فافتر ثغر الشيخ وارتاح إلى هذا الحديث، ثم قال: «يا بني، لولا الأغراض وتضارب الغايات لكنا الآن على ما نشتهي ونريد، ولكن ما نفعل بطلاب الوظائف وأرباب الألقاب وزعماء الجماعات ورؤساء الطوائف المتنابذة المتنافرة؟ هل يرضى أحد أن يكون للآخر ظهيرا فيهدم بذلك شخصيته، أو يخسر لقبه ويتخلى عن مقامه وعظمته الفارغة وزعامته الزمنية؟ سر يا بني أنت وأمثالك بحول الله، واطلبوا العلم أينما تجدونه، واجتهدوا في بث الدعوة إلى الاتحاد ونبذ التعصب الذميم، وحب التضحية في سبيل الغايات السامية، فكلما ازددتم عددا وزادت قوتكم قربنا من الغاية المطلوبة، وزال ما بين الطوائف من الجفاء.
اعلم أننا ما دمنا نعمل متفرقين طوائف متعددة مختلفة الغايات، وزعماؤنا يسعون للصعود على مناكب هذا الشعب المسكين إلى إدراك غاياتهم الشخصية، مضحين بالأمة في سبيل مطامعهم الذاتية، لا أمل لنا بالنجاح. ولكن يوم الشرق قريب؛ فسوف تفتح هذه الحركة العيون، ويدرك الزعماء أن تضحية النفس والنفيس في سبيل الوطن وإعلاء شأنه هي غاية الغايات، ويتعلم الشعب أن الاتحاد والتضافر على العمل هما الدعامة الكبرى لتحقيق أمانينا المشروعة، وإحلالنا بين شعوب الأرض الحرة في المنزلة التي نستحقها، ليتني كنت أعيش لأرى تحقيق هذه الأمنية!»
هذا ما دار من الحديث بين الشيخ وسليم، بينما كانت هيفاء تتسقط حديثهما من وراء ستار معجبة بآراء ذلك الشاب النبيل والشيخ الجليل.
الفصل الثاني
السماء صافية الأديم، والأرض مكسوة أبسطة خضراء، وقد برزت الطبيعة بأبواب الربيع البديعة، يزينها الزهر بكل لون زاه وشكل يروق للعين مرآه، ينبعث منه أريج العطر فتطيب به الأرجاء. إلا أن الإنسان الذي أوجده الله ليكون متمما لجمال الطبيعة لا يعرف كيف ينعم بالا ويسعد حالا بمثل هذه المناظر البديعة، فيزيدها حسنا وإبداعا ويتم مقاصد الله فيه.
هكذا كانت الحالة في البقاع في ذلك اليوم الجميل؛ فإن «المعلقة» مركز القضاء كانت غاصة بمئات الناس من شاكين ومشتكين وأرباب الدعاوى والوسطاء الكثيرين، وكان القائمقام غريب الدار من رجال العهد البائد، عرف بأخلاق الناس في تلك الجهة، فاستغل جهلهم وملأ جيوبه بالدراهم التي كان يجمعها من القضايا الكثيرة، التي كانت تنشأ لسبب أو لغير سبب معقول في كثير من الأحيان.
اجتمع أهل قرية العمروسة كلهم تقريبا هنالك، منهم المتهمون بأمر العصابات ومنهم الأهل والشهود، واجتمع عدد من وجهاء المسلمين الذين جاءوا ليتوسطوا في الأمر، وكذلك عدد من وجهاء المسيحيين الذين سئموا حوادث التعدي وأتوا يخاطبون القائمقام بشأنها، وبينهم المطران الذي زار القائمقام وألح بوجوب محاكمة المعتدين والتشديد عليهم، وإيقاع العقاب بهم؛ منعا لتكرار مثل هذه الجرائم المنكرة، وإلا رفع الأمر إلى قناصل الدول جمعاء.
هكذا كانت حالة القضاء المحزنة في ذلك اليوم العصيب، وبدلا من أن ينصرف القوم إلى أعمالهم، ويعمل أصحاب العقول منهم فيما يعود على البلاد بالخير، كان كل فريق منهم يسعى للإيقاع بخصمه، ويدبر له الحيلة للوقوع في حبائل الحكام، فكان كثير من الأبرياء يذهبون فريسة المساعي، ويفلت القتلة الأشرار من بين يدي العدالة، ويزدادون جرأة على الإيقاع بالخصوم، وتذهب حقوق الأبرياء الضعفاء ضياعا، وكان من بين المتهمين كثيرون من أهل العمروسة وشى بهم المفسدون فسجنوا بحجة أنهم من رجال العصابات، وأفلت سلمان أحمد وجماعته؛ لأنهم هم الذين دبروا هذه الوشايات وأوقعوا غيرهم في غيابات السجون.
وخاف القائمقام من تفاقم الشر، فدعا رجلا من وجهاء البلدة شديد الدهاء، جعله له شريكا وواسطة في أعماله العديدة، فأعرب له عما يخامره من الخوف إذا لم تنته هذه القضية كما يجب، وقال: «ما العمل يا شاكر أفندي والفريقان متشددان؟ إني أرى الخطر قريبا.» - لا خطر يا مولاي؛ فأنا أصرف لك هذه المسألة وتربح من الفريقين. - تبا لك! ماذا تقول؟ - أقول: إن المسألة ليست بذات بال، بل إن هنالك لنا صيدا. - وأي صيد تعني؟ - إننا نربح من المسلمين والمسيحيين على السواء ، ونرضي الفريقين.
قال: إذن أترك المسألة لك، ولكن حذار أن توقعنا في مشكلة جديدة، فأنا لم أجمع للآن ما يكفي لضمانة الحصول على مركز جديد إذا خسرت مركزي هذا بسبب سوء تصرفك إذا زدت النار اشتعالا.
অজানা পৃষ্ঠা