وكذلك يقال عن الرحالة الرائد المشهور جون ويسلي إنه قطع على صهوة الخيل أكثر من مائتين وخمسين ألف ميل أو مسافة تعادل عشرة أمثال خط الاستواء، وإنه جعل يخطب ويعظ خمس عشرة مرة في الأسبوع باستمرار وانتظام زهاء خمسين سنة متوالية، وقد ظل خلالها يخوض المستنقعات، ويعبر الأنهار ويقرأ ويطالع وهو على صهوة جواده، حتى إذا بلغ الثمانين، جعل يشكو من أنه يستطيع أن يطالع ويقرأ أكثر من خمس عشرة ساعة في اليوم!
وقد وصف فيكتور هوجو بالنشاط والقوة البدنية المتناهية حتى لقد قال عنه أبوه إن شعر رأسه ولحيته كان أكثف من أشعار الناس ولحاهم كثيرا، حتى لقد كانت الموسي والمقص يتثلمان من خشونة شعره، وكانت له أسنان الذئب حدة، حتى ليكسر بها أجمد الجوز قشرا، وقد قال عنه الأديب فلوبير إن له قوة من الطبيعة وعصارة الشجر في دمه، وكانت خاصيته البادهة تناهي القوة والبأس كما كانت العافية تغمر بدنه وتفيض منه، وقد بقيت بشرته إلى شيخوخته متوردة بلون الشباب اصطباغا واحمرارا ...!
وإن التغلب على العقبات وتخطي الصعاب والحوائل، واجتياز الحواجز والموانع، لهي جميعا من أسرار الزعامة وصفاتها البارزة، وإن أكثر انتصاراتها لهي نتيجة العزم المستحصد، والإصرار المستأسد، والنية النافذة، ومن يرد النجاح قويا دءوبا مثابرا مصرا مصمما، يأته النجاح في النهاية مهما لاقى على طريقة، وقد قال الزعيم بوكر واشنطن محرر الزنوج في أمريكا: لقد بدأت كل شيء بهذه الفكرة، وهي أنني أستطيع أن أبلغ النجاح، وكان مقياس السمو عنده والرفعة وإتيان العظائم والجسام خليقا بالتدبر، حريا بالإعجاب به والتقدير، إذ كان يذهب إلى أن النجاح لا يقاس بالمركز الذي وصل المرء إليه، بل بالعقبات والصعاب التي تغلب عليها واجتازها في سبيله إلى ذلك المركز.
فيكتور هوجو - في منفاه.
وفي الحق إن التشبث بالغرض صفة عالية تقترن بالعظائم، وتلازم العزمات القوية المثابرة، ولا تطيق الفتور والوني والتثبيط، ولا تعرف اليأس والقنوط والتسليم، وكلما اشتدت المعركة وحمي الوطيس ، اتقدت العزمة والتهبت المشاعر واستعر الوجدان وازداد الكر والفر والإقدام.
وكثيرا ما يجد النشاط العظيم مضطربه في الشجاعة الدافعة الجليلة التي تستفيض إلى الزعامة وتبلغ مواضعها، وتلك هي الشجاعة التي لا تخشى شيئا ولا تنزوي متراجعة من أمر مهما تعاظمها، بل إنها لتسير حتى إلى التضحية والاستشهاد في سبيل فكرة رفيعة أو مبدأ عظيم أو قضية عامة خطيرة الشأن بقدم ثابتة، وأحسب هذا النوع الروحي من الشجاعة مقدسا؛ لأنه يكتسب شيئا من قداسة الدين، ويصبح إيمانا لا يتزعزع ويقينا لا يهن، ولو راجعت قوائم الضحايا والشهداء لأدركت أن الدافع الذي احتثهم على التضحية بأرواحهم من الجلال بحيث يلوح أشبه شيء بالدوافع الدينية، وكم من امرئ واجه خصومه بشجاعة فجردهم من أسلحتهم وقلم من أظفارهم، وأطفأ من حدة خصومتهم، وشدة لددهم، بفضل شجاعته وقوة إقدامه.
ولطالما كانت الشجاعة في مواجهة الأعداء والخصوم هي الصفة البارزة في أخلاق كثير من الزعماء الناجحين، وهذه الشجاعة التي تلازمها المثابرة ويصاحبها الدأب والثبات، تجد غذاءها بلا ريب من معين النشاط ووفرة القوى البدنية، إذ ليس شيء هو أشد تأثيرا فيها، وأذهب لمدخرها من التعب والكلال والجهد وتراخي البدن، وإن إشراق الطلعة ونشاط المظهر ومداومة المجهود، إنما تستمد من قوى لا تعود إلى الأذهان بقدر ما تعود إلى الجسوم والأبدان، وساعة يبتدئ الزعيم يسائل نفسه: هل هذا الذي أحاوله خليق بأن يحاول؟ يكون الرجحان في أمره أنه بلا شك قد أصبح بحاجة إلى الراحة والاعتزال! •••
وليس في الدوافع المختلفة التي تحرك الناس في إثر الزعيم دافع هو أعظم أثرا من أن يجدوه أمامهم في المواقف الرهيبة، والأحداث الكبار، متقدما مستبقا حمالا للأعباء الثقال متزن الخطى أمام صفوفهم وهم من خلفه تابعون، إذ يوم يشهدون ذلك منه لا يبقى فيهم فرد متخاذل ولا امرؤ متراجع الخطوات، بل كلهم يومئذ متقدم منبعث إلى حمل مسئوليته والاضطلاع بواجبه ومهمته.
ألا إن الرجل الذي يخشى حمل المسئولية عن نفسه وعن الآخرين لا يمكن أن يكون زعيما، ولا أن يروح يوما على الطريق المؤدية إلى الزعامة، فلا معدى عن المخاطرة وتحمل الأخطار، وإطاقة الأعباء الكبار؛ لكي يكون المرء زعيما ويتصدى لقيادة الناس، وإن كان من الحكمة ألا يجازف المرء ولا يخاطر إلا وهو عالم بمبلغ ذلك وشأنه وحقيقته وحد خطره.
إن تحمل المسئولية الشخصية حتى إلى حد المخاطرة بالحياة هو ميسم الزعامة وعنوان العظمة وصفة القادة الشجعان المغاوير المكافحين، ويوم قال الناس للعلامة باستور وهو يشتغل بالبكتريا - أو الجراثيم المعدية الفاتكة: إن هذا العمل الذي تتولاه خطر شديد العدوى، لم يكن جوابه غير أن قال: «وماذا يهم هذا أو يعني؟! إن الحياة وسط الأخطار هي والله الحياة، بل هي الحياة الحقيقية، حياة التضحية، حياة المثل والقدوة والأسوة، الحياة المثمرة المنتجة النافعة ...!»
অজানা পৃষ্ঠা