وربما عرض يوما لفرد يعيش في نعماء ويتقلب في سراء ويحيا في حجر الآلهة - كما يقولون - ما يحفزه إلى قلب حياته وتغيير مجرى عيشه، وقد برز هذا بجلاء في حياة الفيلسوف العظيم «تولستوي»، إذ كان لا يزال بعد طالبا في الكلية، ففيما هو عائد ذات ليلة من مرقص في صميم الشتاء، والزمهرير شديد يهرأ الأبدان، إذ رأى سائق مركبته وكان في انتظاره قد جمد في مكانه من شدة القر؛ فتأثر بمشهده على تلك الصورة أشد التأثر، ومضى وهو في المركبة عائد إلى داره يسائل النفس قائلا: لماذا ينعم هو الذي ما أحسن يوما في حياته، ولا عمل صالحا، ولا أجدى على المجتمع، بكل المناعم والمزايا التي هو بها مستمتع، بينما هذا السائق وأمثاله من أبناء الشعب الذين يؤدون أشق الأعمال، ويحملون المجتمع كله على أكتافهم، يعيشون جياعا تطحنهم الفاقة ويهرؤهم الزمهرير؟! فلم تلبث هذه النجوى أن أولدت حافزا قويا في نفسه، حمله على أن يتنازل عن فكرة الفروق بين الطبقات، وجعل منه فيلسوفا جديدا ونصيرا للفلاحين، ومتحدثا باسم الجماهير، وذوادا عن حقوق الشعب في الوجود والحياة.
توماس إديسون - زعيم المخترعين.
وكان نبوغ المخترع العظيم توماس إديسون راجعا إلى تأثير حادث صغير عرض له في دور الحداثة، وذلك أنه كان يشتغل ببيع الصحف في القطر ومركبات السكة الحديد، ففي ذات مرة وإنه ليخترق القضبان إذ بصر بطفل يلهو عن كثب، وقد أوشك قطار قادم مسرعا أن يدهمه، فألقى إديسون برزمة الصحف جانبا في مثل ومضة البرق، وعدا نحو الغلام فاحتمله قبيل أن يدهمه القطار، ومضى به إلى أبيه، وكان هذا ناظر المحطة، فأراد أن يجزيه أجر ما أحسن إليه، فأذن له بالجلوس في كل يوم بضع ساعات في مكتب التلغراف أو كشك الإشارات ليتعلم هذا الفن على عماله، فكان ذلك الحادث هو الذي أولد في نفسه الدافع القوي الوثاب الذي جعل منه على الدهر أكبر المخترعين في العصر الحديث.
ويمتد بنا نفس الحديث وتترامى حدود الكتاب، إذا نحن فصلنا الأمثلة على تولد الدوافع فجأة ونقط الدوران في حياة النوابغ والعظماء، فحسبنا أن نجمعها جهد الحصر، ونعرضها في غير تمثيل.
فقد يكون المرض باعثا، وقد تكون الهزيمة الأولى في مطامع الحياة العملية دافعة إلى التغيير وتجديد القوى والعزمات، وقد تكون سرعة الملل من الدوافع التي تدفع بالفرد إلى الاهتداء إلى الأمر الذي يرضيه، أو الطريق الذي يسهل عليه السير فيه، أو الاتجاه الدائم له، أو الصناعة التي يحسن فيها أعجب الإحسان.
وفي أحلام الشباب، وتصورات الحداثة، وأماني الصبا، أقوى البواعث والدوافع إلى النبوغ وإحداث العظائم، والإجداء على الإنسانية والإحسان إلى الجماعات ...
الصفات والخواص المشاهدة في الزعامة والزعماء
وينبغي أن تتوافر في الزعامة وأهلها من عظماء الرجال وقادة الجماعات صفات معينة، وخواص نفسية كثيرة، ولسنا نعني بوجوب توافرها أن كل زعيم يتحتم أن تجتمع لديه بجملتها، ولا أن كل نوع من أنواع الزعامة في الناس يقتضي احتشاد هذه الصفات لديه جميعا؛ وإنما نحن فيما نورده في هذا الباب من ذلك مستقرئون تراجم العظماء، مثبتون الصفات والمواهب التي ظهرت في خلق كثير من الزعماء، مستدركون هذا الاستدراك لخطأ الذهاب إلى التعميم؛ لأن الواقع هو أن بعض ضروب الزعامة قد يحتاج إلى هذه الصفات، والبعض الآخر قد لا يكون بحاجة إلى هذه الخواص مجتمعة متوافرة.
لقد دلت دراسة سر الزعامة الناجحة على أن التفوق الشخصي ينبغي أن يكون من لوازمه وبواعثه وأسبابه، توافر مقدار غير اعتيادي من النشاط البدني وقوة الأعصاب، فإن الذين ينهضون نهوضا غير مألوف فوق سواد الناس وجمهرة الخلق يشاهدون عادة أملك للانبعاث، وأقوى جسوما، وأحضر نشاطا، وأمتن أعصابا، وأعظم جلدا من الأفراد الاعتياديين؛ إذ ثبت أن المقدرة على التأثير في الناس راجعة إلى المقدار الذي يملكه الزعيم من هذه الصفة؛ فإن النشاط يحفز النشاط، والقوة تلهم القوة، وليست حماسة الجماهير إلا وليدة المقدرة الغزيرة في زعمائهم، والنشاط الحي الزاخر عند قادتهم، وكل إنسان منا بلا ريب قد أدرك من سير حياته كيف أن تأثير عمله ومقدرته على الدأب، واسترواحه إلى الكد والمتابعة، مرتبط بحالته العصبية، ومبلغ قوته ومدخر نشاطه، وأن التراخي وسرعة الشعور بالتعب ووشيك الإعياء من أقل الجهد وترك العمل يسير وئيدا على هونه - هي أعدى أعداء الزعامة، وصفات معطلة لها، وأعراض تنفي وجودها، وترسل عليها أقتم الظلال والألوان.
وينبغي ألا ننسى أن من أهم مقتضيات الزعامة في تأدية دورها كمنشط للجماعة، وملهم القوة للأنصار والأتباع، ومستثير للحماسة ومشعل للنفوس، أن تكسب نشاطها ألوانا من الحمية، وتلبسه ثوبا من القوة والحيوية، ويحسن لهذا بالزعيم أن يعنى بمظهره الشخصي؛ ليكون مظهره توكيدا لقوته وشدة بأسه ومراسه، والنشاط الزاخر في كيانه، ومما يساعد على إثارة الحماسة في نفوس الناس أن يبدو زعيمهم مليئا بالقوة، مترعا بالنشاط، مفعما روحا وشبابا وحياة.
অজানা পৃষ্ঠা