ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك، فيستفيض الأخبار بها على غير حقيقة، فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة، وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل، ولا متنافسين في أهلها.
ومن الأسباب المقتضية له أيضا، وهي سابقة على جميع ما تقدم، الجهل بطبائع الأحوال في العمران. فإن كل حادث من الحوادث، ذاتا كان أو فعلا، لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته، وفيما يعرض له من أحواله. فإذا كان السامع عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب، وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض وكثيرا ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة، وينقلونها وتؤثر عنهم، كما نقله المسعودي عن الإسكندر لما صدته دواب البحر عن بناء الإسكندرية، وكيف اتخذ صندوق الزجاج وغاص فيه إلى قعر البحر حتى صور تلك الدواب الشيطانية التي رآها، وعمل تماثيلها من أجساد معدنية، ونصبها حذاء البنيان، ففرت تلك الدواب حين خرجت وعاينتها، وتم بناؤها في حكاية طويلة من أحاديث خرافة مستحيلة من قبل اتخاذه التابوت الزجاجي، ومصادمة البحر وأمواجه بجرمه، ومن قبل أن الملوك لا تحمل أنفسها على مثل هذا الغرور، ومن اعتمده منهم فقد عرض نفسه للهلكة وانتقاض العقدة، واجتماع الناس إلى غيره، وفي ذلك إتلافه، ولا ينظرون به رجوعه من غروره ذلك طرفة عين، ومن قبل أن الجن لا يعرف لها صور ولا تماثيل تختص بها، إنما هي قادرة على التشكل، وما يذكر من كثرة الرءوس لها، فإنما المراد به البشاعة والتهويل، لا أنه حقيقة، وهذه كلها قادحة في تلك الحكاية، والقادح المحيل لها من طريق الوجود أبين من هذا كله، وهو أن المنغمس في الماء ولو كان في الصندوق يضيق عليه الهواء للتنفس الطبيعي، وتسخن روحه بسرعة لقتله فيفقد صاحبه الهواء البارد المعدل لمزاج الرئة والروح القلبي، ويهلك مكانه، وهذا هو السبب في هلاك أهل الحمامات إذا أطبقت عليهم من الهواء البارد، والمتدلين في الآبار والمطافير العميقة المهوى، إذا سخن هواؤها بالعفونة ولم تداخلها الرياح فتخلخلها. فإن المتدلي فيها يهلك لحينه، وبهذا السبب يكون موت الحوت إذا فارق البحر. فإن الهواء الذي خرج إليه حار، فيستولي الحار على روحه الحيواني ويهلك دفعة، ومنه هلاك المصعوقين وأمثال ذلك.
ومن الأخبار المستحيلة ما نقله المسعودي أيضا في تمثال الزرزور الذي برومة، تجتمع إليه الزرازير في يوم معلوم من السنة حاملة للزيتون، ومنه يتخذون زيتهم، وانظر ما أبعد ذلك عن المجرى الطبيعي في اتخاذ الزيت.
ومنها ما نقله البكري في بناء المدينة المسماة ذات الأبواب، تحيط بأكثر من ثلاثين مرحلة، وتشتمل على عشرة آلاف باب، والمدن إنما اتخذت للتحصن والاعتصام كما يأتي، وهذه خرجت عن أن يحاط بها، فلا يكون بها حصن ولا معتصم.
وكما نقله المسعودي أيضا في حديث مدينة النحاس، وأنها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سلجماسة، ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب، وأنها مغلقة الأبواب، وأن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق ورمى بنفسه، فلا يرجع آخر الدهر في حديث مستحيل، عادة من خرافات القصاص، وصحراء سلجماسة قد نفضها الركاب والأدلاء، ولم يقفوا لهذه المدينة على خبر. ثم إن هذه الأحوال التي ذكروا عنها كلها مستحيل، عادة مناف للأمور الطبيعية في بناء المدن واختطاطها، وأن المعادن غاية الموجود منها أن يصرف في الآتية والخرثى، وأما تشييد مدينة منها فكما تراه من الاستحالة والبعد.
وأمثال ذلك كثيرة، وتمحيصه إنما هو بمعرفة طبائع العمران، وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار، وتمييز صدقها من كذبها، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع، وأما إذا كان مستحيلا فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح، ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللفظ وتأويله بما لا يقبله العقل، وإنما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية؛ لأن معظمها تكاليف إنشائية، أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها؛ وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط، وأما الأخبار عن الواقعات، فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة. فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه، وصار فيها ذلك أهم من التعديل ومقدما عليه؛ إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط، وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة.
وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر بالاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضا لا يعتد به، وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني، لا مدخل للشك فيه، وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه، وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه، وهذا هو غرض هذا الكتاب من تأليفنا.»
10
وفي كلام ابن خلدون ضعف ظاهر، ومصدر الضعف أن طبائع العمران التي ذكرها في مقدمته شيء أقل ما يقال فيه: إنه غير مستقر أو راهن. فما يتعلق من طبائع العمران بالطبيعة فقد انتظمت ظواهره وثبتت نواميسه، ويصح فيه تطبيق نظرية ابن خلدون كما سنبين في فصل آخر. أما ما يتعلق من طبائع العمران بالمجتمع البشري فلسنا نستطيع قبوله، وذلك أن العلماء لم يتمكنوا بعد من تعيين نواميس لعلوم الاجتماع كما فعلوا في العلوم الطبيعية، ولو تمكنوا فلن تكون نواميس ثابتة لا تتغير بل تقريبية.
الباب السابع
অজানা পৃষ্ঠা