ونحن قد حاولنا أن نعثر في كتاب التاريخ الإنساني عن عاطفة من عواطف الأمم نزعت بها إلى الخروج من نظام جائر إلى أسلوب عادل متخلص من النير، كان فيها الأحداث الصغار، وصبية المدارس يمشون في رأس الثورة، ويغلقون أبواب معاهدهم بأيديهم ليتنزهوا في طرقات المدينة متبطلين، وليصيحوا وهم لا يفهمون ما وراء صياحهم مع الصائحين، فلم نجد في سجل الحريات لذلك أثرا، ونحن لا ننكر أن للشباب من وقدة النشاط في نفوسهم، ومن أرواحهم الملتهبة، وأذهانهم الفتية، وأذرعهم القوية، وسوقهم الحديدية ما يعينهم على الإسهام في نهضة بلادهم، والدفاع عن مستقبلهم، ولكن - عمركم الله - أليست أسمى ضروب الوطنية، وأجمل ألوان الحب للأرض، والإخلاص للوطن، والدفاع عن المستقبل أن ينصرف الشباب إلى استظهار كراساتهم، والإخلاد إلى علومهم يتوفرون عليها، والسكون إلى تلك المعاهد التي يرتفع فوقها صرح هذه الأمة.
ولكن كيف يستطيع هؤلاء الشباب أن يطمئنوا في معاهدهم، وينكمشوا إلى علومهم، وهم يسمعون باسمهم يذكر في مستهل الخطبة، ويرون الناس مستقبليهم في مطالع المظاهر، ويشهدون طائفة من رجال النهضة ينادونهم إلى عونهم، ويستصرخونهم لينضموا إلى صفوفهم، وينعتونهم بأبنائهم، ويقولون لهم: أنتم أبناء مصر وحدكم، والكهول والشيوخ من ورائكم أعجازها الخاوية، وفصل الشتاء في وثبتها، وزمهرير الوطنية المتجمدة الباردة في بهرتها، وأن خمسة آلاف عام تطل عليكم من قمة الأهرام ناظرة إلى عملكم، هاتفة بأسمائكم، مرتقبة أن يكون لمصر مكانها الأول تحت الشمس على أيديكم، وما لكم وللعلم اليوم، وما للعلم ولكم، فإن النهضات القومية لا تعرف علما، ولا تطيق أن ترى له معهدا مفتوحا، أو دارا مستقبلة روادها، ونحن اليوم في فترة الانتقال؛ ومرحلة التبديل والتغيير، فلا جدوى من السكون إلى العلوم، والاطمئنان إلى الكتب، بل أنتم عما قليل عائدون إليها بأرواح أنشط، ونفوس ظمأى، و ... شهية ... أحد، فما تركتموه في عام مستطيعون أن تلموا به في شهر، وسيعوض عليكم صبركم، وستجزون من الوطن بما فعلتم من أجله، وما أسديتم من الصنيع الجميل إليه، وستكون الامتحانات إذ أفلج الله نهضتنا، وأنجح القدر مقصدنا، لسهل كثيرا من الامتحانات التي تخرج من يد عدوكم؛ لإعجازكم والاستبداد بشبابكم، وقتل البذور الصالحة في نفوسكم، وإحلال اليأس محل الأمل في قلوبكم، ويومئذ لن نرى فيكم فتى يتسلق أعمدة القنطرة؛ فيقذف بنفسه إلى أحضان أبيه النيل مختفيا تحت ثديه، ولن نسمع بالشاب منكم يجري إلى زجاجة من الأحماض السامة فيشتفها حتى الثمالة، فإذا استقرت في جوفه، وأحس عذاب الحياة تريد أن تدع جثمانه صرخ على أهله من الحجرة، مستغيثا، طالبا النجدة والإسعاف، وقد أعجزه كذلك أن يجتاز «امتحان » الموت، واختبار ألم الخلاص من الحياة، ولهذا لا نريد أن نخسر منكم جندا محضرين، أو ينقص عديدكم من أثر هذه الامتحانات اللعينة المقيتة، فلديكم الآن فسحة طويلة تملكون فيها أنفاسكم، وتريحون من آلام الدرس، ومتاعب إجهاد الذاكرة، فتعالوا إلينا يا أبناءنا الأعزاء، وأقبلوا يا شباب العصر، و«فتوة» النهضة، وزين العهد الجديد، فنحن لا مأرب لنا من تخليص أرضكم من وطأة المستبد بها، ولا مقصد لدينا من الجهاد في سبيل تحرير بلادنا وبلادكم إلا أن نحمي عن مستقبل لكم سترونه يوم تتركون مقاعد المعهد؛ لكي تشغلوا أماكنكم في مقاعد العمل، ومنافس النضال للحياة؛ عهدا مزهرا، وعصرا مجيدا لا شائبة من الظلم تشوبه، ولا لونا من ألوان القبح الاجتماعي يفسد جماله؛ وكيف يكون لنا من وراء ذلك مأرب، أو نضم بردتنا على نية سوء، ونحن غير لابثين طويلا حتى ننقل إلى ساحل الأبدية، ونحمل على أعناقكم إلى الساحة المترامية وراء جدران هذه المدنية، فلن نصيب من الحرية شيئا لنا، غير هدوء أنفسنا، ومسرتنا العميقة في حبات أفئدتنا، إذ ضمنا لكم الأرض، وكفلنا لكم الحياة الطليقة، والعصر الذهبي.
وأنت ترى أن هذه الألفاظ العذبة، وهذه القصائد المنثورة؛ والشعر المرسل الرقيق الغلائل، والنجوى المؤثرة الناعمة الأغاريد، قمينة بأن تستهوي الشباب، وتأخذ بمجامع ألبابهم، ويومئذ فاللعنة على الدرس، والشناعة للمعاهد، والتسخط على المدارس، ولخير أن تغلق تلك الدور عن آخرها، فلا يبقى منها ركن تدخل فيه أشعة الشمس، أو تنفذ إليه حرارة أنفاس النشء الصغار؛ من أن يغلق باب الأمل في وجه أمتهم، ما دام هذا الأمل معلقا عليهم، موقوفا على جهادهم.
ذلكم منطق الوطنية الشابة الشاعرة التي تريد أن تعمل؛ وتقوم بحوادث كبار، وتجعل الخطوب الصغار جساما، ولكنها لا تستطيع أن ترد تلك الألفاظ فعلا، وتحقق ذلك الكلم وجوامعه عملا محسوسا، فتسيء إلى نفسها؛ وتتحيف جوانبها، وتخسر لهاتها وحنجرتها من أثر الصياح والعويل في أعراض الطرق، ووسط الضجيج، والعجيج المتلاطم.
ولا يحسب الناس أنا منكرون على الشباب وطنيتهم، متعيبوهم على حميتهم، فنحن إنما نريد أن نرى وطنيتهم منساقة في المنحى الهادئ الطبيعي الذي أرادته الأمة لهم، وقررته أنظمة الاجتماع؛ إذ لا ينبغي أن تتعدى رحب المعهد، ولا يصح أن تتخطى جدران المدرسة، فهناك جلال حمية الشباب، وهناك مزرعة الأمة من تلك القطع الإنسانية الجميلة الفارعة التي ستروح بستانا ناضرا، يخرج للشعب بواكر ثمار طيبة، وقرائح خصيبة مجدية نافعة؛ وهناك تلك الخلايا الرحيبة التي ينمو فيها ذلك النحل الإنساني النافع الذي يجعل مستقبل هذه الأمة معسولا سائغا هنيئا؛ والشباب وهم في حلقات الدرس خلقاء بأن يكونوا على مرتقب من نهضة أمتهم، وبمرصد للعاملين من قومهم، فذلك واجبهم، وتلك فريضة عليهم.
وليس أبعث للزهور، وطغيان مد الأثرة، والرضى عن النفس، والسرور بالنفوذ، من أن يرى الرجل منا إذا وقف على رأس الناس في صميم النهضة بيته مختنقا بأفراد الشعب وأخلاطه، وباحة داره غاصة بالجموع الحاشدة من كل فج وحدب، يهتفون له ويتزاحمون لتحيته، ويقدمون آيات الإخلاص لسدته، والإعجاب بعقيدته ومبدئه، وهو طالع عليهم في بزته الجميلة، طائف بطوائفهم، مستفسر عن شؤونهم، موزع ابتساماته عليهم، مقسم وعوده عن أيمانهم وشمائلهم، وكذلك كان شأن دانتون، وتلك عادته، فإذا انصرف الجمع من حضرته قذف بأوراقهم وعرائضهم، وكتب الثقة والمدائح له في نار المرجل، وقد كان يقول في ذلك: إن تلك كانت الطريقة المثلى للتخلص من تجميع متأخرات العمل على موائده ومكاتبه، وقد كان دانتون في ذلك مقلدا غير مبتكر، فقد كان من عادة الكردينال ديبوا أن لا يخرج من حجرة مكتبه قبل أن ينفض عنه جميع أوراقه، فلا يدعها إلا نقية نظيفة لا شية عليها.
بل لقد كان من استهتار رجل كهذا بالشعب، وحبهم إياه، وتطامنهم لكلمته أن سيدة من أهل الدل والخفر، جاءت يوما متوسلة له أن يستخدم سلطانه لإبطال أسلوب جديد، ظهر لونه من أساليب عقص الشعر، وطرق جدله وتجميله؛ لأنه لم يكن يوافق تركيب وجهها، ولم يلتئم مع طلعتها، ونظام شعرها، وكانت لها منافسة من أهل الجمال تريد أن تجعل هذا الأسلوب شائعا في باريس كلها، فلم يكن من الرجل إلا أن وقف في رأس الجموع خطيبا ثوار العاطفة غضوبا يقول: «إن الأرستقراطية تريد أن تعود إلى الظهور، وتحاول أن تبدو برأسها الجميل للأحرار المتخلصين من فتنتها، وإن تلك الجدائل الجديدة ليست إلا فروعا غير ثورية، وذلك الأسلوب الذي اتخذته جماعة من النساء ليس إلا أسلوبا نبيلا في الزينة، وإن تلك الضفائر والذوائب إنما قطعت من شعور النبيلات الشريفات اللاتي قتلن تحت سكين «الجيلوتين»!
فانطلت هذه الكذبة على الناس، وأجفلت ربات الخدور من هذا النذير المخيف، وأغلقت بيوت الأزياء الجديدة أبوابها، حتى لا يظن أنها تبيع الناس ذلك «الصنف» الممنوع، وحتى لا تستهدف لغضب ذلك الزعيم وموجدته، وقد خيرت النساء بين البقاء على تجميل شعورهن على تلك الطريقة؛ وبين قطع رؤوسهن على الأسلوب الجديد في قطع الرؤوس تحت تلك الأداة التي ولدتها الثورة المرعبة!
ولشد ما ضحك ذلك الرجل في أعماق نفسه، ولشد ما طرب لحيلته، وتصديق القوم لكلماته؛ إذ كان يلذه ويروح عن خاطره أن يجمع على هذا النحو بين الدعابة والشناعة في وعاء واحد!
ونحن فقد شهدنا العامة في كل ثورة وطنية يجنحون إلى جمع كل عواطفهم في نقطة واحدة، وإقامة مركز يستديرون حوله، ويحتاطون به، وإنهم ليختارون شخصا واحدا، وقد يهمون كثيرا في اختياره، أو ينتخبونه عن غير حق، فيعدونه رأس كل حركة ذهنية، وممثل كل وثبة، وقائد كل كتيبة من جند الوطن، ويروحون يحشدون كل حبهم أو كرههم لذلك الرجل؛ فتجتمع عليه كراهيات الناس؛ أو تلقى عند قدميه كل موداتهم، وألوان عبوديتهم، فهو يوم مصيب منهم مادة الإعجاب به، وحينا آخر واجد منهم مادة الاحتقار بكل قوتها، وكان أولى أن لا يستفرد هو بالحب، أو يخلص وحده بذلك الكره، بل كان حقا أن تشترك معه فيه الجماعة أو الصحابة، أو الأولياء، أو الندوة، أو من يعملون بوحي ذهنه، ويتحركون بإلهامه وإمرته، وكان عدلا أن يسهم فيه الجيل نفسه والشباب كله، والزمن بماضيه وحاضره.
অজানা পৃষ্ঠা