بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله الذي شرفنا باللسان العربي، وجعلنا من أمة سيد ولد آدم محمد النبي الأُمي، الداعي إلى طريق الواضح الجلي. صلى الله عليه وعلى آله المُتَسَنِّمين من الفضل صهوة المنصب العلي، ما ولي الأرض بعد وسم الوسمى سلطان الولي، ونم بأسرار الرياض نسيم شذاها الذكي.
أما بعد. فإن مولانا سلطان العرب والعجم. عز الملوك العصرية؛ ومالك فضيلتي السيف والقلم. وملك اليمن والشام والديار المصرية؛ أبا المعالي أبا المظفر محمدًا الكامل، الكامل الأوصاف، لا برحت ببقائه الممالك مهتزة الأعطاف. معتزة الأطراف؛ تقدم إلى أمره المطاع، الواجب له على من الجهد غاية ما يستطاع؛ أن أجمع له ما أجتمع عندي من الأناشيد، التي رويتها عن شعراء الأندلس وسائر المغرب بأقرب الأسانيد. فجمعت منها لخدمة مقامة العالي ما يؤكل بالضمير ويشرب، ويهتز عند سماعه ويطرب؛ في الغزل والنسيب، والوصف والتشبيب؛ إلي غير ذلك من مستطرفات التشبيهات المستعذبة، ومبتكرات بدائع بدائه الخواطر المستغربة. ولمح سير ملوك المغرب وملح أخبار أدبائه، ورقيق معان كتابه وجزل ألفاظ خطبائه.
1 / 1
وبالجملة فقد نثلت في هذا المجموع كنانة محفوظاتي في المعارف الأديبة، ولم أخله من أخير ذخائر ما التقطته من أفواه مشايخي من مشكل علمي الغريب والعربية. إلا أني لم اقصد جمع ذلك على الترتيب. ولا سلكت فيه مسلكي المعهود في التبويب والتهذيب. بل استرسلت فيه مع الخاطر على ما يجود به ويسمح، ويعن له ويسنح. فالناظر فيه يسرح في بساتين، ويمرح في ميادين؛ ويخرج من فن إلى فنون، والحديث ذو شجون.
1 / 2
أبو عمر يوسف بن هارون الرمادي
أنشدني غير واحد من شيوخي، ﵏، منهم الشيخ الفقيه الأجل قاضي الجامعة الأجزل. أبو الحسن علي بن عبد الرحمن، لفضًا بمنزله بمدينة تلمسان، قال: أنشدنا الفقيه الإمام العالم أبو عمران موسى بن عبد الرحمن بن خلف بن موسى ابن أبي تليد الشاطبي، قال: أنشدنا الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر قال: أنشدنا مقدم شعراء الأندلس: أبو عمر يوسف بن هارون الرمادي لنفسه، وتوفي سنة ثلاث وأربعمائة:
وليلةٍ راقبتُ فيها الَهوى ... على رقيب غيِرِ وسْنَانِ
والرّاحُ ما تَنزِل عن راحَتي ... وقتًا وعن رَاحةِ نَدْمَاني
1 / 3
ورب يومٍ قيظُه مُنِضجٌ ... كأنَّه أحشاءُ ظَمآن
أبْرزَ في خدَّيه لي رشْحَه ... طَلًاّ على وَرد وسَوْسَان
فكان في تَحليل أزْرارِه ... أقْودَ لي من ألفِ شَيطان
فُتِّحت الجنّةُ من جَيبه ... فبِتُّ في دَعوة رِضوان
مُروَءةٌ في الحُب تَنْهى بأنْ ... نُجاهِرَ الله بعصيان
قال ذو النسبين، ﵁: لقد أحسن هذا الشاعر ما شاء من الإحسان، لا سيما في قوله تنهى بأن نجاهر الله بعصيان.
أبو عمر الجياني
أحمد بن محمد بن فرج الجياني
ومن مليح هذا الباب، أعني الاتصاف بالعفاف، قول الأديب اللغوي النحوي، أبي عمر أحمد بن محمد بن فرج الجياني، صاحب كتاب الحدائق، ألفه للحكم المستنصر بالله، وعارض به كتاب الزهرة لأبي بكر محمد بن داود بن علي
1 / 4
الأصبهاني، إلا إن أبا بكر إنما ذكر مائة باب في كل باب مائة بيت، وأبو عمر
أورد مائتي باب في كل باب مائتا بيت، ليس منها باب تكرر أسمه لأبي بكر، ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئًا.
قال الحميدي في جذوة المقتبس له: قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: وأحسن الاختيار ما شاء وأجاد فبلغ الغاية، فآتى الكتاب فردًا في معناه.
فمن قوله:
بأيِّهما أناَ في الشُّكر باَدِي ... بِشُكرِ الطَّيف أم شُكْرِ الرُّقَادِ
سَرى فأرَادَه أمَلي ولكنْ ... عَفَفْتُ فلم أَنَل منه مُرادي
وما في النَّوم من حَرجٍ ولكن ... جريتُ من العفَاف على اعتيادي
1 / 5
لكن أخذه من قول المتنبي:
يَرُدُّ يدًا عن ثوبها وهو قَادر ... ويَعصى الَهوى في طَيفها وهو رَاقد
وأنشدوني أيضًا لأبي عمر الرمادي المذكور:
أحمامَةً فَوق الأراكة بَيِّني ... بحيَاة من أبكاكِ ما أبكاكِ
أمّا أنا فبكيتُ من حُرَق الهوى ... وفِراقِ من أهوى أَأَنتِ كذاك
أمة العزيز
وأنشدني أخت جدي الشريفة الفاضلة، أمة العزيز، ابنة الشريف الأجل العالم أبي محمد العزيز ن الحسن بن الإمام العالم أبي البسام موسى بن عبد الله ابن الحسين بن جعفر الزكي بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد، سيد شباب أهل الجنة، ابن أم أبيها فاطمة الزهراء البتول، سيدة نساء أهل الجنة، صلى الله على أبيها وعليها، ورضي الله عن بعلها وبنيها:
لِحاظُكُم تَجرحُنا في الحَشَى ... ولحظُنَا يجرحكُمْ في الخدودْ
جُرحٌ بجرح فاجعلوا ذَا بذَا ... فما الذي أوجَبَ جرْحَ الصُّدودْ
1 / 6
المعتمد بن عباد
وأنشدونا للمعتمد على الله أبي القاسم محمد ملك إشبيلية، وابن ملكها عباد:
لكِ اللهُ كم أودعت قَلبي أسهمًا ... وكم لكِ ما بين الجوانح من كَلْم
لحاظُكِ طولَ الدّهر حربٌ لمُهجتي ... ألا رحمةٌ تَئنيك يومًا إلى سَلْمِى
ولادة
وحدثني القاضي العدل أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الأنصاري، بقراءتي عليه بقرطبة أم بلاد الأندلس؛ في العشر الآخر من صفر سنة أربع وسبعين وخمسمائة، قال في كتاب الصلة له:
ولادة بنت المستكفي بالله؛ أمير المؤمنين، محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بت الناصر عبد الرحمن بن محمد المرواني، من بني أمية بأندلسي؛ أديبة شاعرة؛ جزلة القول، حسنة الشعر؛ وكانت تخالط الشعراء وتساجل الأدباء، وتفوق البرعاء.
1 / 7
سمعت شيخنا أبا عبد الله جعفر بن محمد بن مكي رحمة الله، يصف نباهتها وفصاحتها وحرارة نادرتها وجزالة منطقها وقال لي: لم يكن لها تصاون يطابق شرفها. وذكر لي أنها أتته معزية له في أبية إذ توفي ﵀ سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وتوفيت رحمها الله يوم مقتل الفتح بن محمد بن عباد يوم الأربعاء لليلتين خلتا من صفر سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ولم تتزوج قط، وعمرت عمرًا طويلًا إلى أيام المعتمد
قال ذو النسبين ﵁: كانت الحسيبة ولادة في زمانها واحدة أوانها، حسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة؛ منتدى احرار المصر، وفناؤها ملعبًا لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفزاد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، إلى سهولة حجابها، وكثرة
منتابها؛ تخلط ذلك بعلو نصاب، وسمو أحساب؛ على أنها - سمح الله لي ولها، وتغمد زللي وزللها - اطرحت التحصيل، وأوجدت إلى القول فيها السبيل؛ بقلة مبالاتها، ومجاهرتها للذاتها. كتبت - زعموا - على عاتقي ثوبها:
أَنَا واللهِ أصلُحُ للمعاليِ ... وأمشى مِشيَتِي وأتيهُ تِيهَا
وأُمكُن عاشقي من صَحْن خَدّي ... وأُعطِى قُبلتي من يَشْتَهيها
1 / 8
وكتبت إلى ذي الوزارتين أبي الوليد أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن زيدون المخزومي القرطبي:
ترقَّب إذا جنَّ الظَّلامُ زِيارتي ... فإني رأيتُ الّليلَ أكَتَم للّسِّر
وبِي مِنك ما لو كان بالبَدْر ما بَدا ... وبالليل ما أدْجَى وبالنَّجم لم يَسْرِ
إلى أن يقول ابن زيدون: وتبنا بليلة نجتني أقحوان الثغور، ونقطف رمان الصدور، فلما انفصلت عنها صباحا، أنشدتها ارتياحا:
ودَّع الصَّبْر محٌّب ودَّعَك ... ذائِعًا من سرّه ما استودَعكْ
يقَرُع الِّسَّن على أن لَم يكُن ... زادَ في تِلك الخُطَا إذ شَيَّعَك
يا أخَا البدر سَنَاءً وسَنًى ... حَفِظَ الله زَمانًا أطلَعك
إن يطُل بَعدَك ليَلِى فلَكَم ... بِتُّ أشكُو قِصَرَ الَّليلِ مَعَك
وله يتعزل فيها:
يا نازحًا وضميرُ القلب مثواهُ ... أنْسَتْك دنياكَ عبدًا أنت مولاهُ
ألهْتك عنه فُكاهاتٌ تَلذُّ بها ... فليس يَجري ببالٍ منك ذِكراه
عَلَّ اللّيالي تُبقِّيني إلى أمدٍ ... الدّهُر يعلم والأيّام معناه
1 / 9
وله فيها:
يا قَمرًا مطلعُه المغربُ ... قد ضاقَ بي في حُبِّكَ المذهب
فأنَّ من أعجب مَا مَرَّ بِي ... أنَّ عَذابي فيك مُسْتَعذب
ألزمْتَنْي الذّنَب الذي جئْته ... صَدقتَ فأصفح أيُّها المذنب
وقال:
ما بالُ خَدِّك لا يَزال مُضَرَّجا ... بدمٍ ولحظُك لا يزالُ مُرِيبَا
وقال فيها:
حَلَّيْتني بحُلًى أصبحت زاهية ... بها على كِّل أنثى من حُلًى عُطُلِ
لله أخلاقُكِ الغُرُّ التي سُقِيَتْ ... من الفُرات فرقَّت رِقَّةَ الغَزَل
أشبهِت في الشّعر من غَارَتْ بدائعه ... وأنْجَدت وغَدَتْ من أحسَنِ المُثل
من كانَ وَالدهُ العضْبَ المهَّنَد لَم ... يَلْد من النَّسل غيَر الْبِيِض والأسَل
حفصة بنت الحاج
من بشرات غرناطة، رخيمة الشعر، رقيقة النظم والنثر. أنشدني لها غير واحد من أهل غرناطة:
ثَنائي على الثَّنَايا لأنَّني ... أقولُ على عِلْمٍ وأنِطقُ عن خُبْرِ
وأُنْصفُها لا أكذبُ الله أنَّني ... رَشَفْتُ بها ريقًا ألذ من الخمر
1 / 10
ابنة زياد المؤدب
من أهل مدينة وادي آش، أنشدني الأديب أبو عبد الله محمد بن عيل الهمذاني قال، أنشدتني لنفسها:
أباحَ الدّمعُ أسرارِي بوادي ... به للحسن آثارٌ بَوادِي
ومن بين الظِّبَاء مَهاةُ رمْلٍ ... تبدَّت لي وقد مَلَكَتْ قِيَادي
إذا سَدَلَت ذَوَائِبَها عليْها ... رأيتَ الصُّبح أشْرقَ في الدَّآدي
تخالُ البدر مَاتَ له خَليلٌ ... فمن حُزْن تَسربَلَ بالحِداد
لها لحظٌ تُرَقِّدُه لأمر ... وذاك الأمُر يَمنَعُني رُقَادِي
الدآدي: ثلاث ليال من آخر الشهر، هكذا قال الإثبات من الغويين. وقال أحمد بن يحيى ثعلب: يقال لليوم الذي يشك فيه من الشهر الحرام: دأداء.
1 / 11
الحكم المستنصر
وأنشدونا الخليفة الأندلسي، الحكم المستنصر بالله صاحب الفتوحات العظيمة، والمعرفة بالعلوم الحديثة والقديمة، كتب به إلى مصر:
ألسنَا بني مَروان كيفَ تبدَّلَتْ ... بنا الدَّاُر أو دَارت علينا الدَّوائُر
إذا وُلد المولودُ منّا تهلَّلَت ... له الأرضُ وأهتَّزت إليه المنَابِرُ
وتوفي يوم السبت لثلاث خلون من صفر سنة ست وستين وثلاثمائة، وقد انقرض عقبه.
المعتضد بن عباد
وأنشدونا للسلطان المعتضد بالله أبي عمرو عباد بن محمد بن إسماعيل بن قريش ابن عباد اللخمي. والمعتضد هذا هو قطب رحى الفتنة، ومنتهى غاية المحنة؛ لم يثبت له قائم ولا حصيد ولا سلم من سيفه قريب ولا بعيد:
شَربنا وجفنُ الليل يَغسلُ كُحلَه ... بماء صباح والنسيْم رقيقُ
معَّتقة صفراَء أمّا نِجارُها ... فضخٌم وأما جسمُها فدقيق
1 / 12
وقال يخاطب الملك أبا الجيش مجاهد بن عبد الله، صاحب الجزائر ومدينة دانية. ويقال إنها من أبيات لكاتبه ذي المعارف والفنون، أبي الوليد ابن زيدون:
خِلّيِ أبَا الجيش هل يُقْضَي اللقاءُ لَنا ... فَيَشْتَفِى منك طرفٌ أنتَ ناظِرُهُ
شطَّ المزارُ بنا والدّار دانيةٌ ... يا حبّذَا الفألُ لو صحَّت زواجُره
قال ذو النسبين، ﵁: قوله والدار دانية من مليح التورية، وهي ضرب من صنعة البديع، ودانية: مدينة: مدينة كبيرة بشرق الأندلس، وهي مشتقة
من: دنا يدنو: إذا قرب.
وأنشدني شيخ الإتقان، وواحد أسانيد الفرقان، أبو العباس أحمد ابن عبد الرحمن اليافعي - ويافع بلياء المثناة باثنتين من أسفل، قبيلة من رعين - قال: أنشدني الأستاذ المقري: أبو داود سليمان بن يحيى، قال: أنشدنا الأستاذ الأعلى أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري الحصري القيرواني المكفوف
1 / 13
قال: دخلت على السلطان المعتمد على الله أبي القاسم محمد بن المعتضد بالله، حين مات أبوه، فأنشدته ارتجالًا:
مات عبّادٌ ولكن ... بَقَيِ الفرعُ الكريمُ
فكأنّ الميْتَ حَيٌّ ... غير أنَّ الضَّادَ مِيم
ونسبه: محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل بن قريش بن عباد بن عمرو ابن أسلم بن عمرو بن عطاف بن نعيم. وعطاف ونعيم هما الداخلان بالأندلس:
مِن بني المنذرين وهو اِنتَساٌب ... زادَ في فخره بنو عّبادِ
فئةٌ لم تَلدِ سواها المَعَالي ... والمعالي قليلَةُ الأولاد
وهذا النسب يطرد اطراد الشآبيب، ويتسق اتساق الأنابيب، إلى مركز الدائرة من لخم، وإلى قنص بن معد من ابنه عجم. ولد ﵀ بمدينة باجة، سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. وولي سنة إحدى وستين، وخلع سنة أربع وثمانين، وتوفي ﵀ في شوال لإحدى عشرة ليلة خلت منه سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. وخلع عن ثمانمائة امرأة، أمهات أولاد، جواري متعة، وإماء تصرف. وملك من البلاد بين مدن وحصون مائتي مسور، وإحدى
1 / 14
وثلاثين مسورا. وقد ذكرها الوزير أبو بكر محمد بن عيسى بن محمد اللخمي، الداني - يعرف بابن اللبانة - في كتاب نظم السلوك.
وأنشدونا للمعتمد، وقد ناوله بعض نسائه كأس بلور مترعا شرابا، ولمع البرق
فارتاعت، فقال بديهة:
رِيعت من البرِق وفي كفِّها ... برقٌ من القهوة لمَّاعُ
يا ليت شعري وهي شَمسُ الضّحى ... كيف من الأنوارِ تَرْتَاعُ
وأمر الأديب المصيب أبا محمد عبد لجليل بن وهبون بإجازة البيت الأول، فقال:
ولن تَرى أعجب من أنسٍ ... من مثل ما يُمْسِكُ يَرْتَاعُ
وهذا من نوادر الخواطر، وليس ينكر على هذا الشاعر. فمن جودة شعره ترتيب اللفظ فيه مع جودة معانيه، أولها المطابقة بلفظتي الأنس والارتياع، وتشبيه لمعان البرق يلمعان الخمر.
وقال المعتمد في السلطان عباد أبيه، من قصيدة كبير يمدحه فيه:
سميدعٌ يهب الآلافَ، مبتدئا ... ويستقلُّ عطاياه ويعتذرُ
له يدٌ كلُّ جبّار يقبِّلها ... لولا نَدَاها لقلنا إنَّها الحجرُ
1 / 15
يريد الحجر الأسود الذي يجب تقبيله على جميع الطائفين بالمسجد الحرام، على ما ثبت عن رسول الله عليه أفضل الصلاة وأشرف السلام. والسميدع، بفتح السين في لغة العرب: السيد.
وفضل يده على الحجر بما خصت به من الندى، وكثرة الجدي، ففضل يد الممدوح على الحجر الأسود وهذا من باب غلو الشعراء وإيغالهم، فيما ينمقون من زخارف أقوالهم؛ فشتان بين يديه وبين الحجر الأسود في الممات والمحيا، لأنه يشهد يوم القيامة لمن استلمه في الدنيا، وينال بذلك عند الله ﷻ المنزلة العليا.
وقال أيضًا في أبيه يسترضيه:
مولايَ أشكو إِليك داءً ... أصبح قلبي به قَريحَا
سُخطك قد زادني سَقَاما ... فأبعث إلىّ الرّضا مَسيحا
فقوله مسيحًا من القوافي التي يتحدى بها، لصعوبتها على من راماه وأدخلها هو في بابها، إذ كان المسيح بن مريم يشفي من العلل وأصابها.
وأدخل عليه يومًا بعض فتيانه باكورة نرجس، فكتب إلى ابن عمار يستدعيه:
قَد زارنا النَّرجسُ الذَّكيُّ ... وحانَ من يومنا العَشِىُّ
1 / 16
ونحنُ في مجلسٍ أنيقٍ ... وقد ظمِئَنا وثَّم رِيُّ
ولي نديمٌ غدا سمِّي ... يا ليتَه ساعد السَّمىُّ
فأجابه ذو الوزارتين أبو بكر محمد بن عمار:
لبّيك لبّيك من مُنادٍ ... له النَّدى الرّحبُ والنَّدِيُّ
ها أنا بالباب عبدُ قِنٍ ... قِبْلَتُه وجهُك السَّنِيُّ
شرَّفه والداهُ باسمٍ ... شرَّفته أنتَ والنَّبيُّ
وكتب أيضًا إلى أبي بكر بن عمار:
لمّا نأَيتَ نأى الكرى عن ناظري ... ورَدَدْتَه لما انْصَرَفْتَ عليه
طلب البشيرُ بشارةً يُجزي بها ... فرهبتُ قلبي واعتذرت إليه
أنا استحسن قول أبي فراس لسيف الدولة:
نفسي فداؤكَ قد بَعَثْ ... تُ بِعُهْدتِي بيد الرّسول
وجعلتُ ما ملكت يَدي ... صلَة المبشِّر بالمقبول
وقال ابن عباد:
تظنّ بنا أمُّ الرّبيع سآمةً ... ألا غفَر الرّحمنُ ذَنْبًا تُواقِعُهْ
أأهجرُ ظبيًا في فؤادي كناسُه ... وبَدرَ تمامٍ في جُفوني مَطالعه
إذًا هَجرتْ كفِّى نوالًا تُفيضه ... على مُعنفيها أو عدوًّا تُقَارِعه
1 / 17
وقال:
أكْثَرْتَ هَجري غير أنّك ربّما ... عطفْتك أحيانا علّى أمورُ
فكأنّما زمنُ التَّهاجُر بيننا ... ليلٌ وساعاتُ الوصالِ بدُور
وقال:
حكَّمَه في مُهجتي حُسْنُه ... فظلَّ لا يَعدِلُ في حُكْمه
أفْدِيه ما ينفعكُّ لي ظالما ... يا رَبّ لا يُجْزَي على ظُلْمِه
وله في جارية تسمى بوداد، وقد سافر عنها إلى تفقد بعض البلاد:
اشرِب الكأسَ في وِدَادِ ودادِكْ ... وتأنَّس بذكرها في انفِراِدكْ
قَمرٌ غاب عن جُفونك مَرْآ ... هُ وسُكناهُ في سَواِد فُؤادك
وقال من أبيات في فتاة يوم وداعها، عند تفطر كبده وانصداعها:
ولمّا التقينا للودَاعِ غُدَيَّةً ... وقد خَفَقَت في ساحة القصب راياتُ
بكينَا دمًا حتى كأنّ عُيونَنَا ... لجرى الدّموع الحُمر منها جراحاتُ
من هذا الباب قول الآخر:
بكيت دمًا حتّى لقد قال قائلٌ ... أهذا الفتى من جفن عينيه يرعفُ
1 / 18
ومن شعره الحسن وغرضه المستحسن:
ورُبَّ ساقٍ مُهفهف غَنِجٍ ... قام ليَسقى فجاء بالعَجَبِ
أبْدى لنا من لطيف حِكمته ... في جامِد الماء ذائَب الذَّهب
قال ذو النسبين، ﵁: أكثر الشعراء من وصفها بذوب الجامد، ووصف كأسها بجامد الذائب، فمن ذلك:
لاَح وفاحت روائحُ النّدِ ... مُهْتصُر الخصر أهيف القدّ
وكم سقاني واللّيلُ معتكٌر ... في جامدِ الماء ذائبَ الْوَرْدِ
وقال الصنوبري:
أقولُ والكأسُ على فِيه قَد ... صَّوَبها كالكوب الصَّائِبِ
وجسمُها من ذهب جامدٍ ... وروحُها من ذهبٍ ذائب
ذَا كوكٌب يغُرب في كَوكبٍ ... ويْليِ من الطَّالِع لاَ الغَارِب
ومما يقارب هذا الباب ما يروى من قول كسرى: ليست أدري، هل التفاح خمر جامد أم الخمر تفاح ذائب؟ أخذه الخليع، فقال:
الرّاحُ تفّاحٌ جرى ذائِبًا ... كذلك التُّفَّاح راٌح جَمدْ
فأشرب على جامده ذَوْبَه ... ولا تَدعْ لذَّةَ يوم لِغَد
1 / 19
وكل هذا من قول الشريف عبد الله بن المعتز العباسي:
وخمّارةٍ من بنات المجو ... سِ تَرى الدَّنَّ في بيتها شائلاَ
وزنَّا لها ذهبًا جامدا ... فكالت لنا ذهبا سَائلا
وقال الأستاذ أبو الحسن علي بن عبد الغني الحصري:
أقول لَه وقد حيَّا بكأسٍ ... لَها مِنْ مِسْك ريَّاُه خِتامُ
أمن خَدَّيك تُعصر قال كَّلا ... متى عُصرت من الوَرِد المُدام
حدثني بهذا الشيخ الإتقان، وواحد أئمة الفرقان، الفقيه الأستاذ أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن، سبط الأستاذ المعزول، قال: حدثني الفقيه الأستاذ أبو داود سليمان بن يحيى، قال: سمعت الفقيه الأستاذ أبا الحسن الحصري يقول.
قال ذو النسين رضى الله عنه: وسمعت الوزير الفقيه المحدث الكاتب العدل أبا عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عميرة، قال: سمعت الوزير الكاتب أبا نصر الفتح بن عبيد الله القيسي - هو ابن خاقان - يقول: أخبرني أبو بكر عيسى الداني، المعروف بابن اللبانة، أنه استدعاه المعتمد ليلة إلى مجلس قد كساه الروض وشيه، وامتثل الدهر فيه أمره ونهيه؛ فسقاه الساقي وحياه، وسفر له
1 / 20