وما قلت ذلك - حفظك الله - ولا انتحلته، إلا وبرهاني حاضر، وشاهدي شاهد. وذلك أن للشباب سكرة وطماحا، وقراعا وصولة. والهرم داخل على جميع الأعضاء، وآخذ بقسطه من جميع الأجزاء. ألا ترى كيف يكل ناظره وسامعه، وذائقه وشامه، وهاشمه وعامله؛ وكيف تنقص على مرور الأيام قوته، وكذلك قلبه وكل ما بطن من أمره، على قدر ما نقص من قوى جسمه وتنقص من قوى شهوته. ويخف عليه مخالفة هواه، ومحاربة نوازعه. ومن حمل على نفسه في كمال شبابه وأيام سكرته، وفي سلطان حدته وكمال قوته، فظلفها مرة وكبحها أخرى، وعاين تلك التكاليف، وغلب تلك الريح كان أبرز طاعة؛ إذ كان أحمل للمشقة.
وعلى قدر المشقة تكون المثوبة، وتعظم عند الله المنزلة، وتقع له في قلوب الناس المحبة. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص، حين وجهه إلى العراق: " يا سعد بني وهيب، إن الله إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه. فاعتبر منزلتك من الناس، واعلم أن مالك عند الله مثل ما لله عندك. ونحن نعتبر حالك عند الله بالذي نجد لك في قلوب عباده. وقد ملك الله بعض الناس أبدان بعض، ولم يملك القلوب أحدا غيره ".
وأما قولهم: إن الغرارة مقرونة بالحداثة، والحنكة موصولة بطول التجربة، فإن الذهن الحديد والطبع الصحيح، والإرادة الوافرة، ينال في الأيام اليسيرة، ويدرك في الدهور القصيرة، ما لا تدركه العقول المخدوجة، ولا الطبائع المدخولة، والإرادة الناقصة، في الأيام الكثيرة، والدهور الطويلة.
পৃষ্ঠা ২৯৫