ولكنه وبحداقة أهل حي الحنفي قدم الحل البديل، فأبوه في الدكان، وعلى بعد أمتار يوجد بيتهم المكون من حجرة واحدة وصالة صغيرة، أيليق بالمقام؟
أي مقام والساذج لا يدرك أنها منذ أن استقبلت النداء قويا صادقا مجتاحا قد أصبح له على الفور المقام الأعلى، وأصبح أقصى ما تتمناه أن تعمل وبكل ما تملك لإسعاده. منذ النداء قد انتفض داخلها مارد قادر على كل شيء، حي نابض بالحياة، مارد تجاهلته وحاولت قتله، وتجاهله أبناؤها، وكل من حولها، وبكل ما يملكون من قيم وعظات وحكم ومثل، حاولوا خنقه أو سجنه؛ ليموت جوعا وإهمالا وحرمانا، مارد حين انتفض يرتد من النقيض إلى النقيض، ويعود بها وكأنما ببساط سحري إلى أرض شابة حية مدمدمة بحركة الحياة، وكل ما فوقها وعليها وداخلها ينبض، أرض مرعبة، مرعبة تماما.
النظرة ليست كلها احتياج، هناك وراءها مكونة مركزها وقلبها رغبة، رغبة ملتهبة صامتة كأنها العواء بلا عواء، ولكن فليكن وراءها جهنم نفسها، إنها هي وإرادتها الكفيلتان بأي شيء، بأن تأخذ من النظرة ما تشاء وترغمه على التخلي عن أي شيء آخر. إنه طفل، ليس سوى طفل حتى وإن بدا أطول منها قامة، حتى وإن أطل لها كاللص بصيص من ذات ذاتها يحاول أن يرى في الفتى كل ما ليس بطفل فيه، كل الأشياء التي يمكن أن تتلصص عليها المرأة، أية امرأة.
مخاطرة فلتكن واثقة من أن رأيها هو الرابح، واثقة أنها في النهاية ستعطيه أما ولو لساعات، وستأخذ منه ربما رغم أنفه ابنا ولو لدقائق، وأنها أبدا أبدا لم تعد تستطيع الهرب من ذلك القدر.
الغريب، وذراعه لا تزال تحت إبطها تسندها، والعيون في شارع الحنفي كثيرة لا عمل لها سوى التحديق بحثا عن لمحة إثارة، الغريب أن العيون لم تستنكر، حتى الجيران اعتبروها الخالة الغنية لا بد تبحث - بالوفاء - عن أقاربها من الفقراء، والناس في تسليمهم بكل ما تواضعوا عليه أبدا لا يبدءون هم بالشك. قريبا من رأس السلم المؤدي إلى شقة السطوح حيث يقطنون، انزلقت يده التي تسندها وتحتضنها متحسسة الظهر، يد اكتسبت - بطول الاحتكاك - بعض الجرأة.
ولم تشأ للوقت أن يضيع فيما لم توطن نفسها عليه. أفهمته بلطف أنها إنما جاءت معه لا لكي تستريح، وإنما لأنه حرك أمومتها (وكان طبيعيا جدا أن تكذب هنا وتقول إن السبب أنه يشبه ابنها الذي فقدته في مثل سنه بالوفاة)، فإذا كان هو يتيما ماتت أمه، فهي العكس تماما، الأم التي كف الأبناء أن يثيروا فيها أو يحتاجوا إلى أمومتها. ستكون أمه إذن لبعض الوقت، وإذا أساء الفهم، فإنها من هنا وقبل أي خطوة ثانية ستعود.
وطبعا استنكر وأكد وقبل، واثقا أنها تعني حقيقة ما تقول، مقررا بينه وبين نفسه أن يطاوعها ويستمتع أولا بالأم فيها، وحبذا لو فاز بعد هذا بالمرأة أيضا! - يعني أنا زي ابنك دلوقتي؟ - وأنا زي أمك. - فكرة والله، طب وحانعمل إيه بقى؟ - اللي بتعمله الأمهات.
خلعت فستان الخروج الأسود، وبقيت بثوبها الداخلي الرقيق، وبينما الماء يغطي أرض الشقة التي لم تنظف من أجيال، وهي بكل همة - ورغم الألم - قد انحنت تمسح وتنظف، كان هو يخرج ويدخل هائصا يغني، باختصار، سعيد. وأرسلته ب «السبت» والنقود وعاد ملهوفا باللحمة والخضار، وبدأت رائحة «التقلية» تتصاعد، وبينما كان «البوتاجاز» القديم يطهو الطعام على مهل وفي حجرة قد نظفت تماما ونظمت، كانت هي في الحمام منخرطة في غسل الملابس، كل ما تحويه الشقة من ملابس، حتى «الأفرول» الذي يرتديه أصرت أن يخلعه لتغسله، وعليه أن يبقى بلباس داخلي انتقته له من «سرة» ملابسه القديمة وهو طفل لا يزال.
وبالغسيل يكاد ينتهي، ورائحة الطعام قد نضجت، وغناؤه قد علا وتخللته قهقهات لأتفه الأسباب، كانت سعيدة سعادة لم تذقها ربما في شهر عسلها الأول نفسه، فلم تكن قد تزوجت حبيبا، إنما تزوجت كما كان يفعل الناس في أيامها من عريس جاء عن طريق قريب، ولولا العشرة الطويلة والخلفة والطباع الحلوة لكانت كرهته، ومن يدري ربما كانت قد أحبته، أو على الأقل جربت شعورا ملتهبا غير مستقر يجعلها تبرد وتغلي وتتفجر بدلا من هذا الإحساس المتصل الطويل لا تعلو له قمة ولا يهبط إلى قاع، سعادة لم يذقها الفتى وأمه نفسها عائشة؛ فقد كانت رغم قبلاتها الطويلة الخانقة لا تناديه إلا مسبوقا بلفظ سباب، وإذا احتوته جرحت مشاعره البضة شوكات حنانها الخشنة، حنان ما حاولت مرة تليينه أو إعطاءه نعومة الأم الأنثى إلا وغلب عليها الطبع في النهاية، وعادت إلى طبيعتها الخشنة. إنه الآن يكاد لا يذكرها، يكاد ينسى كيف كان موقفه حيالها؛ فلحظة الحاضر جاءت تغرق كل ما فات، وها هو بكل نزق وضحك وجري ودلال وشقاوة، يعيش كما لم يعش أبدا، كما لم يحلم بعيش كهذا من قبل. وقد صح ما توقعته تماما، فالأم فيها أعادت إليه الطفل، والطفل فيه أعاد لأمومتها لمسات وملامح ذبلت وجفت وماتت من سنين. لكأنها تصبح أما لأول مرة.
واندفع بنزق صبياني يرفع غطاء الحلة، ويلتقط بعض قطع اللحم الملتهب التي لا تزال في طريقها إلى النضج. ونهرته ووضعته أمام الأمر الواقع؛ فقد أصبح كل شيء نظيفا ما عداه، ولا بد أن يستحم، وأيضا قبل الطعام. ويا له من شعور لذيذ انتابه وهو يحاول مماطلتها، وتأجيل «علقة» الحمام إلى ما بعد الغداء! وهي تصر إصرار أمومة ناعم تحسبه قابلا للتعديل، ولكنك لا تلبث أن تدرك أن نعومته أشد صلابة من إصرار يملؤه النهر والسباب.
অজানা পৃষ্ঠা