নবীন ঝর্না: গল্প চিত্র
النبع القديم: لوحات قصصية
জনগুলি
الجزء الأول: من نبع الشعر
مركب شراعي
هل ضحك الجسر؟
النبع القديم
اثنان
الصبي الذي كان يحمل اسمي
نيشت فيرشتاندن
أغنية النساجة في الليل
أمثولة الخواتم الثلاثة
نافورة
অজানা পৃষ্ঠা
كأسك المرة ورسالة استغاثة في زجاجة البريد
القبر الجديد
كل شيء يفنى إلا الفناء
قرطبتي وحيدة وبعيدة
البالونة
رسائل حب
إلى أمي الحبيبة
الغسل
أيتها الأميرة الصغيرة
غناء الشحرور
অজানা পৃষ্ঠা
الغراب
انتظر فسوف تستريح
الملاك الجريح
الجزء الثاني: من نبع العمر
التوائم الثلاثة
عندما بحثت عنهما
تحت الخيمة
يوسف والجب
كبرية
ستي ستيتة
অজানা পৃষ্ঠা
القلم
مع أبي
أمام الفرح
مع أمي
النبوءة
أحمس ...
أول فيلم
العتبة
الخروج من الكهف
محرقة الشعر
অজানা পৃষ্ঠা
القارئة الحجرية والمومياء الجرمانية
عدم ... عدم
كوجيتو مصري
الجسور
هذا البلد مكاني ... هذا الزمن زماني
الرجل الصغير، والبدء والمصير
الجزء الأول: من نبع الشعر
مركب شراعي
هل ضحك الجسر؟
النبع القديم
অজানা পৃষ্ঠা
اثنان
الصبي الذي كان يحمل اسمي
نيشت فيرشتاندن
أغنية النساجة في الليل
أمثولة الخواتم الثلاثة
نافورة
كأسك المرة ورسالة استغاثة في زجاجة البريد
القبر الجديد
كل شيء يفنى إلا الفناء
قرطبتي وحيدة وبعيدة
অজানা পৃষ্ঠা
البالونة
رسائل حب
إلى أمي الحبيبة
الغسل
أيتها الأميرة الصغيرة
غناء الشحرور
الغراب
انتظر فسوف تستريح
الملاك الجريح
الجزء الثاني: من نبع العمر
অজানা পৃষ্ঠা
التوائم الثلاثة
عندما بحثت عنهما
تحت الخيمة
يوسف والجب
كبرية
ستي ستيتة
القلم
مع أبي
أمام الفرح
مع أمي
অজানা পৃষ্ঠা
النبوءة
أحمس ...
أول فيلم
العتبة
الخروج من الكهف
محرقة الشعر
القارئة الحجرية والمومياء الجرمانية
عدم ... عدم
كوجيتو مصري
الجسور
অজানা পৃষ্ঠা
هذا البلد مكاني ... هذا الزمن زماني
الرجل الصغير، والبدء والمصير
النبع القديم
النبع القديم
لوحات قصصية
تأليف
عبد الغفار مكاوي
إلى ذكرى أمي وأبي.
الجزء
من نبع الشعر
অজানা পৃষ্ঠা
مركب شراعي
قادتني قدماي من مسكني في جزيرة الروضة إلى شارع البحر الأعظم.
كم أحببت السير في هذا الشارع الكثيف الظلال والشجون، هذا الشارع الذي لا تسلط عليه شركة الكهرباء أنوار مصابيحها التي تفضح الأسرار، وتطارد همسات القلب المتعب وهواجسه. كنت - كالعادة - أفضل السير والسرى في هذا الشارع، الذي لم يسموه عبثا بالبحر الأعظم. فأنا أقترب فيه من نفسي الممزقة من عناء العمل ومتاعب الحياة، أحاورها وتحاورني، وأجد الفرصة السانحة لمحاسبة الماضي والخروج من نفق الحاضر الخانق، والتفكير على مهل وبلا وجل في المستقبل - هنا أيضا لا يزعجني أحد ولا أزعج أحدا - فالمارة قليلون جدا، والأكواخ المبنية من اللبن أو من أعواد البوص تضفي على الشاطئ روح الخشوع والتواضع، وتعين الحائر على الرجوع إلى الذات. وما أكثر الهموم التي كنت في أشد الحاجة لأن ألقي بها في ماء النيل المنساب إلى جانبي كشيخ وديع ووقور، أو لأن ألفها في الظلال التي تحوطني من كل جانب كأن يد أم حنون تنشر عباءتها على جسدي وروحي. وها أنا ذا أفكر في هذه الهموم، وأفتش عن وسيلة للخلاص منها حتى أستطيع السير على طريق الحياة بلا قيود ولا أغلال؛ غدر زملائي في العمل، وكيدهم لي بتقديمي إلى التحقيق في تهمة ظالمة وكاذبة، تخلي خطيبتي عني وتركها الدبلة والهدايا مع أمها، وإعلانها عن رفضها حتى لرؤيتي أو التفاهم معي على هذا القرار المنفرد، تعثر حياتي الأدبية وشعوري المتزايد بأنني غير موفق، ولا أجد نفسي في مئات الصفحات التي أسودها وأسهر عليها، وأحيانا تقتضيني أن أذرف دموعي عليها فتبتل كأوراق الخريف الذابلة في يوم مطير.
لفت انتباهي صوت غناء يطرق سمعي من جهة النهر. اقتربت من الشاطئ، ونزلت الدرجات المهترئة المبنية من الحجر الجيري لأكون قريبا من الصوت وصاحبه. جذبني هذا الصوت الذي يطلق الأغنية المعروفة «سلمى يا سلامة» بطريقة مؤثرة وإن خلت من العذوبة. وأمامي وبالقرب مني كانت تمر على مهل شديد، مركب شراعية متوسطة الحجم ومحملة بأكياس رملية وألواح خشبية وأدوات حديدية مختلفة، والمراكبي الذي يذهب ويجيء على متنها، ويرسل عقيرته بالغناء الخشن، يدفع بالمجداف في قاع النهر؛ ليحرك مركبه الذي لا تقوى النسمات الضعيفة على ملء شراعه في هذا الوقت الذي يسوده السكون، الذي شمل كل شيء.
تعلقت بالمشهد، ووقفت أمامه خاشعا وذاهلا، كأنني أتابع موكبا مقدسا يمر في صمت في طريقه إلى معبد مقدس. يا للراحة التي غمرت أحاسيسي وأنا أتابع المركب الشراعي، وأبتسم لمرأى المراكبي الذي أخذت أتعاطف معه، وأشعر بالجهد الخارق الذي يبذله وهو يدفع مجدافه في الماء، فيتحرك المركب إلى الأمام. ويا للإعجاب الذي تملكني وأنا ألمح من على البعد عظامه البارزة من جلبابه القديم، الذي يشبه الخرق البالية، وأقدر مدى الجهد الذي يتكبده والألم الذي يعانيه، ويحاول مع ذلك أن يصرفه بغنائه الأجش الذي ينفذ في القلب.
هذا هو المركب الشراعي - البدائي سليل مراكب الأجداد القدماء - يتحرك النيل الهائل من تحته، وتهتز السحب والنجوم من فوقه. إنه يترك نفسه للنسمات الخافتة الرقيقة التي تلمسه وتكاد تتأوه من عجزها عن تحريكه، وهو يمضي في سبيله إلى الأمام، وينطلق في هدوء إلى البعيد البعيد. وها هو أمام عيني يترنح في دلال، وربما باعتزاز وفخار، كأن يد القدر هي التي تحركه. ويمر ويعبرني، أشبه بإوزة كبيرة أو بجعة فاتنة مختالة بنفسها، أو فراشة كبيرة هائلة الحجم تسكرها النسمات، وتهدهدها الأمواج، ويستحثها الغناء، فتسبح في طريقها غير عابئة بشيء حولها ولا وراءها ولا أمامها. آه! هل هو مركب شراعي وحسب، يسوقه مراكبي فقير متعب، يداري همه بالصوت الظمآن إلى عين الحبيب وحضن الابن والأب والأم بعد السفر والغياب؟ أم هو قارب سماوي يصعد منسابا على أجنحة الحرية، ويضيء ظلمات وجداني، ويهش وطاويط الهموم التي تتخبط في روحي وتعشش في ذهني؟
لا ... لم يكن أبدا مجرد مركب شراعي!
ذلك الذي رأيته وعشته ذات مساء وأنا أنقل قدمي الثقيلتين على الشاطئ الهادئ، في شارع البحر الأعظم.
1
هل ضحك الجسر؟
অজানা পৃষ্ঠা
في هذا العنوان مبالغة شديدة؛ فالجسر الذي أقصده لم يكن يطلق عليه أحد كلمة «الجسر»، التي تعلمتها في المدرسة. الذي كنت أعبره كل صباح وكل مساء في ذهابي إليها، وعند الإياب. لقد كان مجرد معدية بدائية أو كبري متواضع الحال، بناه الأجداد قبل أن أولد. ثم إنني لم أسمعه يضحك أبدا؛ إذ كان على الدوام لا يكف عن الشكوى والبكاء؛ تطقطق أضلاعه الخشبية العتيقة كلما مشى عليه الفلاحون في طريقهم إلى الحقول وعند عودتهم منها، ومعهم أبقارهم النحيلة بعيونها البريئة الصافية، وجواميسهم ذات الأجساد السوداء الضخمة، وحميرهم الصابرة المسكينة التي تميل بأفواهها على آذان بعضها لتسأل - فيما تقول الحدوتة القديمة - سؤالها الذي لا ينقطع منذ الأزل وإلى الأبد: متى يصل ملاك الحمير؟ بالطبع لا يعرف أحد غيري أن الجسر يشكو أو يئن بالبكاء، كلما مر حمل ثقيل يقطع أنفاسه، ويغرز قوائمه الحديدية الصدئة في ماء الترعة المواجهة لبيتنا. لكنني كنت أتعاطف معه إلى حد الاندماج فيه، واستشعار مواجعه وآلامه التي يكتمها في صمت. كنت أستقبله كل صباح كأنه صديق عجوز، أحن دائما للقائه وسماع حكاياته، ومواساته في أحزانه. تمر يداي على سوره الخشبي الذي يترنح من أي هزة بسيطة، وأسير عليه في تؤدة وبطء حتى لا تؤلمني طقطقة ضلوعه، التي ترتفع كلما عبره موكب الأبقار والجواميس والحمير والفلاحين في رحلة شقائهم اليومية. بل إنني كلما تلفت حولي ولم أجد أحدا غيري، كنت أجاذبه أطراف الحديث - كما علمنا مدرس اللغة العربية - أسأله عن أحواله، وأهون عليه كربه، وأعزيه بالأمل البعيد في أن يجدده مجلس القرية أو يشمر أهلها الطيبون عن سواعدهم، ويبدلوا ألواحه المهترئة وأرضيته الطينية المليئة بالنقر والمطبات بألواح وأرضية أخرى جديدة. وكم كنت أبكي معه عندما ننفرد في الليل، ويبثني أحزان يومه وعذاب أمسه ويأسه من غده. وكم تهورت في وعودي له، وبشرته بأنه سيعيش حتى يرى السعادة، ويعوض أيام الصبر والأسى بساعات، أو ربما بأيام ينطلق فيها بالضحك حتى يهتز ويميل، ويبادل أمواج الترعة ضحكا بضحك، وغناء بغناء. ولكم منيته أيضا بأن العصافير والهداهد ستحط عليه وتمرح على جسده وسوره الهش العجوز، وأن النجوم ستلمع من فوقه وترسل إليه أشعتها الفضية الصافية، ويقول له الجميع: لست وحدك في هذا الكون!
كنت أشعر - في حديثي الهامس معه، ونحن وحدنا، ولا شيء ولا صوت من حولنا سوى رفيف النسيم على أبداننا، وخرير الماء المنساب من تحتنا، وهمسات النجوم اللامعة العيون من فوقنا - كنت أشعر أنه لا يصدقني، وأنه يقول لي، وهو يتأوه، إنه قد تعود على الظلم والقسوة، ولا يصدق أي وعد من وعودي التي كنت أنا نفسي أشك فيها أحيانا، ومع مرور الأيام التي لا تأتي بأي جديد في حياته أو حياتي.
حتى كان صباح يوم غادرت فيه البيت، والزغاريد والضحكات تجلجل فيه بأصوات رنانة يسمعها القاصي والداني. قلت له في ذلك الصباح: أبشر يا عم، فأختي الكبرى التي يجهزونها اليوم للزفاف، ستعبر عليك اليوم ومعها العريس وأهل العروس والجيران والأقارب والأحباب، وكلهم ضاحك وسعيد. هل يمكن أن تكشر في وجوههم، أو تلوذ باكتئابك العتيد أمام هذا الحشد الصاخب السعيد؟ لن تفعل هذا، ولن أكلمك أو أستمع لشكواك الأزلية لو فعلت ...
وعبر موكب العرس في الليلة نفسها فوق الجسر المتقشف الحزين، وضحك كل من في الزفة وهتفوا للعروسين، وتصايحوا وغنوا ودقوا الطبول، وعزفوا على الأراغيل والمزامير. كنت معهم بطبيعة الحال، لكنني كنت كذلك مع الجسر طوال الوقت، أقول له: لا بد الآن أن تسعد يا صاحبي وتضحك! آن أوان الخروج من ظلمات تاريخك القديم مع الصمت والاكتئاب، أظنك توافقني على أنني حققت وعدي ورسمت على وجهك ابتسامة عريضة، سرعان ما تتحول إلى ضحكة بهيجة لن يسمعها أحد غيري. ترى هل ضحك الجسر العجوز في تلك الليلة كما توهمت؟ هل استطاع موكب العروس وزغاريد البنات والنساء ودوي الطبول ورنين المواويل، أن يخرجه من بؤسه القديم ولو مرة واحدة في حياته المملوءة بالعناء والشقاء؟
سألت نفسي هذا السؤال بعد عقود طويلة من الزمان. وعندما كنت أعبر الجسر الحديدي والأسمنتي الجديد الذي حل مكان صديقي القديم، في طريقي لزيارة شقيقي الذي خلا عليه البيت بعد رحيل أبي وأمي وإخوتي. لم أعرف إلى اليوم إن كان صديقي القديم قد ضحك في تلك الليلة المشهودة قبل أن يغرق - مع صباح اليوم التالي، وعبور المشاة والحيوانات عليه - في أحزانه القديمة. ولم يكن من الممكن أن أعرف ذلك من خلفه الحجري والأسمنتي المتجهم والمتعالي، بل لم يكن من الممكن حتى أن أسأله أو أتحدث معه.
النبع القديم
أطفئ النور، إذا شئت، ونم. نم في أمان، فأنت هنا بالقرب من النبع. النبع الذي يسميه الناس حينا بالعين الضاحكة، وحينا آخر بالعين الباكية. وإن كنت أنا أفضل أن أسميه النبع وحسب؛ لأنه يفور من قلب الأرض الغني بالأسرار. وسواء رأيت أن مياهه الصافية دموع منهمرة، أو ضحكات متلألئة؛ فهو يجيش بها على الدوام، وخريره مسموع ومتصل لمن يكلف نفسه بالاقتراب منه أو الإصغاء إليه. هل يزعجك هذا الخرير الذي يترنم أبدا بأغنيته، كأنه طفل يحلم بالشرب من الثدي المفعم بالسكينة والنقاء؟ إن كل الضيوف الذين يشرفون بيتنا الوحيد المتواضع، ويبيتون تحت سقفه، سرعان ما يتعودون على أنين هذا الخرير وأصدائه الموغلة في الأعماق.
هل قلت إنك لا تريد أن تنام الآن؟ ربما تفكر في تأليف قصيدة أو كتابة قصة أو تدوين لحن أو رسم صورة. هذا شيء متروك لك، نحن هنا لا نتطفل على أحد. وربما تكون شاعرا أو كاتبا أو مصورا أو ملحنا، أو مجرد إنسان يلتمس عندنا الهدوء وراحة البال. إنسان استغنى عن العالم، أو استغنى العالم عنه، وترك وراء ظهره ضجيج المدن وفساد القرى وأسواق اللغط والصراع والزحام. إنسان جاء إلى هنا ليكون بالقرب من الأصل والمنبع، بجوار مسكن الحقيقة ومأوى البراءة ومثوى الصفاء والنقاء. هل ذهبت اليوم إلى النبع فشربت واغتسلت؟ وهل تجولت في الصحراء الشاسعة الممتدة حتى اللانهاية، والمطهرة من كل رجس وإثم؟ لا بد أنك تعبت من السير ومن التأمل والتفكير. العشاء الخفيف - عشاء الزاهدين المعتكفين - جاهز وفي انتظارك. فإذا أكلت ورجعت لتنام، فلا تنزعج إن لاحظت شيئا من القلق أو الاضطراب حول البيت والنبع المخلدين على الدوام إلى السكون والكتمان. وحتى إذا صحوت فجأة من حلمك ومنامك، فاعلم أن الحصى المتناثر حول النبع، قد داسته خطى أقدام غريبة فأخذ يخشخش ويطقطق ويقطع عليك سماع خرير الماء وأنينه وترنيمته الأزلية. عندئذ لا تفزع ولا تنزعج! فالنجوم ساطعة ومكتملة العدد فوق النبع وفوق السقف الذي تنام تحته. إن هو إلا متجول وحيد، أو مسافر متعب اتجه إلى حوض النبع القديم ليطفئ ظمأه، ويغسل تراب العيش والعالم عن وجهه ويديه. ولعلك لو نظرت من النافذة لرأيته يغترف الماء براحة يده، ولو دققت النظر فقد تلمح رعشة فمه، الذي يتمتم ويدندن ويبارك أرواح الماء الراقصة تحت قبة السماء. اطمئن إذا سمعت هذا أو رأيته، فسوف يرجع الغريب من حيث جاء، وسيستأنف النبع خريره، وتصل أغنيته إلى أذنيك. وافرح إذا قالا لك على لسان المسافر الغريب: لست هنا وحدك مهما تمسكت بالوحدة. كم من متجول وجواب جاء إلى هنا وشرب وغمر عينيه ووجهه بالماء، ثم مضى وبريق النجوم الفضي يلمع فوق رأسه. وكم من متجول غريب، لا يزال كذلك في الطريق إليك وإلى النبع القديم.
اطمئن يا ضيفنا العزيز ولا تجزع. أنت الآن بالقرب من النبع. فابق بقرب النبع! ابق بقرب النبع!
1
অজানা পৃষ্ঠা
اثنان
وقفت ممسكة في يدها بالكأس المتألقة كاللؤلؤة. كم كانت حافة هذه الكأس الرقيقة النحيلة تشبه فمها الرقيق وذقنها الدقيق. كانت قد لمحته من بعيد وهو يتحسس بحنان رقبة فرسه البني الرشيق، واتجهت نحوه بخطى خفيفة واثقة، كأن يدا خفية تشدها إليه فتمشي كالسائر في نومه. مع ذلك لم ترتجف الكأس في يدها، ولا سقطت منها قطرة واحدة على الأرض.
أما الفارس فكانت يده خفيفة وراسخة. وبهذه اليد وضع السرج البهيج الألوان على ظهر فرسه الشاب، ثم قفز عليه قفزة سريعة لم تكد تستغرق لحظة واحدة. وباليد نفسها، بإشارة غير ملحوظة وإيماءة غير مقصودة، أمر الفرس أن يقف في مكانه، بينما كان جسده يختلج وساقاه ترتعشان.
لكن هذه اليد تخلت عنها خفتها، وغادرها رسوخها وثباتها عندما شعرت باليد الأخرى تمتد نحوها. أرادت أن تمسك الكأس وفردت أصابعها بقدر ما أمكنها لكي تتلقاها منها. كذلك فعلت اليد الأخرى الممدودة بالكأس، وحاولت أن تصل إليها، لكن كليهما أحس بجبل من الرصاص يرزح فوقهما. وتاهت كل يد عن الأخرى وعجزت عن أن تلقاها، وأخذ الاثنان يرتجفان بفعل زلزال ينفضهما ويهز جذورهما وفروعهما. وتساقطت الخمر المعتمة من الكأس، وشربها التراب.
1
الصبي الذي كان يحمل اسمي
زارني الصبي الذي كان يوما يحمل اسمي. وقف أمامي، على حين فجأة، واستند إلى جدار المكتبة صامتا شاحب الوجه. لم أدر كيف تسلل إلى حجرة مكتبي بينما كنت أقرأ أو أكتب بحثا أو أترجم نصا أو أحاول أن أعد كلمة أقولها في ندوة أو مؤتمر. لكنني وجدته أمامي ولم يكن هناك مفر من المواجهة. راح كل منا يتأمل الآخر دون أن يقوى على التلفظ بكلمة. نعم هذا وجهه، نفس الوجه البريء المتعب، نفس العينين الشاردتين التائهتين، نفس الانكسار والإحباط، وخيبة الأمل تكسو الملامح وتنسكب من النظرات الحزينة. كان هو أيضا يتطلع إلي في دهشة من لا يصدق؛ ربما أذهله الشعر الأبيض الذي يغمر رأسي كالثلج المتجمد، أو كلال العينين اللتين بدأ نور شمعتهما في الخفوت والخمود، أو التجاعيد التي حفرتها السنين على الوجه الذابل الذي غادرته نضارة الشباب من أمد طويل. وكان لا بد أن يبدأ أحدنا الكلام، فأردت أن أحييه وأرحب به في مسكني وبين كتبي المتراكمة من حولي. لكن وهج الغضب الذي كان يتأجج من عينيه، ويلهب وجنتيه، وينبئ عن اتهام وشيك لم يسعفني بكلمة واحدة. وما هي إلا لحظات حتى سمعت رنين أصوات تخترق أذني كأنها تلطمها وتهزها بعنف وقسوة: ماذا فعلت بي؟
رفعت حاجبي وأنا أسأل ببراءة: ماذا تقصد؟
رفع يده وهي يسدد إبهامه نحوي: كنت شاعرا في صباي، فإلى أين وصلت بي؟
قلت وأنا أحاول أن أرسم ابتسامة على فمي: أما أنك كنت شاعرا فهذا حق. ما زلت أذكر أنك عارضت غير مجد في ملتي واعتقادي، ويا نائح الطلح أشباه عوادينا ... وما زلت أذكر أيضا أنك كنت تدون قصائدك الأولى في كتيبات صغيرة تضع عليها اسمك، وتذكر أنها صدرت عن مطبعتك، لكنها انتهت جميعا إلى الفرن.
অজানা পৃষ্ঠা
قال مندهشا: الفرن؟!
قلت ضاحكا: نعم، جمعتها أمي مع مسودات قصص أخرى سخيفة، ومسرحيات ساذجة، وألقتها في الفرن. كانت حجتها أنها تعطلني عن المذاكرة، وأن الفائدة الوحيدة منها هي أن تشعل بها النار وأن تصير إلى الرماد، وتتحول إلى التراب الذي جئنا منه وإليه نعود.
سأل وهو يفتح عينيه على اتساعهما: هل معنى هذا أنك لم تواصل قول الشعر؟
قلت كأنني أحكي قصة خطيئة كبرى: أنا لم أتخل عنه إلا بعد أن تخلى عني ... لكن الشعر كما تعلم لا يغادر العظم واللحم الذي سكنه ذات يوم. بقيت منه الشاعرية التي كانت وراء ترجماتي ودراساتي التي لا آخر لها للشعر. لقد عجزت مع بلوغي العشرين عن كتابة قصيدة واحدة، بعد أن تهت وتورطت في المتاهة ...
قال وهو يقترب مني مستطلعا: تهت؟ ومتاهة؟ ماذا تقصد؟
قلت كأني أتذكر، أو كأني أعترف: نعم، شدتني الحكمة من يدي، فتهت منذ شبابي الباكر في صحراء العقل المجرد. راح الحكماء من الغرب والشرق يجذبونني إليهم واحدا بعد الآخر، فأنساق وراءهم وأدخل بيوتهم وصوامعهم وأعيش مع أفكارهم وتجاربهم، وأكتب وأكتب، أو أترجم عنهم. كنت أغوص في الصحراء اللافحة فيزداد عطشي مع كل خطوة، وكلما لاح سراب من بعيد، جريت نحوه وتصورت أنه واحة أستظل بها وأستريح من وهج القيظ ومرارة الحرمان، فأحاول أن أرجع إلى النبع المنسي.
سأل مندهشا: النبع المنسي؟
قلت: أجل. النبع الأصلي الذي كانت تشغلني عنه المهنة التي تورطت فيها، ولقمة العيش التي لم يكن منها مفر، وزحام المعرفة والثقافة الذي كنت مضطرا للمشاركة في أسواقه الصاخبة ... هل فهمت يا عزيزي الغائب الحاضر؟
هز رأسه آسفا، وقال: وماذا كنت تريد من ذلك النبع؟
قلت متعجبا: وماذا يطلب المرء من النبع الطاهر النقي؟ أن ينهل منه ويغتسل من رماد العالم، ويجد ذاته الضائعة ...
অজানা পৃষ্ঠা
ضحك فجأة، وقال: ما زلت لا أفهم ... نبع ورماد وذات ... ماذا تريد أن تقول؟
قلت: كنت في تلك اللحظات السرابية القليلة، أجد نفسي في قصة أو مسرحية أو خاطرة أكتبها وأستمتع بها قبل أن أكتشف أن السراب هو السراب، وأن قيظ الصحراء وضياع المتاهة لن يلبثا أن يجراني كالعبد المغلول بالسلاسل والقيود.
قال، وعلى فمه بسمة ساخرة : وصرت قصاصا وكاتبا مسرحيا يتحدث عنه.
قاطعته، وأنا أشير بيدي ساخطا: النقاد؟ باستثناء اثنين أو ثلاثة يذكر القصاصون فلا يذكر اسمي، ويعد كتاب المسرح فلا يتذكرني ناقد ولا مسرح ... وإذا ذكرني أحد فأنا عنده مترجم الشعر وشارحه، أو معلم الحكمة الذي قضى شبابه على أبوابها. وهكذا تراني الآن أيها الصبي الطيب الحبيب، تراني شيخا هده المرض والغدر والتجاهل وخيبة الأمل.
اقترب مني، وثبت عينيه في عيني: ألست أنت الذي تجاهلت نفسك وانشغلت عن نبعك ... لا تلم إذن إلا نفسك.
قلت: معك الحق، لا يصح أن ألوم إلا نفسي ... ولا ينبغي علي إلا أن أتدارك ما فاتني ... هل تتصور أن البقية الباقية ...
لم أكد أقول هذه الكلمات حتى خيل إلي كأن الصبي قد كبر فجأة في السن، وطالت قامته، ووقف أمامي متحديا ومحذرا. مد يده في جنب صداره، فأخرج ساعة كبيرة مستديرة تشبه الساعة العتيقة التي كان أبي يضعها في جيب جلبابه، ويخرجها منه كلما أراد أن يعرف مواقيت الصلاة. وبدأ الرجل الطويل الشامخ القامة، الذي كان قبل قليل صبيا غريرا، دائم الحزن والشرود، بدأ يهتف بصوت مرتفع: الحياة وقت، ولكل وقت قلب؛ أي له مركز ومنتصف. من أراد الحقيقة وصمم عليها استجاب لنبض هذا القلب، لزم المركز ولم ينحرف عنه. ألا يقاس الوقت بالسنين والشهور والأيام واللحظات؟ الحياة سنة ومركزها وقلبها هو أجمل شهورها، لكنك ضيعت على نفسك هذا الشهر. والحياة يوم له مركزه وقلبه ومنتصفه، لكنك ضيعت اليوم وأنت تحلم مفتوح العينين. والحياة آن أو لحظة لها مركزها وقلبها ومنتصفها، لكنك فوت على نفسك الفرصة فلم تعشها ولم تتذوقها، ولم تغترف كما ينبغي من نبعها. لكن انس هذا الآن، انسه وامنع أسنانك أن تعض لحمك. فها هي الحياة ما زالت تقدم لك قلبها ومركزها ونبعها المتدفق من أعماقها. قم ولا تضيع هذه اللحظة كما ضيعت غيرها.
نظرت إليه مذهولا من هيئته وكلامه. ويبدو أن الدموع التي ملأت عيني منعتني من أن أنتبه لاختفائه المفاجئ، كمجيئه المفاجئ. لم أجد أمامي ولا حولي إلا الكتب التي تنظر إلي صامتة خرساء من فوق الرفوف. ومع ذلك، فربما ناديت الشبح المتلاشي، وأنا أسائله بصوت هامس: وهل بقيت في العمر بقية ...؟!
1
نيشت فيرشتاندن
অজানা পৃষ্ঠা
أمدد ساقي المتيبستين على الكنبة البلدي في صالة شقتي المتواضعة بالزيتون، وأسمع زوجتي هنية تجهز الماء الدافئ في المطبخ لكي تغسلهما ثم تدهنهما بالمرهم الأحمر الذي يلطف من ألمهما المستمر بالليل والنهار. كذلك أنتظر بين لحظة وأخرى أن يفتح الباب ابني عاطف، الذي ذهب إلى الصيدلية؛ ليحضر لي أدوية الظهر والمعدة والرعشة والصداع التي لا أستطيع أن أعيش بغيرها. ولأني الآن - أنا حامد حمودة، نجار المسلح الذي جاوزت شهرته العاصمة إلى الأرياف - لم أعد أقوى على تسلق سقالة، ولا حمل سيخ حديد واحد، ولا تحريك إصبع لتوجيه عامل أو الإشراف على عمال بناء. فقد أصبحت في حالي البائسة أحيا مثل المحالين إلى المعاش على ذكريات الصبا والشباب، وأقضي الوقت مع الصور الباقية في ذهني وخيالي من المدن والحدائق والعمارات والشوارع والميادين والجبال والغابات التي كان من حظي أن أراها، أو آكل فيها لقمة عيش. وفي هذه الأيام التي أشعر فيها - على الرغم من تأكيدات الأطباء والزوجة والأبناء - بأن دبيب النهاية يسري في دمي وأعضائي، وأنني أرى نفسي في المنام وفي اليقظة ملفوفا في كفن أبيض وملاءة بيضاء، وراقدا وحدي في قبر ضيق ومظلم ووحيد. في هذه الأيام تلح علي صورة الإنسان الذي تصورت لجهلي وقلة حيلتي أن اسمه «نيشت فيرشتاندن»، ويؤلمني أن أتذكر أيضا أنني لم أره ولم أتعرف عليه أبدا، وأنه يرقد الآن في الغالب في تابوته الخشبي داخل قبر عليه شاهد رخامي في إحدى المقابر - أو ساحات السلام كما يسمونها - في ضواحي هامبورج، تلك المدينة الضخمة ذات الميناء المهول على ضفاف الراين، التي قدر لي أن أعيش فيها عدة سنوات، وأنا آكل فيها - كما سبق أن قلت - لقمة عيش قسمت لي. كان ذلك في أواخر الخمسينيات حتى أوائل الستينيات، عندما أرسل إلي صديقي عبده المسلح - فكذلك كان زملاؤه يلقبونه ؛ لبراعته الشديدة في توضيب سقف المسلح - عندما أرسل إلي عقد عمل من شركة المقاولات المتحدة التي كان قد سبقني بالعمل فيها في تلك المدينة التي ذكرتها. لم أكذب خبرا، وسافرت على الفور إلى هناك، مدفوعا بإعجابي بأهلها وناسها من ناحية، والإحساس بضرورة الوقوف إلى جانبهم لتعمير ما خلفته الحرب وراءها من دمار وخراب.
وصلت إلى المدينة بعد رحلة مرهقة بالطائرة، في يوم ظننته حالة استثنائية قبل أن يثبت لي أن معظم أيامهم لا تختلف عنه كثيرا. يوم ممطر تسح فيه سماء مكفهرة ومثقلة بالضباب والعتمة من آلاف آلاف القرب المفتوحة التي تصب منها على رءوس البشر المساكين شياطين البروق والرعود والصواعق والسحب والبخار التي لا تهدأ ولا تستريح في صيف ولا شتاء. رحت أتجول - بعد الانتهاء من إجراءات الجمارك والجوازات - في شوارع هذه المدينة التي تطؤها قدماي لأول مرة. شعرت بأنها مدينة عظيمة واسعة تشغي كخلية النحل الهائلة بنشاط تجاري وملاحي لا مثيل له، وتعمرها - برغم الأطلال والأنقاض التي تشاهد في كل مكان - مباني ضخمة ومنازل جميلة، تزدان شرفاتها ونوافذها بالزهور المتنوعة الأشكال والألوان، وتزدهي معظم ميادينها بتماثيل لملوك وفرسان وقسس عديدين، أو بنوافير تسكب أنهارا من الحياة الفائرة التي تجذب إليها الحمام والأطفال والمتسكعين الذين يتخذون من درجاتها الرخامية اللامعة كسلالم قصور الجنة، ملجأ لهم يستريحون فيه. رحت أشبع عيني من المناظر المتتابعة في الشوارع والحارات والحدائق والمقاهي والقصور التي نجت من دمار الحرب، وسلمت من قنابل الطائرات. بينما أتفرس في الوجوه الحادة الصارمة إلى حد القسوة، وأتعجب من أنني لم أجد بينها وجها واحدا يضحك أو يبتسم، مع أن صفارات البواخر التي تجأر وتنادي من بعيد، وصيحات الأطفال الخارجين لتوهم من المدارس، وضوء الشمس الذي بدأ يصارع السحب الجهمة المتكاثفة، ويفرش أشعته الذهبية على الأشجار والبيوت والأسوار والجدران وأسفلت الشوارع. مع أنها جميعا يمكن أن تبعث الرضا وتبسط قسمات الوجوه إن لم تستطع أن تكسوها بالسعادة والابتسام.
لفت انتباهي وأنا سائر - كثور الله في برسيمه، الذي لا أفهم لغته ولا أعرف أحدا من أهله! - بيت رائع الجمال، فسيح الأرجاء، لم أر في حياتي بيتا يدانيه في الأبهة والفخامة والجلال. أخذت أتأمل هذا البيت، بل هذا القصر، بل هذه التحفة المعمارية، وأنا واقف أمامها كالمذهول، تزدحم في نفسه نوازع الإعجاب والحسرة والاندهاش أيضا من بديع صنع سقفه وواجهته وسلالمه المرمرية الناصعة، ونوافذه الطويلة والمستطيلة التي تشبه الأبواب في بلدي، وقصاري الزرع المتعددة الألوان التي صفت على جوانب الدرج العريض ومدخل البيت ومعظم أركانه ونتوءاته. قلت لنفسي: لا بد أن هذا القصر يملكه ويسكنه شخص عظيم، ملك أو وزير أو تاجر كبير يحتكم على أساطيل من السفن التي تجلب البضائع من الشرق ومن شتى بقاع العالم وموانيه. وانتظرت حتى مر علي أحد العابرين، فاقتربت منه وسألت بلغتي التي لا أعرف غيرها: قل لي أيها الرجل الطيب، هل تعرف اسم صاحب هذا البيت الرائع، أو هذا القصر المنيف، الذي يزدهي كالعروس بألوان الزهور والزينات؟ لكن الرجل الذي بدا عليه الانشغال الشديد ربما أغضبه أن يوقف أحد خطواته السريعة، رد باختصار، وبوجه متجهم، بهذه الكلمات التي دخلت أذني كوشيش قطار مسرع: «نيشت فيرشتاندن». شكرت الرجل الذي ألقى علي نظرة تفيض بالضيق وعدم الاكتراث، وكأن الذي سأله لم يكن سوى حيوان غريب وغير مألوف. ولما عبر بي عذرته، وتذكرت أنني كلمته بلغتي التي لا يفهم منها حرفا، كما رد علي بلغته التي لا أعرف منها إلا قدر ما يعرفه هو من لغتي. لكنني شكرته بيني وبين نفسي. وقلت ربما يكون قد أدرك من ذهولي أمام القصر أنني سألته عن اسم صاحبه، ولذلك ظللت أكرر ذلك الاسم الصعب طوال سيري على القدمين متوجها ناحية الميناء للقاء بلدياتي، وكأنني تلميذ يحاول أن يحفظ كلمة أجنبية صعبة ومليئة بالشينات، التي بدت لي كلهاث شاحنة ثقيلة أو صفير سفينة توشك على الرحيل.
حفظت الكلمة التي لم أعرف معاناها إلا بعد ذلك من صاحبي عبده المسلح، ثم من اجتهادي على مدى شهور طويلة في تعلم بعض الكلمات والجمل التي تساعدني على الحياة، والتعامل مع زملائي في العمل وسكان هذا البلد. المهم أنني اعتقدت بحسن نية، وبثقة لا أعرف مصدرها، أن هذه الكلمة الصعبة تدل على اسم صاحب ذلك البيت الذي وقفت أمامه وقفة الشحاذ على باب قصر السلطان. وكم قلت لنفسي إن هذا الرجل «نيشت فيرشتاندن» لا بد أن يكون ثريا جدا، وسعيدا جدا جدا.
مضيت في طريقي إلى الميناء وأنا أفكر في الرجل ذي الاسم العسير العجيب، وفي صاحبي الشهم عبده، وفي الناس المتجهمين المسرعين الذي أقابلهم مع كل خطوة أو أمر بهم في الطريق. وأخيرا، وبعد أن سألت بعض العابرين باللسان واليدين، بالصفير والشخير وتقليد حركات الأشرعة والبحارة والملاحين، أخيرا وصلت إلى الميناء الذي بدا لي كذلك مدينة وحده، مفتوحة على البحر الواسع المترامي الأمواج. وقفت في ذهولي على الشاطئ أراقب السفن التي تدخل الميناء أو تخرج منه، فلفتت انتباهي بجانب العجائب والغرائب الكثيرة، سفينة عظيمة بدا أنها رست على الميناء قبل قليل، وشرع العمال والحمالون والونشات الكبيرة في تفريغها من شحناتها وحمولاتها الملفتة للأنظار: صفوف الصناديق الكبيرة، والأكياس المنتفخة المتراصة بجوار بعضها على رصيف الميناء، أوعية وبراميل وكراتين تفوح من بعضها روائح البن والشاي والفلفل والتوابل، فضلا عن أجولة السكر والأرز التي كان من السهل التعرف عليها. توقفت طويلا أتأمل السفينة والبحارة والحمالين والصناديق المتنوعة الأشكال والألوان، وأنا أقول لنفسي إنها قادمة بغير شك من الهند الشرقية أو بالتأكيد من بلد آسيوية غنية بمحاصيلها ومنتجاتها وموادها الخام. ووخزني حب الاستطلاع المغروس في فطرتي والموروث من أهلي، فاقتربت من رجل طويل ومهيب كان يقف مثلي على الرصيف ويتأمل السفينة والشعب المشغول بأمورها بانبهار لا يقل عني. كان كل همي في تلك اللحظة هو أن أعرف اسم المحظوظ مالك هذه السفينة، بل هذه المدينة العائمة، فسألته بلغتي التي لا أعرف غيرها عن صاحب هذه السفينة الرائعة الزاخرة بأعجب السلع والبضائع. أجاب الرجل بعد أن نظر إلي من عل بامتعاض وغضب ظهرا على حاجبيه المعقودين، وعينيه الساخرتين، وشفتيه الممطوطتين: «نيشت فيرشتاندن». ضربت بكفي على ركبتي، وهتفت صائحا والرجل يرمقني وهو ينصرف كأني مجنون أو مختل العقل: ومن غير مالك القصر يمكن أن يملك هذه المدينة العائمة على سطح الموج؟! لا عجب! لا عجب!
انصرفت أنا أيضا وابتعدت عن الشاطئ وأنا أتفكر في تصاريف القدر وقسمة الحظوظ، وأعي عن يقين مدى فقري وبؤس حالي بالقياس إلى أمثال هذا الرجل الذي غمره الثراء والنعيم بغير حساب. وبينما كنت خارجا من منطقة الميناء في طريقي للبحث عن مبنى شركة المقاولات القريبة التي يعمل فيها صديقي عبده - وأعترف الآن أنني كنت أتحسر على نفسي، وأتمنى عليها أن أعيش كما يعيش هذا السيد نيشت، الذي لا أعرف حتى كيف ينطق اسمه ولو ليوم واحد - إذا بي ألمح من بعيد موكب جنازة مهيبة يشق طريقه في سكون وجلال إلى «ساحة السلام» الواقعة غير بعيد من الميناء. كانت تتقدم الموكب العظيم أربعة خيول وقورة ومتدثرة بأشرطة قطيفية سوداء، تكسوها من العنق إلى الذيل، وتجر وراءها عربة سوداء كبيرة لنقل الموتى تنسدل على نوافذها الزجاجية ستائر سوداء أيضا. ويمشي خلفها جمع غفير من المشيعين الذين يرتدون معاطف سوداء في بطء وحزن شديدين، كان من الواضح أنهم من أصدقاء المتوفى ومعارفه وأقاربه، الذين جاءوا لتوديعه إلى مقره الأخير في بيت الأبدية. وكانوا يسيرون أزواجا أزواجا في صفوف صامتة خرساء، بحيث لا يسمع غير أصوات الموسيقى الجنائزية التي تصاحب الموكب، ورنين أجراس صغيرة تدق من أبراج كنائس قريبة وبعيدة ... أخذت أتأمل المشهد المؤثر في أسى شديد، على الميت وعلى نفسي المسكينة التائهة في أرض غريبة وسط أناس لا تعرف لغتهم ولا يعرفون لغتها ... وعندما حاذتني عربة الموتى وجدت نفسي تتمتم بالفاتحة، وأرفع يدي وإبهامي دون أن أشعر وأردد الشهادتين. ولما جاوزتني العربة، قلت لنفسي وأنا أفكر في المصير المحتوم: هم بشر مثلنا على كل حال، مهما قست وجوههم ونطقت ألسنتهم بلغة لا تفهم! ولكنني اندفعت نحو آخر زوج من المشيعين لأسألهما وأنا أعتذر لهما بانحناءة شديدة من رأسي عن اسم المتوفى المرموق، الذي تحمله العربة السوداء ذات الخيول الأربعة السوداء. وقلت في أسى حقيقي، وبلغتي التي أعلم أنهما لن يفهما منها حرفا: لا بد أن المرحوم كان صديقا لكما، ولا شك أنه كان رجلا بارزا في المدينة، ولهذا تدق له الأجراس ويسيطر الحزن والخشوع على كل من يمشي في جنازته، أليس كذلك أيها السيدان؟ نظر إلي السيدان في تعجب، وخرجت من أفواههما في نفس واحد، الكلمة نفسها التي سمعتها قبل ذلك مرتين: «نيشت فيرشتاندن» ...
لا أدري كيف فوجئت وأنا أسمع الاسم بدمعتين تسقطان على خدي، وبحجر ثقيل يجثم فوق صدري ويوشك أن يخنق أنفاسي. أخذت أقول لنفسي بعد أن تابع السيدان سيرهما خلف الجنازة: مسكين أنت والله يا سيد نيشت الذي لا أعرف حتى كيف أنطق اسمه، ما الذي أخذته من كل ثروتك؟ سبحانك ربي في علاه. لم تأخذ يا عبد الله الألماني إلا ما يأخذه فقير مثلي جاء بعقد عمل إلى بلادكم - مجرد كفن وملاءة بيضاء - لا قصر ولا سفينة، لا مال ولا مجد، بل عملك الصالح أو الطالح يا سيد نيشت هو الذي يدخل معك في ليل الظلمة الأبدية، فيؤنسك أو يزيد من كربك ووحشتك ... هكذا قلت لنفسي والله، ولم أتردد لحظة عن أداء الواجب. سرت خلف السيدين اللذين بدا عليهما الضيق من سؤالي عن الميت، وربما أخذا يلعناني بكلمات لن أفهمها. مشيت ومشيت وراء المشيعين، ونسيت كل شيء عن العمل والصديق الذي ينتظرني في مقر الشركة. وعندما دخلت «ساحة السلام» مع الداخلين، تعجبت من نظامها الجميل وتنسيقها المتقن، وكأني داخل بستان شاسع الأرجاء، أشجاره وزهوره ليست سوى القبور وشواهدها المصفوفة في صفوف بديعة الصنع والتكوين. نعم، تبعت جثمان الرجل الذي أعجبت به إلى حد الحسد، ثم بكيت عليه لما فهمت أنه هو نفسه صاحب القصر والسفينة - المدينة - وظللت واقفا مع المشيعين وهم ينزلون السيد «نيشت» في قبره، كما استمعت حتى النهاية لكلمات الوداع التي ألقاها قسيس شاب بصوت جهوري واضح، وإن لم أفهم منها كلمة واحدة. ثم دخلت مع معظم المشيعين بعد انتهاء مراسم الدفن مطعما صغيرا أقيم - ويا للعجب! - بالقرب من ساحة السلام، وأدهشني أنه كان مستعدا لاستقبال هذا العدد الضخم من الأهل والأصدقاء الذين راحوا - وأنا معهم - يشبعون جوعهم ويروون عطشهم على روح المرحوم.
وقد عثرت بعد ذلك على صديقي العزيز، وانخرطت في العمل الشاق بكفاءة دهش لها كل العاملين. وقضيت عدة أعوام في عمارة البيوت والمؤسسات ومباني الحكومة، قبل أن أرجع إلى بلدي راضي النفس، قرير العين. وها أنا يا زوجتي العزيزة التي تغسل ساقي المتيبستين بالماء الدافئ قبل دهنهما بالمرهم الأحمر اللون، لا أفتأ كلما ضاق بي الحال بعد ذلك، وكلما فكرت أن الدنيا فيها أغنياء مثل السيد نيشت فيرشتاندن، وفقراء متواضعو الحال مثل العبد لله، أقول لا أفتأ أتذكر هذا الميت المجهول الذي أخطأت في فهم اسمه، كما أذكر نفسي بأنه وإن امتلك القصر الرائع البديع والسفينة المهيبة المهولة، قد استقر في النهاية في لحده المظلم الضيق الذي لن يختلف كثيرا عن ذلك القبر المظلم الضيق الذي سيواريني لا محالة بعد سنين أو شهور أو أيام ...
1
أغنية النساجة في الليل
অজানা পৃষ্ঠা
قبل سنوات بعيدة، سنوات طويلة، كان البلبل أيضا يغني معنا.
بصوته العذب الشجي كان يغني، عندما كنا معا واجتمع شملنا.
ها أنا ذا الآن أغني وحدي، وأحاول أن أبكي فلا أستطيع. أنسج وأنسج على النول وحدي، وبأناملي أشبك الخيط الرقيق بالخيط الدقيق. وسأبقى أنسج وأغني، طالما القمر يسطع في السماء.
عندما كنا معا يا حبيبي، كان البلبل يغني ويغني، والآن ينبهني صوته الحنون أنك سافرت ورحت إلى البعيد البعيد.
كلما طلع القمر في السماء، فكرت فيك وحدك يا حبيب، وراح قلبي النقي الكئيب يدعو الله أن يجمع شملنا عن قريب.
لم يزل البلبل لا يكف عن الغناء، منذ رحلت بعيدا عني، وما زلت لا أفكر حين أسمع صوته يا حبيب، إلا في يوم لقائنا القديم.
ليأذن الله لنا باللقاء، فأنا هنا أنسج وأنسج وحدي، القمر نوره ساطع وصاف في السماء ، وأنا أغني وأغني يا حبيب، لأغالب رغبتي في النشيج والبكاء.
1
أمثولة الخواتم الثلاثة
(صيغة مختصرة)
অজানা পৃষ্ঠা
في سالف الأيام، كان يعيش في الشرق رجل يمتلك خاتما لا تقدر قيمته بمال، أهدته له يد حبيب عزيز وغال. كان الحجر النفيس الذي صنع منه الخاتم من «الأوبال»،
1
وكان يشع منه ما يزيد على المائة من الألوان، وكانت له خاصية خفية تجعل كل من يحمله محبوبا ومرضيا عنه من الله والناس. لا عجب إذن في أن الرجل الشرقي كان حريصا عليه على الدوام، ولم يخلعه من إصبعه أبدا في يوم من الأيام، ولا عجب أيضا في أن يدبر كل ما يستطيع للاحتفاظ به في بيته وأسرته إلى أبد الآبدين!
وهكذا قرر أن يترك الخاتم لأحب أبنائه إلى قلبه، كما استقر رأيه أيضا على أن يورث هذا الابن بدوره الخاتم لأحب أبنائه وأعزهم على نفسه، بشرط أن يبقى أحب الأبناء باستمرار، وبصرف النظر عن أصله ومولده، وبالقدرة الكامنة في الخاتم وحدها أن يبقى هو أمير البيت والرأس المدبر للعائلة. •••
هكذا وصل هذا الخاتم، في مسيرته من ابن إلى ابن، إلى يد أب له ثلاثة أبناء. كان الأبناء الثلاثة متساوين في طاعتهم له، ولم يكن في مقدروه أن يحرم أحدا منهم من حبه وحنانه. لكن الأيام دارت دورتها، وبدأ الأب يدخل في دائرة الموت كما يدخل في دائرة الحيرة والارتباك، فكم آلمه وحز في نفسه أن يتسبب في ألم اثنين من أبنائه يثقان بصدق كلمته وعهده. لكن ماذا يفعل؟
هداه عقله أن يستدعي في السر صانعا اشتهر بتفوقه في صنعته، وطلب منه أن يصنع نسختين من الخاتم بحيث لا يدخر جهدا ولا مالا في أن يجعلهما مطابقتين تمام التطابق مع الخاتم الأصلي. نجح الصائغ الفنان في مهمته، وعندما حضر إليه ومعه الخواتم الثلاثة، تعذر على الأب نفسه أن يميز الخاتم الأصلي من النسختين. وسعد الأب سعادة كبيرة، ونادى في صوت مفعم بالفرح ليلقاه كل منهم على انفراد، وفي هذا اللقاء باركهم واحدا واحدا، وأعطى كلا منهم خاتمه، ثم مات ...
لم يكد الأب يموت ويواري التراب حتى رجع كل واحد من الأبناء ومعه خاتمه، وكل واحد منهم مصمم على أن يكون هو أمير البيت ورأسه المدبر. طال البحث، وشب النزاع والشجار، وارتفعت الأصوات بالشكوى والاتهام. عبث كان ذلك كله وبلا فائدة، فقد استعصى عليهم أن يتبينوا الخاتم الأصلي ... تماما كما يستعصي علينا اليوم أن نتبين أي الديانات الثلاث هو الأصح.
قال القاضي: سمعت أن الخاتم الصحيح يمتلك الطاقة العجيبة في أن يجعل صاحبه محبوبا ومرضيا عنه من الله والناس. هذا الخاتم هو الذي يمكنه أن يحسم الأمر! لأن الخواتم الزائفة لا تستطيع بطبيعة الحال أن تحدث هذا الأثر! والآن، من هو الابن الذي يحبه اثنان منكم أعظم الحب؟ هيا! تكلما! إنكم تلوذون بالصمت، فهل يتراجع تأثير الخواتم وينقطع تأثيرها على الخارج؟ وهل أفهم من هذا أن كل واحد منكم لا يحب إلا نفسه أعظم الحب؟ آه! إذا صح هذا كنتم جميعا خادعين ومخدوعين! وكانت خواتمكم الثلاثة غير أصيلة. ربما كان الخاتم الأصلي قد ضاع، وربما كان هذا هو السبب في أن يحاول الأب إخفاء الخسارة، أو التعويض عنها، وهو الذي جعله يصنع الخواتم الثلاثة بحيث يستحيل تمييز أحدها عن الآخر. •••
إن شئتم أن تسمعوا نصيحتي، بدلا من أن تسمعوا حكمي، فهيا انصرفوا! لكن نصيحتي لكم هي هذه: ليأخذ كل منكم الأمر على ما هو عليه. وإذا كان كل واحد منكم قد أخذ الخاتم من أبيه، فليعتقد كل واحد منكم أن خاتمه هو الخاتم الأصلي، لعل الأب لم يشأ أن يصبر على استبداد خاتم واحد بالأمور كلها في بيته! بيد أن الشيء الذي لا شك فيه هو أنه أحبكم أجمعين، وأنه لم يفرق في حبه بينكم، إذ لم يطاوعه قلبه أن يميز واحدا منكم أو يؤثره على أخويه الباقيين.
هكذا كان الحال! فليسرع كل منكم ويسعى بكل جهده لاقتفاء أثر حبه الحر المنزه عن التحيز! ليراهن كل منكم على أن يظهر للعلن تلك الطاقة العجيبة الكامنة في طوايا خاتمه! وليعمل من جانبه على أن يشحذ هذه الطاقة بكل ما أوتي من دماثة، وتسامح، وإحسان، وخشوع خالص لله! وعندما تظهر قوة هذه الخواتم وطاقتها العجيبة عند أحفاد أحفاد أحفادكم، فسوف أدعوهم مرة أخرى بعد الآلاف المؤلفة من السنين لكي يمثلوا أمام هذا الكرسي نفسه. ويومئذ سيجلس على هذا الكرسي من هو أحكم مني بكثير، وسوف يقول أيضا كما أقول لكم الآن: انصرفوا!
অজানা পৃষ্ঠা
2
نافورة
أمر عليها في الذهاب وفي الإياب.
أقف أمامها لأشاهدها وأتأملها بعد ما شاهدتها وتأملتها عشرات بل مئات المرات دون أن أشبع أو أقنع ...
ها هي شعلة الماء ترتفع - كما فعلت على الدوام - وتصعد لي أعلى، تميل على شعلة ثانية، تميل هي أيضا على ثالثة، ثم رابعة ...
وتدفق الماء المنحدر كشلال صغير وعنيف في حوض من المرمر؛ فيسقط الماء في قاع الحوض يدمدم ويدوم ويحوم كآلاف الطيور البحرية الصارخة.
يمتلئ الحوض بالماء المتموج حتى يندلق من حوافه ويفيض، يندلق ويفيض وهو متلألئ مختال بكنزه الفضي الرقراق فيصب في حوض ثان يقع أسفله، ويظل يتدفق حتى يؤلم القاع، يغني هذا الحوض بثروته فيعطي ويسخو فورا وبلا تردد على الحوض الثالث الذي يقع تحته ويتقبل عطاءه الجياش. هكذا أرى كل حوض يأخذ ويعطي، يتدفق ويستقر في نفسه، يكون ولا يكون في وقت واحد.
وبعد أن أشبع عيني من المشهد - دون أن أكتفي أو أقنع! - أكاد أسمع صوتا لا أدري حين يتردد في سمعي إن كان قد هبط علي من أعلى، أو صعد من داخل كياني وعمق ذاتي:
لو أنك كنت فقيرا، أفقر مما أنت عليه، «لو تصمت في حركتك وتتحرك في صمتك»،
لو تتعلم أن تتحقق حين تسيل وتدفق،
অজানা পৃষ্ঠা
لو تعرف كيف تكون غنيا في فقرك، وفقيرا بغناك،
لاستطعت أن تعطي وتأخذ، أن تتلقى وتجود!
مثل هذه النافورة التي تتدفق فتسخو، وتمتلئ
فتنهمر، وتصب عطاءها في حوض بعد حوض.
1
كأسك المرة ورسالة استغاثة في زجاجة
البريد
كأسك المرة يشربها في الصباح، يشربها في المساء، يشربها في الصحو وفي النوم ، يشربها في النهار والليل، يشربها يشربها.
كأسك المرة يا رجاء، يا دعاء، يا هناء، يا سناء، يا أسما - لا أفصح عنه - يحوي الأسماء، يشربه في الليل والنهار، في الصبح والمساء ...
والرجل الطيب المكتئب ذو الشعر الأبيض، كالثلج يشرب كأسك المرة يشربها، يحفر لنفسه في كل الأوقات قبرا يسكنه، لا يبرحه، قبرا لا يرى فيه غيرك ولا يحس بغيرك، ويشرب كأسك المرة في أوقات الليل والنهار ... يشربه يشربه منذ شبابه الباكر عندما أحبك - يا جارته المرة - حب الجنون، ومنذ أن خذلته ورفضت حبه الكسير المستحيل، منذ أن شله العجز والخجل الفطري الملعون فلم يخاطب لسانه لسانك، ولم تلمس يده يدك، ولم يعرف إلا نظرة عينيك القاسيتين الساحرتين، من شباكك أو شرفة مسكنك، عينيك السوداوين الواسعتين اللتين نفذت سهامهما المشتعلة في صدره، ولم يزل يشرب كأسهما المرتين في الصباح والمساء، في العمل وفي الراحة، وهو جالس إلى مكتبه يقرأ ويكتب، وهو في قاعة المحاضرات أو الندوات والمؤتمرات يثرثر ويثرثر، منذ ذلك اليوم الذي رآك فيه ونفذت سهامك المشتعلة في صدره، في غرفه السرية الدفينة، في قلب كيانه البائس الكئيب، وهو يشرب كأسك المرة، يشربها، ويشرب ويشرب.
অজানা পৃষ্ঠা