أجل! أحس «حامد» أن «فتحية» امرأته، زوجته نصفه الأنثى، تلك التي كان يعرفها كما يعرف ويضمن يده ورجولته وشهامته، «فتحية» قد تحولت، بل انتفض منها كائن غريب مرعب كأنما سخطت وحشا راوغه، ثم نهشه من ظهره وهو آمن مسلم مستسلم، وحش من فرط رعبه منه لا يجد ملجأ آخر سواه. ولو كان «حامد» قد قتلها في تلك اللحظة - وفكرة القتل نبتت منذ أول ثانية عاد إليه فيها عقله، بل ربما قبل عودة عقله، ورغم أي شيء آخر ظلت تدور في رأسه منفصلة تماما، تعمل عملها باستمرار، ولا يريد أن تفارقه أو يفارقها لحظة - لو كان قد قتلها في تلك اللحظة بالذات لكان قد فعل هذا ليس لأنها خانته أو انتقاما لشرفه المهدر، أبدا، لا بدافع الغضب أو الجنون أو الحنق، إنما ومعها جميعا - بل وفي أحيان قبلها بكثير - بدافع الرعب المروع منها، كأنما هي قد استحالت في نظره إلى غول أو حية رقطاء تقتلها قبل أن تقتلك، تقتلها ليس دفاعا عن شرفك، وإنما دفاعا عن نفسك أولا، كتما لأنفاس ذلك الوحش الذي غافلك ونهشك وخانك، ومن يخونك يقتلك، ومن يقتلك لا مأمن لك إلا بقتله، بل أحيانا ما هو أكثر! أحيانا يصبح الإحساس الممض القاتل أن شيئا في الكون قد اختل، ولا نجاة إلا بوأد الخلل في مكانه ولحظته. إن شيئا حدث لذمة الدنيا والعالم، وملكوت السماء والأرض، فخربت، ثقبت فجأة، وما لم نسارع بسد الثقوب لفغرت الأبدية فاها، وابتلعتك أنت والكون الخرب.
كان مرعوبا حقا! حتى لقد بدأ يرتجف وتصطك أسنانه، ويحس أكثر وأكثر بالطعنة القاتلة. ثمة سكين صوبت بيد تعرف تماما خباياه وأسراره، وأصابت فيه أعز ما في داخله. ألم الطعنة لا يزال لا يحسه، فالسكين ما تزال سارقاه. إن ما يحسه هو الثقب العميق الغائر الذي خلفته الطعنة، والذي كلما حدق فيه داخ وأحس أن في أعماق هذا الجرح نهايته. بغموض ودوشة وازدحام كان يحس بأن حادثا خطيرا وقع داخله، وبالضبط حين وقف على عتبة الباب المفتوح.
وكانت «فتحية» قد قفزت قفزتها الأولى، وأحست وهي تفعل وكأن آلافا من قطع الزجاج المكسور تستجمع نفسها، وتتشكل وتقفز، قفزة لم تفلح في رفع جسدها، إنما فقط استطاعت بالكاد رفع يدها، والإمساك برأس السرير الضيق المنخفض. ولقد أرادت بالقفزة الثانية أن تجري مغادرة الغرفة، أو تقف، أو حتى تجلس، أو بالقليل تجلب ثيابها وتغطي ما تعرى من جسدها، وهو كل ما استطاعت - دون ما أرادته جميعا - أن تفعله؛ إذ كان «حامد» قد وصل إلى العتبة، ووقف ممسكا بكالون الباب ينظر أول ما ينظر إلى الطفل الذي كان قد سكت، وانطرح أرضا، وبدا أنه نام، أو يغالبه النوم.
هو واقف ممسك بالكالون، وهي ممددة مفتوحة الساقين مبعثرة الجسد تستنجد برأس السرير ممسكة به، وهو ينظر إلى الطفل، وكأنما قد أصبح أهم شيء عنده، وهي تتجه بوجهها إلى السقف، ولكنها لا ترى إلا عيني «حامد». هو ليس في عقله، مشهد واحد لم ير منذ أن عادت إليه القدرة على الرؤية سواه، وكأنما انطبع في عقله، وأبى أن يزول، مشهد مؤخرة الأفندي العارية وعري «فتحية»، وقد اندمجا في كتلة بيضاء واحدة، وهي ليس في عقلها إلا نظرة «حامد» - أول وآخر نظرة تراها منه - لحظة اكتشاف حضوره، نظرة قد استحالت في رأسها إلى كابوس لا يرحم تكاد تصرخ من هوله مستنجدة، ولكن قوة قادرة قاهرة تخرس صرخاتها وتكتمها. كابوس ترى فيه عيني «حامد»، وقد استحالتا إلى سيخين من حديد محمي إلى درجة تطاير الشرر تقتربان بسرعة ثابتة مستمرة من عينيها الاثنتين، وحالا وحتما هما مخترقتاهما.
كل الفارق بينهما أن «حامد» - كما هي العادة دائما - مطالب أن يكون صاحب البادرة الأولى. أجل لا بد رغم كل الفجيعة والموت والرعب والطعنة والتأمل أن يعمل شيئا، ويعمله حالا، وفي التو ؛ إذ إن أي تأخر يفسده ويلغيه ويقضي عليه. وهي خلاص وصل كل شيء إلى منتهاه، ووقع المحظور الذي كانت تخشاه وطول عمرها تخشاه، ولم يبق سوى العقاب، ما أجمل أن يسرع به «حامد»! فكل إبطاء منه يهدد بأن يمضي بها التفكير، فتتأمل ما كان وما حدث! وأبشع عقاب في الدنيا أهون ألف مرة من أن تعود مرة أخرى لتفكر أو تتأمل أو تستعيد ما حدث.
كانت فكرة القتل قد دفعت نفسها من قاع عقله إلى سطحه، كبيرة الآن مكتملة لا يمكن تجاهلها. لو قتلها فأقصى ما سيناله من عقاب هو الحبس سنة، أو ربما أقل، أو يقولون براءة، فهل يقتلها الآن؟
هل يتناول عصاه التي كان يسميها «الزقلة» من تحت السرير، وينهال بها عليها حتى يتطاير مخها قطعا؟
هل يفعلها الآن؟ الآن؟ أو يستجوبها؟ أو لا يقتلها أبدا؟ السؤال رهيب مستمر دائر لا يتوقف في خواطره أبدا.
والشيء الذي كان يغيظه ويكاد يكتم أنفاسه حقا أن انفعالته المحيية المميتة الصاعقة الأولى قد مرت، وأنه الآن في لحظة أخرى، لحظة لا يرى فيها إلا المشهد الذي تسمر عنده بصره لا يريد أن يبرحه، بينما عقله يقلب فكرة القتل مغيظا؛ فقد كان القتل يبدو هنا شيئا لا يمت إلى اللحظة أو المشكلة أو الموضوع أو المشهد الدائر في عقله ولا علاقة له به، وليس الحل الهدف ولا ما يريده تماما، كيانه كله في واد آخر مشغول بما هو أهم وأخطر، والقتل يبدو شيئا خارج الصورة تماما كما لو كان يواجه خطر قطار السكة الحديد وهو قادم يريد أن يسحقه، وعقله مشغول بتقليب فكرة الدواء الذي وصفه له حكيم المستوصف، وهل الأجدى أن يأخذه قبل الأكل أو بعده؟ الآن لا يريد لها أن تموت، وهو قطعا لا يريد لها أن تحيا، وليست مشكلته أبدا أن تحيا أو تموت، أو حتى كل هذا الطوفان من الأحداث الذي داهمه منذ دفع الباب وفتحه، مشكلته الحادة الملحة في نفسه في هذا الجرح الغائر العميق الذي لا قاع له، في هذا النزف الهادر الذي انهمر داخله، ولا يزال متزايدا متعاظما يقربه في سرعة رهيبة من النهاية، نهايته؛ إذ ها هو ذا يراها تقترب اقترابا حثيثا مرعبا، حتى ليجعله يحس أنه في اللحظة التالية تماما سيموت، وينتهي «حامد» الذي يعرفه ينتهي تماما نهاية مفاجئة غادرة، تتربص له وراء اللحظة التالية، بينما عقله الهايف الغبي لا يريد أن يتزحزح قيد أنملة عن فكرة هل يقتلها أو يؤخر القتل إلى ما بعد الاعتراف؟ وهو يعلم تماما أنه غير قادر الآن على قتل بعوضة، وبعد غمضة عين لن يكون قادرا على أي شيء بالمرة؛ إذ سيكون بمثل هذه السرعة المروعة التي يمضي بها قد انتهى.
الغريب أن النهاية نفسها هي المسألة التي كانت مستولية على عقل «فتحية» تماما في هذا الوقت بالذات، ولكنها نهاية لا رعب فيها، ولا خوف متزايد من خطر ساحق ماحق يقترب في سرعة خرافية، نهاية لا تخاف منها وتقشعر وترتجف مثلما كان يحدث ل «حامد»، بالعكس! هي هنا تطلبها وتريدها وتتمناها، والمهم أن تأتي حالا، حتى تجهز عليها قبل أن يمتد الوقت ومضة أخرى، وتجد نفسها مضطرة أن تفكر، وبالذات أن تعود ترى نفس النظرة في عيني «حامد». وبمثل ما كان «حامد» يتشبث تشبث المستميت ليمسك بآخر أهداب الحياة، حتى لا تفلت منه قبل أن يستمر في مواجهة الموقف، فهي بكل إرادة الحياة فيها كانت تتمنى أن تنتهي هذه الحياة وتموت قبل أن يحدث أي شيء آخر.
অজানা পৃষ্ঠা