فجاءهم الرد من ملاحظ القطار يقول: «نريد معلومات وافية، ففي القطار ثلاثة عشر رجلا لا يعرفون أسماءهم ولا وجهات سفرهم!»
أما أنا فمتأكد أنني أعرف اسمي، ولكني لست متأكدا من معرفة وجهتي وطريقي «بالدرجة» التي يصفها الخطيب!»
وكثيرا ما يروح الضحك عن عطف، والابتسام عن رفق ولطف، والفكاهة عن إشفاق، والتصوير المرح لبعض المواقف - معوانا على حل المشكلات، وقضاء الأغراض، ومزيلا لما قد تأثرت به النفوس في الجماعات أو استولى منه اليأس على الجماهير، إذا هو استعين به في اللحظات الدقيقة والظروف المناسبة، أو اللحظة البسيكولوجية كما يقولون، وإذا لم يكن أيضا منطويا على سخرية من أحد الحاضرين أو استهزاء ببعض السامعين، فإن الضحك من الناس قد يجوز بين الأصدقاء والخلطاء، ولكن الضحك أو التعبير الفكه الذي يعمد الزعيم إليه ينبغي أن يقتصر على العموميات، ولا يتعدى إلى الشخصيات، فيكون مجرد فكاهات بسبيل الاستشهاد بالتجاريب الشخصية، أو تصوير للمواقف العامة.
وبين الزعماء فريق قليل من الذين آتاهم الله أرواحا خفافا، ونفوسا لطافا، وسحرا نفاثا، وتعبيرا حلوا جميلا ينفذ إلى الأعماق، وهؤلاء إذا خطبوا الناس أو تصدروا المجالس أو حضروا الندي، فلا يعدمون نوادر يمزجون بها خطبهم، وعبارات مونقة يلقونها في وسط كلامهم مما يناسب المقام ويلائم الظرف ويندمج في الموضوع، ثم لا يزال نجاح النكتة التي من هذا النوع، ومبلغ تأثير النادرة أو العبارة الفكهة التي من هذا القبيل، متوقفا على مقدار البراعة في الأداء، والمهارة في الإلقاء، وحسن الاختيار للمناسبة، وهذه لا تتواتى إلا للبرعة والظرفاء من الزعماء والقادة المحببين.
ولا يزال الناس في مصر يذكرون كيف كان سعد - رحمه الله - المتفوق في هذه الناحية، الفذ في هذا السبيل، فلم تكن خطبة له تخلو من فكاهة يضج لها السامعون ضحكا، ويدوي له الهتاف من أجلها غامرا الفضاء، ولعله كان أول من ذكر ذلك التعبير التهكمي البديع الذي سار من بعده مسار الأمثال، وهو قوله عن الذين كان يساق بهم مقرنين في الأغلال أو الحبال إلى ميادين العمل مع السلطات البريطانية في الحرب الماضية «متطوعو السلطة!»، فإن التعبير عنهم «بالمتطوعين» جد بديع، ونكتة ظاهرة، لما انطوت عليه من التناقض البليغ والمغالطة الفاضحة.
بل كم كان لسعد زغلول في سائر خطبه الرنانة من ألفاظ وكلمات خلدت تخليدا من بعده، فمن ذا الذي ينسى تعبيره عن سفر عدلي باشا للمفاوضة مع الإنكليز يوم كانت الخصومة محتدمة بشأن السفر ورياسة الوفد المسافر، وهو قوله: «جورج الخامس يفاوض جورج الخامس!» فقد عاشت هذه الكلمة الفذة إلى اليوم، ولا تزال مذكورة على الشفاه، وسوف تنحدر مع الزمن إلى الأجيال القادمة.
وثم كلمة أخرى له جاءت عفو الخاطر، ووقعت موقع المحز، وصادفت أنسب موضع، وذلكم قوله وقد انبرى الخطباء يلهجون بمديحه: «لقد أخجلتم تواضعي.» فإن هذا التعبير كما ترى بديع مونق لطيف الأداء، حسن الاستعارة، جديد المعنى، فاتن الثوب والغشاء والتلوين.
وكان لسعد في المواقف الخطيرة شجاعة رائعة تلهمه الكلمة النادرة، وتبعث في نفسه التهكم اللاذع، وتطلق مقوله بالفكاهة المرهفة، ومن أمثلة ذلك ما كان منه يوم دخل عليه في رياسة مجلس الوزراء لورد اللنبي وقد أقبل في عديد من الفرسان المسلحين يستبقه النفير يملأ الفضاء بصوته المرنان لكي ينذر سعدا ذلك الإنذار المعروف عقب حادث مصرع السردار، فقد تلقاه البطل الشجاع الثبت سعد قائد الحركة الوطنية في البلاد بكل سكينة وهدوء وابتسام مسائلا: ماذا ...؟! هل أعلنت الحرب ...؟! فلم يسع لورد اللنبي إزاء هذا التهكم البديع إلا أن يصمت حائرا مرتبكا قبل أن يستجمع نفسه من أثر هذه المباغتة غير المنتظرة.
فرانكلين روزفلت - رئيس جمهورية الولايات المتحدة.
وكانت مجالس سعد وأسماره تفيض بعذب الكلام، ولطف الحديث، وحلو الفكاهة، وكان منزله في مسجد وصيف أو بساتين بركات للاستجمام، فترات تجرد من التكاليف، وعيش نضير مع أضيافه الذين يصطفيهم لذلك ويأنس إليهم؛ فكانت تنعقد يومئذ جلسات بديعة، يشترك فيها الأصفياء من كل حلو الحديث، وبارع النكتة، وحاضر البديهة، ويلازمه خلالها الشاعر حافظ إبراهيم - رحمه الله - وكان من أبدع الناس كلاما وألطفهم مدخلا على القلوب، والدكتور محجوب ثابت بقافاته الحلوة، وعثنونه البديع، وكلماته النافية للهموم المروحات عن الصدور.
অজানা পৃষ্ঠা