وكما روي عن أبي بكر الصديق ﵁ أنه قال للكافر الذي سأله عن رسول الله ﷺ وقت ذهابهما إلى الغار: هو رجل يهديني السبيل، وقد صدق فيما قال ﵁، فقد هداه الله وهدانا السبيل، ولا سبيل أوضح ولا أقوم من الإسلام.
وكما حكي عن الإمام الشافعي ﵁ أنه لما سأله بعض المعتزلة بحضرة الرشيد ما تقول في القرآن؟
فقال الشافعي: إياي تعني، قال: نعم. قال: مخلوق، فرضي خصمه منه بذلك، ولم يرد الشافعي إلا نفسه.
وكما حكي عن ابن الجوزي رحمه الله تعالى أنه سئل وهو على المنبر وتحته جماعة من مماليك الخليفة وخاصته، وهم فريقان قوم سنية وقوم شيعة، فقيل له: من أفضل الخلق بعد رسول الله ﷺ أبو بكر أم علي ﵄، فقال: أفضلهما بعده من كانت ابنته تحته، فأرضى الفريقين ولم يرد إلا أبا بكر ﵁ لأن الضمير في ابنته يعود إلى أبي بكر ﵁، وهي عائشة ﵂، وكانت تحت رسول الله ﷺ، والشيعة ظنوا أن الضمير في ابنته يعود إلى رسول الله ﷺ وهي فاطمة ﵂، وكانت تحت علي ﵁، فهذه منه جيدة حسنة وكلمة باتت جفون الفريقين منها وسنة، والله أعلم.
الفصل الثالث في ذكر الفصحاء من الرجال
دخل الحسن بن الفضل على بعض الخلفاء وعنده كثير من أهل العلم، فأحب الحسن أن يتكلم، فزجره وقال:
يا صبي تتكلم في هذا المقام؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن كنت صبيا، فلست بأصغر من هدهد سليمان ولا أنت بأكبر من سليمان ﵇ حين قال: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ
»
، ثم قال: ألم تر أن الله فهم الحكم سليمان ولو كان الأمر بالكبر لكان داود أولى.
ولما أفضت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز، أتته الوفود، فإذا فيهم وفد الحجاز، فنظر إلى صبي صغير السن، وقد أراد أن يتكلم فقال: ليتكلم من هو أسن منك، فإنه أحق بالكلام منك، فقال الصبي: يا أمير المؤمنين لو كان القول كما تقول لكان في مجلسك هذا من هو أحق به منك، قال: صدقت، فتكلم، فقال: يا أمير المؤمنين: إنا قدمنا عليك من بلد تحمد الله الذي منّ علينا بك، ما قدمنا عليك رغبة منا ولا رهبة منك، أما عدم الرغبة، فقد أمنا بك في منازلنا، وأما عدم الرهبة، فقد أمنا جورك بعدلك، فنحن وفد الشكر والسلام. فقال له عمر ﵁:
عظني يا غلام. فقال: يا أمير المؤمنين إن أناسا غرّهم حلم الله وثناء الناس عليهم، فلا تكن ممن يغره حلم الله وثناء الناس عليه، فتزل قدمك وتكون من الذين قال الله فيهم وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ٢١
«٢» . فنظر عمر في سن الغلام فإذا له اثنتا عشرة سنة، فأنشدهم عمر رضي الله تعالى عنه:
تعلّم فليس المرء يولد عالما ... وليس أخو علم كمن هو جاهل
فإنّ كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفّت عليه المحافل
وحكي: أن البادية قحطت في أيام هشام، فقدمت عليه العرب، فهابوا أن يكلموه، وكان فيهم درواس بن حبيب، وهو ابن ست عشرة سنة، له ذؤابة، وعليه شملتان، فوقعت عليه عين هشام، فقال لحاجبه: ما شاء أحد أن يدخل عليّ إلا دخل، حتى الصبيان، فوثب درواس حتى وقف بين يديه مطرقا فقال: يا أمير المؤمنين إن للكلام نشرا وطيا، وإنه لا يعرف ما في طيه إلا بنشره، فإن أذن لي أمير المؤمنين أن أنشره نشرته، فأعجبه كلامه، وقال له: انشره لله درك، فقال: يا أمير المؤمنين إنه أصابتنا سنون ثلاث، سنة أذابت الشحم وسنة أكلت اللحم، وسنة دقت العظم، وفي أيديكم فضول مال، فإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم، فعلام تحبسونها عنهم، وإن كانت لكم، فتصدقوا بها عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين، فقال هشام: ما ترك الغلام لنا في واحدة من الثلاث عذرا، فأمر للبوادي بمائة ألف دينار، وله بمائة ألف درهم، ثم قال له: ألك حاجة؟ قال: ما لي حاجة في خاصة نفسي دون عامة المسلمين، فخرج من عنده وهو من أجلّ القوم.
وقيل: إن سعد بن ضمرة الأسدي لم يزل يغير على النعمان بن المنذر يستلب أمواله حتى عيل صبره «٣»، فبعث إليه يقول إن لك عندي ألف ناقة على أنك تدخل في طاعتي، فوفد عليه وكان صغير الجثة، اقتحمته عينه
1 / 56