إنَّ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ، وسِيرَ أَعْلَامِ الأُمَّةِ وعُلَمَائِهَا فَتَحَ المَجَالَ لِنُشُوءِ عِلْمِ الرِّجَالِ والتَّرَاجِمِ والطَّبَقَاتِ، ومَعْرِفَةِ تَارِيخِ الرُّوَاةِ، وتمْييزِ المُعَاصِرِينَ مِنْهُم مِنْ غَيرهم، وكَشْفِ المُتَشَابِه مِنَ الَأسْمَاءِ والكُنَى والَألْقَابِ والَأنْسَابِ، وتحْدِيدِ وَقْتِ الطَّلَبِ والِلِّقَاءِ، ومَعْرِفةِ شُيُوخِ الرَّاوِي وتَلَامِيذِه، وبَيَانِ سَنَةِ وَفَاتِه، وغَيْرِ ذَلِكَ، وكانَ لِهَذا العِلْمِ دَوْرٌ كَبِير في تَأْسِيسِ عِلْمِ لَهُ أَهَمِّيَةٌ جَلِيلَةٌ في التَّفْتِيشِ عَنِ الَأسَانِيدِ، وفَضْحِ الكَذَّابِينَ - ذَالِكُم هُو عِلْمُ الجَرْحِ والتَّعْدِيلِ، الذِي وَصَفَهُ إمَامُ هَذا العِلْم الحَافِظُ النَّاقِدُ عَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيّ بقولهِ: (مَعْرِفَةُ الرِّجَالِ نِصْفُ العِلْمِ). (١)
وَلِمَكَانةِ هَذا العِلْمِ وأَهَمِّيتهِ صَنَّفَ العُلَمَاءُ فيهِ مُصنَّفَاتٍ شَتَّى، ونَهَجُوا في تَرْتِيبِ مَوَادِّه مَنَاهِجَ مُتَنَوِّعَةٍ، وأَسَالِيبَ مُتَعَدِّدةٍ، فَمِنْهَا ما اقْتَصَرَ عَلَى التَّعْرِيفِ بالصَحَابةِ وَهِي كُتُبُ مَعْرِفةِ الصَّحَابةِ، ومِنْها ما زَاد على ذَلِكَ فَضَمَّنَ في كِتَابِه الصَّحَابةَ والتَّابِعِينَ والَأتْبَاعِ ومَنْ تَلَاهُم وَهِى كُتُبُ الطَّبَقَاتِ، ومِنْها ما اهْتَمَّ بِبَيَانِ دَرَجةِ تَوْثِيقِ الرِّجَالِ أَو تَضْعِيفِهم، وَهِي كُتُبُ الجَرْحِ والتَّعْدِيلِ التي تَنَوَّعتْ أَيضًا، فِمْنَها ما اقْتَصَر عَلَى ذِكْرِ الثِّقَاتِ فَقَطْ، ومنْها ما اقْتَصَر عَلَى ذِكْرِ الضُّعَفَاءِ فَقَطْ، في حِين جَمَعَ صِنْفٌ ثَالِثٌ مِنْها بينَ الثِّقَاتِ والضُّعَفاءِ، وبعدَ ذَلِكَ ظَهَرتْ مُصَنَّفَاتٌ في رِجَالِ الحَدِيثِ المَذْكُورِينَ في أَحَدِ مجَامِيعِ الحَدِيثِ، ورَكَّزَ المُصَنِّفُونَ الَأوَائِلِ عَلَى رِجَالِ مُوطَّأ مَالِكٍ، ورِجَالِ صحِيحِ البُخَارِيِّ، ورِجَالِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وبَقِيَّةِ رِجَالِ أَصْحَابِ الكُتُبِ السِتَّةِ، ورِجَالِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ وغَيرهم، وظَهَرتْ أَيْضًا تَوَارِيخُ الرِّجَالِ المَحَلِّيةِ مُنْذُ النِّصْفِ
_________
(١) رواه الرَّامَهُرْمُزي في (المُحَدِّث الفَاصِل بين الرَّاوي والواعي) ص ٣٢٠، والخطيب البغدادي في (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) ٢/ ٢١١.
المقدمة / 6