كان لهذا الحديث أفضل وقع في نفس هيفاء، وكانت تربيتها لا تسمح لها بالتمادي أكثر، وخافت أن تطيل مكثها لدى سليم فيحضر من يراها هنالك، فخرجت إلى غرفة ثانية؛ لترى من النافذة إذا كان أحد قادما، تاركة سليم غارقا في تأملاته، وقد شعر أن قلبه يخفق خفقانا شديدا.
لم ير بين جميلات زحلة وبيروت ممن عرفهن من ارتاح إلى رؤيتها، كما ارتاحت نفسه في تلك البرهة إلى حسناء العمروسة؛ فقد رأى في محياها الوسيم وجمالها الطاهر آيات من الجمال، يفهمها من قرأ سفر المحبة واطلع على أسرار الغرام.
فكأن في كل حركة من حركاتها وسكنة من سكناتها آية من الآيات التي تبهر العقل وتأخذ بمجامع النفس.
عادت هيفاء بعد أن تأكدت أن لا خطر عليها من البقاء بضع دقائق أخرى تسمع من أقوال سليم ما انغرس في فؤادها وطبع في ذاكرتها، وأحست أن هنالك قوة داخلية تدفعها إلى حيث كان، فلم تتأخر أن دخلت فبادرها بقوله: «ليتني كنت على غير هذه الحال فأقابلك كما تستحقين.» فتورد خداها؛ لأنها قرأت بين عينيه الوضاءتين ما كان يجول في خاطره، وللقلوب لغة تتفاهم بها دون أن تنطق الشفتان، ولكن الحب الشريف يقترن بالحشمة والعفاف، فيقف المحبان عند حد المودة والعفاف وهما مشمولان بالحب، تحيط بهما المسرة والهناء.
تذكرت هيفاء في تلك اللحظة الشاعر، فقالت: سمعت أنك تجيد النظم والشعر ريحانة النفوس، وكنت أود أن أسمع منك شيئا من منظومك، أو أحصل عليه مكتوبا فأتلوه في ساعات الوحدة، فليس كالشعر الرقيق محركا للنفس، منهضا للعزائم مرقيا للأفكار؛ ولذا تراني قد حفظت كل ما وقع تحت يدي من المنظوم، فأنا أحفظ أشعار الفارض ومنتخبات أشعار أدبية والبردة، وبعض الأشعار العصرية.
قال: وهل تقرئين الجرائد والمجلات العصرية؟
قالت: لا يوجد لدينا منها شيء إلا ما يقع تحت يدي عرضا من حين إلى آخر، فإذا توفقت إلى شيء من ذلك أتلوه بلهفة وشوق.
قال: سوف أهدي شقيقك جريدة يومية ومجلة شهرية وبعض الكتب الأدبية، فتستطيعين أن تطالعيها وتطلعي على أمور العالم إجمالا، فأكون قد وفيت بعض ما علي من الدين لهذا البيت الكريم.
قالت: «هذا خير ما أريد، وحبذا لو استطعت أن أدخل مدرسة عالية حيث أتلقى العلم الذي تتعطش إليه نفسي.» - خاطبي والدك بالأمر، فلا أخاله يرفض مثل هذا الطلب. - بل والدي لا يسمح بذهابي خارج المنزل إلا مع والدتي، أو صحبة الخادم العجوز التي ربتني، ولا يرغب في ذهابي خارج البيت إلا إلى الكرم أو البستان. - ليتني كنت أستطيع أن أخاطبه بشأنك. - إذن بي إليك حاجة. - وما هي؟ فإنني طوع أمرك. - هي أنني أرغب في الدخول إلى مدرسة عالية دون أن يعلم أحد من أهلي بمحل وجودي؛ لأنهم كلهم ضد فكرة تعليم البنات . - هذا ما لا أستطيعه؛ إذ أكون ناكرا للجميل، خائنا لعهد المودة والإخلاص؛ لأن الناس إذا عرفوا أن سليم إلياس اختفى بهيفاء الهلالي تقولوا بشأننا، وعدوا عملي خيانة. وفرارك مع أجنبي عار وشنار تلحق وصمته بوالديك الكريمين، ولا يصدق أحد أنك إنما سرت معي لغرض شريف وغاية نبيلة، فإذا كنت تطلبين العلم فخاطبي والدتك بالأمر لعلها تساعدك، وأنا أضمن لك مساعدة والدتي إذا قدر لك النجاح، ولي ابنة عم في مدرسة الأميركان تكون لك أعز من أخت، أو إذا شئت الدخول في أي مدرسة أخرى فكلنا نستطيع مساعدتك، وأنا أضمن نجاحك؛ لأنك وأنت بعيدة عن وسائل العلم ومناهل المعرفة تظهرين من الرغبة ما تظهرين رغم ما يعترض سبيلك من العقبات.
قالت: «إن أبي وأمي وأخي جميعهم يعتقدون أنني لم أخلق للمدرسة، وهم من الآن يهتمون في أمر زواجي، وأنا أكره إرغامي على الزواج بمن لا تروق عشرته لي ولا أزال صغيرة السن، فإذا أتيح لي فرصة للتعليم نلت ما تطمح إليه النفس.»
অজানা পৃষ্ঠা