق أن يشهد معارضين شرفاء الدخلة، صادقي الوطنية، مؤمنين بحق أمتهم، فلا يثيرونها هوجاء حمقاء طائشة، تعمي الأبصار، وتحجب الأعين، وينطلق الحق متبددا، تذروه الريح السافية، ونقف بهم أمام الإنسانية العاقلة المتحضرة ضحكة هزأة نشتجر، والأمر ظاهر بين، ونتماسك بالتلابيب، ونتواثب للخصام، ونتهالك على النفار في موطن رهيب، كان أولى بنا فيه أن نتساند، ونقف صفا صفا أمام عدونا؛ حتى لا يخترق الصفوف، ويتسرب من الثلمة، فتذهب ريحنا، وتتفرق جموعنا، والعدو ضاحك منا، ساخر من طفوليتنا، ولكنه لم يجد من كل ذلك شيئا، ولم ير قبالته أشخاصا يمثلون رأي الأمة، ويشرحون له عاطفتها، ويتكلمون بلسانها، ولم يستفد من كل تلك الأبحاث التي خرجت بها الصحف كما تخرج الصبية بطيارات الورق تهفو بها الريح، وكان يريد أن يستهدي بالنقد الحق، والرأي المخلص، والكلمة الوفية، والمعنى الأمين؛ فلم يجد في كل أولئك المعارضين الضعاف الأحلام هاديا طيب النفس، بعيد النظر، واقتصرت تلك المقالات العاثرة التي أسموها معارضة، وخلقوا منها حزبا معارضا، خرج إلى نور الشمس جنينا ميتا على أهواء ومنازع كاذبة تغالط نفسها، وتريد أن تغالط الأمة معها؛ فبقيت الوزارة في مكانها ثابتة كالصخرة في عرض اليم، وتحطمت تلك السفن الصغيرة التي ركبها أولئك المعارضون، وغالبت الريح، والريح غالبة؛ فكسرت رأسها عند قدمي تلك الصخرة المكينة، وظلت الصخرة راسخة تضحك من أطفال اليم، وزوارق البحر التي جاءت في النوء تناوئها، ونحن لا نريد بهذا أن تموت في الأومة مادة المعارضة، وروح النقد السياسي؛ لأن في المعارضة دليل الحياة، وفي النقد معنى النشاط والبصيرة اليقظة الساهرة، وإنما أردنا أن نرى معارضة مجدية علينا، مهذبة شريفة، كما ابتغى الوزير وتوقع؛ حتى نتم بها ما نقص، ونقصرها على سد ما قصرنا فيه، وننتصح بنصيحتها إذا أعوزت النصيحة، ونسير على هديها في ظلمة موقفنا؛ فلم نجد من كل ذلك ولا أثارة من عقل ، ولا ظلا من رشد؛ فاستحقت هذه المعارضة المخلوطة في ذهنها المتساقطة عياء وضعفا من أثر النقرس الذي يفت في ساقها، وتسري برودته في جميع نواحيها؛ حتى تعيش من نفسها في المنطقة المتجمدة، وأهلها تحت سماء حارة، وشمس ذات وقد. نعم، ما كانت هذه المعارضة إلا لتستحق الاستخفاف بها ما دامت لا تزيدنا شيئا، ولا تنقص من أمرنا شيئا.
والحجة التي يستعد بها هؤلاء المعارضون على الوزارة، ويحرشون بعض القوم عليها قولهم: إن الأحكام العرفية لا تزال باقية بقوتها وبطشها في أمة قد استقلت بنفسها، وملكت زمام أمرها؛ فلم تغب عن ذهن الوزير حجتهم تلك، ولم ينس خشيتهم هذه، فألم بها في خطبته، واعدا الأمة أن يجد طريقه إلى رفعها، وإراحة البلاد من أثرها، وأن الأمة خليقة بأن تعينه على مطلبها باعتزامها الهدوء، وأخذها بأسباب النظام، وإخلادها إلى السكينة في ظل القانون؛ حتى تقنع واضعي تلك الأحكام أن ليس بها من حاجة إلى إبقائها، ولا ضير عليهم من زوالها؛ لأن أمر إلغاء تلك الأحكام في يدها، وفي القضاء على عوامل الفتنة والاضطراب، ولكن منيت هذه البلاد بأنفس شريرة، وأرواح خبيثة تستتر تحت حجب الظلام، وتحاول إضرام نار الفتنة، وتعمد إلى اغتيال الأبرياء، وكلما ساد السكون في ربوع هذا البلد ردحا من الزمن، واستتب النظام، وعم الهدوء، حتى كادت الوزارة تتحين الفرصة السانحة لإظهار حسن موقف الأمة، والاستناد إلى سكينة الشعب في العمل على تعفية آثار القوانين الاستثنائية، لم نلبث أن يدهمنا حادث سيئ، وتقع غيلة جديدة، وينبري رجل مفتون فيفسد تلك الفرصة، ويقضي على تلك السانحة، ويحرج موقف الأمة والوزارة معا، ويثبت عقيدة الإنكليز في وجوب بقاء تلك الأحكام على حالها، والتزام العمل بها، والالتجاء إليها؛ لقمع هذه الروح الفردية القاتلة المجنونة المتمردة، وقد تضعف هذه الحوادث الأليمة من حجة الوزير، ودفاعه ونضحه عن واجب الأمة، وسعيه لإلغاء الأحكام، وإبطال القوانين الاستثنائية، فإذا كانت الأمة تريد حقا أن تزال عنها، وتتحرر من شرها، كان أولى بها الاعتصام بالسكينة، وإذا كانت الأمة لهذه الأحكام العسكرية كارهة مجتوية باغضة، فإن الوزير لها أكره، وأشد اجتواء، وأبغض الناس لأثرها في أمته؛ لأنه يأبى أن تكون في البلاد سلطتان، ويمشي في القطر حكمان؛ لأن عظمة نفسه لا تقنع بنصف الحكومة، وترى النصف الآخر معتديا على حقه هو وسلطانه، ولا يرتضي لنفسه أن يرى عملا في الأمة لم يشترك هو في وضعه، وأحكاما لم يسأل رأيه في إنفاذها؛ لأنه لم يتول رئاسة الحكومة ليقنع من الحكم بلفظة الوزير الأول، وبكلمة الرئاسة الجميلة الوقع، بل إنه ليتألم الألم كله، ويثور في أعماق نفسه، كلما وقع في القطر حادث يوجب إنفاذ شيء من تلك الأحكام، وهو لا يريد أن يقف في سبيل إنفاذها، ويشتجر عليها مع أصحابها؛ فيفسد سمعة حكومته، ويرمي وزارته بتشجيع الفتنة، والرضى بأعمال القتل والعنف.
ولقد كان الوزير قاضيا، وجلس من قبل في مساند القضاء، واشترك يوما في اشتراع القوانين، واستنان الأنظمة، وكانت روح العدل التي استمدها من الجلوس في مجالس القضاء تأنف من هذا الحكم العرفي الذي لا يستند على نظام، ولا يجري على سنن؛ ولا يمشي على قصد، بل هو في نظر القانون خروج على القانون، واعتداء على سلطته، واستخفاف بمنصبه، والحكم الذي لا يهب المتهم الواقف أمامه شيئا من الحرية للدفاع عن نفسه، ويخشى على نفسه قبل خشيته على المتهم الذي حياله، لا يصيب من رجل مشترع غير الاستنكار والاشمئزاز.
وقد صدرت في خلال الحرب، وبعد سكون تلك المجزرة تشريعات هامة، استمدت سلطة القائد العام لتكون سارية على الأجانب والمصريين معا، وحيل بين المحاكم الأهلية والمختلطة، وبين النظر في مسائل داخلة في اختصاصها، وتولتها محاكم عسكرية؛ فأصدرت أحكاما، وأنفذت قرارات بنيت على أساسها حقوق وتعهدات، وصدرت أوامر إدراية، وتدابير تتعلق بالأمن، أو النظام العام، واشتركت هذه السلطة في أعمال التشريع، والقضاء، والإدارة العادية للبلاد بسبب الامتيازات الأجنبية، وبسبب نشوب تلك الحرب، فضلا عن المركز الخاص الذي تهيأ بسبب معاهدات الصلح؛ فأصبحت تشبه النظام العادي، بالرغم من أن الأحكام العرفية بطبيعتها أداة استثنائية .
অজানা পৃষ্ঠা