روح القيادة والجماهير في النهضات القومية
في كل نهضة عامة، وحركة وطنية، يعيش الناس بنفوس غير نفوسهم الحقيقية، وتتبدل أذهانهم أذهانا غيرها، وترمى إرادتهم بعلة النقرس، أو آفة الفالج فيختفي كيان الفرد في وسط المجموع، ويسلبه الزحام والعجيج شخصيته، ورغبات نفسه، وأماني فؤاده؛ فيندمج في القطيع يمشي على هديه، ويرتدي بإرادته، وينساق في الحفل كما يوحى إليه، فكل من قويت إرادته على إرادة صاحبه، وغلبت شخصيته شخصيات عشرة من الناس، راح فيهم زعيما صغيرا، واتخذ سمت القائد الضئيل، ولهجته، وسطوة نفوذه، وأوحى إلى العشرة أن ينفضوا عنهم مبادئهم؛ ويتخلوا عن آراء كانت لهم، وأن يعيشوا بوحيه وإلهامه، ويتلقوا منه تعاليمه وأوامره، ويجندوا له جنودا على غرارهم، ويحتثوا غيرهم على أن ينضووا تحت علمهم، فهو ما يفتأ يطلب أن تكون العشرة عشرين، وأن تبلغ العشرون المائة، وكلما كثرت جنوده ارتفع في مقاليد القيادة؛ وارتقى مصاعد الزعامة؛ حتى لا يلبث أن يكون المجتمع كله في أيدي عشرة من القواد الصغار، يعيشون في أيدي بضعة من القواد الكبار، ثم لا يني هؤلاء القواد الصغار أن يدسوا على بعضهم البعض، ويرتعوا في لحمان وصفائهم، وأقرانهم، ويمشون بالنميمة على إخوة لهم في الصفوف، فترى في كل يوم جنديا فارا من صف إلى صف، وآخر منحرف عن شرذمة إلى شرذمة، وترى القائد الصغير منهم في صباح يوم محبوبا مرحبا به، مهتوفا باسمه، ولا يأتي المساء إلا وهو المسخوط عليه، الظانين في إخلاصه، المتهم في عقيدته، ولا يلبث أن ينتقل هذا الحب الذي خسره إلى قائد مثله قد ربحه، وظفر به، فما ينقص من قائد يزيد قائدا مكانة وحبا عند الناس وإكبارا، وإذا كانت العامة والجماهير، وطبقات الشعب مذنبة في ذلك لضعف رأيها في الحكم، ولطبيعة التقلب المكينة في نفوسها، ولضؤولة أذهانها، وكلال أبصارها، فإن الذنب كله واقع على الذين يتصدون لقيادتهم، ويحاولون الرئاسة عليهم، والمشي في طلائعهم، فأولئك إنما يتخذون النهضات مباراة يود فيها المنافس أن يعتلي ظهر المنافس، ويمشي فوق جثته، ويتخطى الرقاب إلى سلطان عظيم يحاول أن يكون له في الناس؛ فإذا عز ذلك عليه، ولم يجد سبيلا محمودة نقية راضية لا غبار عليها من العيب أو الذام؛ التمس الوسائل الأخرى كلها، وإن عيب بها، وانتقص قدره.
وقد رأينا هؤلاء الزعماء الصغار يكذبون على بعضهم بعضا، ويدسون الدسائس يتقاذفونها بينهم، وما أروج الكذب في عهود الثورات؛ إذ يصبح الكذب فنا من الفنون الجميلة؛ لأنه بحاجة إلى رسم بديع، وتصوير متقن، وألوان زاهية، وريشة مصور صنع حتى يبدو للعين حقيقة ناصعة، تأخذ بأذهان الناس أخذا، وتعمي أبصارهم عن اكتشاف عيوب تلك الصورة، والاهتداء إلى وجهة الصنعة المتكلفة، الملفقة في أجزائها.
وقد شهدنا ضروبا كثيرة لهذا الكذب الذي يعمد إليه الناس في النهضات والثورات، ورأيناها كيف تدخل على الأذهان، وتنطلي على الجماهير، وتمضي كأنها الحقائق، لا ظل للتلفيق فيها، ولا شائبة للكذب عليها؛ وهي قمينة أن تروح كذلك، خليقة أن تجد عند القوم سوقا نافقة.
فإن الرجل الذي لم يخرج في حياته من المنطقة الحارة لا يستطيع أن يتصور ماذا تكون جبال الثلج المتحركة في الأوقيانوس الشمالي، وإن تخيلها تخيلا، أو رسم مثالا لها من وحي ذهنه، ومن لم ير نياجارا رأي العين فلا يتيسر له أن يعرف ما الشلالات العظيمة، وما شأنها، ووجه العجب من أمرها، وكذلك تمضي الأكاذيب مطمئنة، رخية اللبب، واثقة من نفسها؛ إذ لا يستطيع الجمهور أن يتحرى مواضع النية السوداء فيها، ولا يؤاتيه اكتشاف الغرض الخفي الذي يستسر تحتها، ولو أن رجلا من الناس بعيد النظر، ثاقب الرأي، حديد البصر نهض في الجموع فبصرهم بالكذبة، وهداهم إلى فساد تلك الأراجيف، فما كنت لترى الناس بمصدقيه، بل لشد ما يغضبون، ويثورون، ويتسخطون على هذا الرجل الذي أساء إليهم؛ إذ أراد أن يقول لهم: إن الحق الذي علموه، والصدق الذي سمعوا به، لم يكن إلا كذبا، ولم يكن غير البهتان بجملته؛ لأنه بذلك قد حرمهم من تلك اللذة الكبرى التي كانوا يجدونها من الاعتقاد بصحة ما بلغ آذانهم، ومنعهم ذلك السرور الذي كان يثلج صدورهم من أثر الإيمان العميق في أفئدتهم، فكل كذبة تبدد، وكل أرجوفة تكتشف تحزن نفوسا، وتؤلم صدورا، وتغضب أذهانا كثيرة.
وأنت فقد رأيت ما كان من فعل الكذب، وسلطانه على النفوس في ثورة كالثورة الفرنسية، وقد قرأت التاريخ، ووعيت منه أن الملكة ماري أنطوانت إنما سيقت إلى مواقف القضاء في إبان تلك الثورة، ودفعت إلى قفص المجرمين على كره من الزعيم روبسبيير، وضد إرادته، وعلى عكس رغبته، وليس ثمت حجة تدعم هذا الرأي أوثق، ولا إسناد أثبت أو أصح من بونابرت، فذلكم رجل لم يكن له من باعث يبعثه على إخفاء الحق، وكان على مستشرف من الثورة إذ جاء في أذيالها متعثرا، ونهض في الفصل الأخير من رؤيتها، فأسدل الستار عليها مستبسلا، وتزوج بعد ذلك بالأرشيدوقة النمسوية، وبطبيعة الحال احتفل بالبحث عن مقتل الملكة ماري قرينة زوجته، وقد أثبت نابوليون أن محاكمة ماري أنطوانت كانت ضد رغبات روبسبيير، وعلى كره منه، وإذا كان بريئا من ذلك الإثم، نقي اليد من تلك الفعلة، فمن لعمركم يكون ذلك الرجل الذي أوحى إلى الناس في تلك الثورة المجنونة أن اقتلوا تلك الملكة، وعفوا على آثار البيت المالك في فرنسا كلها.
لقد نهض إذ ذاك في المجلس، والثوريون في الندوة محتشدون خطيب من الخطباء يقول: «عجبا لأعداء الجمهورية كيف يطلبون ما منعوه نجاة، ويمنون أنفسهم المنى في الفوز به ... هل لأننا نسينا منذ عهد بعيد جرائم تلك المرأة النمسوية، أم لأننا أخذنا بالعرف واللين والرحمة سلالة أولئك الطغاة، لقد آن الأوان لإزالة أثر الحنان من النفوس. لقد حان حين استئصال شأفة الملكية من أرض الجمهورية، وإن وراء هؤلاء الأشراف الطغام امرأة مختفية كامنة في زاوية، وهي أصل كل بلاء في البلاد، ومحدثة كل شر ونكبة، إن العدل القومي يريد أن ينفذ قضاءه فيها.»
تلك كلمات ذلك الخطيب، فمن يكون هو وما اسمه؟
لقد كان الرجل زعيما صغيرا، لم يكن ارتفع بعد إلى منصة النفوذ، لقد كان الرجل يدعى ... برتران باربر.
ولكن ذلك الخطيب بعد عام واحد، أو بعض عام كتب ينفي أنه كان هو ولم يكن الرجل مصابا في ذاكرته، مدخولا في عقله، حتى يقال: نسي ما كان منه قبل عام، أو ما يقاربه، قد يتشفع له بعض الناس بأن الضحايا التي ذبحت بكلمة منه بعد ذلك، وتلك النفوس التي قتلت بإشارته تعدت الحصر، وفاقت العد، فكان يخلط بينها، ولا يستطيع تمييزها، وأن الضحايا امتزجت في ذاكرته، وتضاربت أسماؤها، فلا يدري من قتل ومن أبقي، ولكن زعم باطل، وحجة مردودة، فقد كانت تلك الملكة المسكينة من بواكر الثمار التي اقتطفها عن شجرة الحياة، بل كانت أمجد ضحية ضحي بها، وأعز قربان ذبح، وأن أقسى القتلة قلوبا، وأغلظهم أكبادا، وأبعدهم عن الرحمة جانحة، لا يزال آخر حياته ذاكرا أول مرة سفح فيها دما، وسفك نفسا زكية، ولو كانت امرأة لويس زوجة طحان أخفت في حجرتها أخا لها، أفلتت منه كلمة سوء في زعماء الثورة المعصومين الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم، ولا من خلاف؛ أو كانت راهبة عجوزا تمتمت في المصلى بكلمات تعاويذ ، ورقى من وحشية الثوريين وغائلتهم، فسيقت إلى الموت تحت السكين، لكان يحتمل أن تخون ذلكم الرجل ذاكرته، وتتشابه عليه البقر، وكنا خلقاء بأن لا نطالبه بتذكر أولئك المساكين الذين ذبحهم إلا إذا طالبناه بأن يذكر لنا عدد لفائف التبغ التي دخنها في سحابة ذلك العام كله، ولئن كان بارير قتل مئات من خلق الله، فقد ذبح منهم ملكة واحدة؛ وهو الذي كان قبل الثورة ببضعة أعوام يظن أنه أصاب الشرف بكل مادته؛ من نظرة واحدة تلقيها عليه ابنة القياصرة، وزوجة الملك سليل الملوك الكبار؛ فقد راح في الندوة يدعوها بالمرأة النمسوية، ويسوقها من سجن إلى سجن؛ ويسلمها بيده إلى الجلاد، ثم تزول هذه الحادثة العظيمة في حياته من الذاكرة.
অজানা পৃষ্ঠা