والرأي غائبا عنهم، فقالوا: من الحزم عرض الرأي عليه.
فلما أخبروه بما أجمعوا عليه قال: لا أرى ذلك صوابا.
فسألوه عن علة ذلك فقال: في غد أخبركم إن شاء الله تعالى. فلما أصبحوا أتوا إليه وقالوا: قد وعدتنا أن تخبرنا في هذا اليوم بما عولنا عليه، فقال: سمعا وطاعة. وأمر بإحضار كلبين عظيمين كان قد أعدهما، ثم حرض بينهما وحرض كل واحد منهما على الآخر، فتواثبا وتهارشا حتى سالت دماؤهما، فلما بلغا الغاية فتح باب بيت عنده وأرسل على الكلبين ذئبا كان قد أعده لذلك، فلما أبصراه تركا ما كانا عليه وتآلفت قلوبهما ووثبا جميعا على الذئب فقتلاه. فأقبل الرجل على أهل الجمع فقال: مثلكم مع المسلمين مثل هذا الذئب مع الكلاب، لا يزال الهرج «١» بين المسلمين ما لم يظهر لهم عدو من غيرهم، فإذا ظهر تركوا العداوة بينهم وتألفوا على العدو. فاستحسنوا قوله واستصوبوا رأيه فهذه صفة العقلاء.
وأما ذم الأحمق: فقد قال ابن الأعرابي «٢»: الحماقة مأخوذة من حمقت السوق إذا كسدت فكأنه كاسد العقل والرأي، فلا يشاور ولا يلتفت إليه في أمر من الأمور.
والحق غريزة لا تنفع فيها الحيلة وهو داء دواؤه الموت.
قال الشاعر:
لكلّ داء دواء يستطبّ به ... إلّا الحماقة أعيت من يداويها
والحمق مذموم. قال رسول الله ﷺ: «الأحمق أبغض الخلق إلى الله تعالى إذ حرمه أعز الأشياء عليه وهو العقل» ويستدل على صفة الأحمق من حيث الصورة بطول اللحية لأن مخرجها من الدماغ، فمن أفرط طول لحيته قل دماغه، ومن قل دماغه قل عقله، ومن قل عقله فهو أحمق. وأما صفته من حيث الأفعال فترك نظره في العواقب وثقته بمن لا يعرفه، والعجب وكثرة الكلام وسرعة الجواب، وكثرة الالتفات والخلو من العلم، والعجلة والخفة والسفه والظلم والغفلة والسهو والخيلاء، إن استغنى بطر وإن افتقر قنط، وإن قال أفحش وإن سئل بخل، وإن سأل ألحّ، وإن قال لم يحسن، وإن قيل له لم يفقه، وإن ضحك قهقه، وإن بكى صرخ، وإن اعتبرنا هذه الخلال وجدناها في كثير من الناس، فلا يكاد يعرف العاقل من الأحمق.
قال عيسى ﵇: «عالجت الأبرص والأكمه فأبرأتهما، وعالجت الأحمق فأعياني» والسكوت عند الأحمق جوابه. ونظر بعض الحكماء إلى أحمق على حجر فقال: حجر على حجر.
وحكي أن أحمقين اصطحبا في طريق، فقال أحدهما للآخر: تعالى نتمن على الله فإن الطريق تقطع بالحديث.
فقال أحدهما: أنا أتمنى قطائع غنم أنتفع بلبنها ولحمها وصوفها. وقال الآخر: أنا أتمنى قطائع ذئاب أرسلها على غنمك حتى لا تترك منها شيئا. قال: ويحك أهذا من حق الصحبة وحرمة العشرة. فتصايحا وتخاصما، واشتدت الخصومة بينهما حتى تماسكا بالأطواق، ثم تراضيا من أن أول من يطلع عليهما يكون حكما بينهما، فطلع عليهما شيخ بحمار عليه زقان من عسل، فحدثاه بحديثهما، فنزل بالزقين وفتحهما حتى سال العسل على التراب، قال:
صب الله دمي مثل هذا العسل إن لم تكونا أحمقين.
وعن جابر بن عبد الله ﵁ قال: كان رجل يتعبد في صومعة فأمطرت السماء، وأعشبت الأرض، فرأى حماره يرعى في ذلك العشب فقال: يا رب لو كان لك حمار لرعيته مع حماري هذا، فبلغ ذلك بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم أن يدعو عليه، فأوحى الله إليه: لا تدع عليه فإني أجازي العباد على قدر عقولهم.
ويقال فلان ذو حمق وافر وعقل نافر ليس معه من العقل إلا ما يوجب حجة الله عليه. وخطب سهل هند ابنة عتبة فحمقته فقال:
وما هو جي يا هند إلّا سجيّة ... أجرّ لها ذيلي بحسن الخلائق «٣»
ولو شئت خادعت الفتى عن قلوصه ... ولا طمت في البطحاء من كلّ طارق «٤»
ويقال للإبله السليم القلب هو من بقر الجنة لا ينطح ولا يرمح، والأحمق المؤذي هو من بقر سقر «٥» والله سبحانه
1 / 23